تصدّر مواد الإعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عن هيئة الأمم المتحدة سنة 1948م النص على أن ((جميع الناس يولدون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق)) (م/ 1).
وقد أكد الإعلان ((المساواة المطلقة من بني الانسان في التمتع بالحقوق والحريات الواردة في الإعلان دون تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر)) (م/ 2). ثم قرر الإعلان حق كل إنسان أينما وجد ((في أن يعترف بشخصيته القانونية)) (م/ 6). كما قرر مساواة الجميع أمام القانون وحقهم في التمتع بحمايته على وجه التكافؤ دون تفرقة وكذلك حقهم في الحماية من أي تمييز يخل بالإعلان العالمي لحقوق الانسان ومن أي تحريض على هذا التمييز (م/ 7). وعرضت المواد التالية من الإعلان لحقوق الشخص القضائية مثل اللجوء للمحاكم، وضمان عدم الاعتقال التعسفي، والمساواة في ضمان حق التقاضي أمام محكمة نزيهة عادلة وفي محاكمة علنية، وبراءة المتهم حتى تثبت إدانته قانوناً بمحاكمة علنية تؤمن فيها الضمانات الضرورية للدفاع، وعدم إدانة شخص إلا بناء على نص وطني أو دولي يقرر التحريم وقت ارتكاب الفعل أو الالتزام بالعقوبة المقررة في ذلك الوقت (م/ 8 ـ 11).
وقد قرّر الاسلام الشخصية القانونية للرجل والمرأة على السواء (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً) (النساء/ 7)، (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن)(النساء/ 32)، (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف.. والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها، لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده، وعلى الوارث مثل ذلك، فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) (البقرة/ 232 ـ 233)، (يا أيها الذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً* وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً، أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً)(النساء/ 19 ـ 20).
وقد فصّل الفقهاء أحكام الأهلية المدنية والمسؤولية الجنائية، ولم يهملوا أهلية الصبي المميز وغير المميز بل وحتى حكم ما يكون للجنين. وقد تضمنت رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في القضاء تعديل جميع المسلمين بقاعدة أصيلة حيث قررت ((المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرّباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو نسب)) ولقد ورد في القرآن الكريم (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) (النور/ 4).
ويقرر الإمام ابن حزم بأن ((شهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره ويلي القضاء، وهو كغيره من المسلمين ولا يخلو من أن يكون عدلاً فيقبل فيكون كسائر العدول أو غير عدل فلا يقبل في شيء أصلاً. ولا نصّ في التفريق بينه وبين غيره ـ وهو قول أبي حنيفة والشافعي ـ أحمد وإسحاق وأبي سليمان وهو قول الحسن والشعبي وعطاء بن أبي رباح والزهري وروي عن ابن عباس. وروي عن نافع: لا تجوز شهادته. وقال مالك والليث: يقبل في كل شيء إلا في الزنا، وهذا فرق لا نعرفه عن أحد قبلهما. قال الله: (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم)، (وإذا كانوا إخواننا في الدين فلهم ما لنا وعليهم ما علينا) )).
ومبدأ المساواة أمام شريعة الله مقرر في الاسلام بأجلى بيان، أخذاً من المساواة العامة للمسلمين، ومن نصوص أخص. من ذلك حديث رسول الله (ص): ((والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها. إنما أهلك مَن كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد)) وكان عليه الصلاة والسلام قد استشفع لديه في عدم توقيع الحد فاستنكر ذلك وصاح بمحدثه: ((يا أسامة، تشفع في حدّ من حدود الله؟)).
ومن أحكام القرآن العامة: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً)(النساء/ 135)، (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)(المائدة/ 8).
ويتمتع أهل الذمة من رعية دولة الاسلام بالمساواة أمام القانون والقضاء، فقد صرّح الفقهاء بأن الذمي هو ((من أهل دار الاسلام))، ودار الاسلام هي التي تكون تحت سلطة حاكم الاسلام وشريعة الاسلام ولو كان أهلها أو غالبهم غير مسلمين إذ ((يكفي كونها في يد الإمام وإسلامه)). ويجري على أهل الذمة أحكام الاسلام، ويتمتعون بحقوقهم كما يلتزمون واجباتهم وهم في حماية دولة الاسلام. روى نافع عن ابن عمر قال: كان آخر ما تكلم به النبي (ص): ((احفظوني في ذمتي)). كما روى عنه ((مَن آذى ذمياً أو معاهداً فأنا خصمه يوم القيامة)).
وقد ذكر الفقهاء أن أهل الذمة ((إذا تشاجروا في دينهم واختلفوا في معتقدهم لم يُعارَضوا فيه ولم يُكفوا عنه، وإذا تنازعوا في حق وترافعوا فيه إلى حاكمهم لم يمنعوا منه، فإن ترافعوا فيه إلى حاكمنا حكم بينهم بما يوجبه دين الاسلام وتقام عليهم الحدود إذا أتوها. ومن نقض منهم عهده أبلغ مأمنه ثم كان حربياً. ولأهل العهد إذا دخلوا دار الاسلام الأمان على نفوسهم وأموالهم..)).
وكما يلتزم الذمي بالواجبات يتمتع بالحقوق ومنها رعاية الدولة الاجتماعية. وقد لقي الخليفة عمر بن الخطاب يهودياً يسأل فأرسل إلى خازن بيت المال، فقال: أنظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) والفقراء هم المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عمر عنه الجزية وعن ضربائه. وقد لا يأخذ الذمي من أموال زكاة المسلمين خاصة عند الفقهاء ولكن ينال حقه من الموارد الأخرى لبيت مال المسلمين مثل الفيء كما يرضخ له من الغنيمة إذا شهد القتال مع المسلمين ((قال أبو عبيد –القاسم بن سلام-: وإنما كرهت العلماء إعطاءهم من الزكاة خاصة فيما نرى لسنة النبي (ص) حين ذكر صدقات المسلمين، فقال: تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فجعلها (ص) واجبة لهم دون سائر الملل فهذا هو الأصل فيه وله.. فأما غير الفريضة فقد نزل الكتاب بالرخصة فيه وجرت به السنة.. عن ابن عباس قال: كان انس لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم على الاسلام فنزلت (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي مَن يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).. وعن سعيد بن المسيب أن رسول الله تصدق على أهل بيت من اليهود فهي تجري عليهم (أي بعد وفاته عليه الصلاة والسلام).. وتصدقت صفية زوج النبي (ص) على ذوي قرابة لها فهما يهوديان فبيع ذلك بثلاثين ألفاً.. وعن عبدالله بن مروان قال: قلت لمجاهد: إن لي قرابة مشركاً ولي عليه دين أفأتركه له؟ قال: نعم وصله.. وعن ابن جريج في قوله تبارك وتعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) قال: لم يكن الأسير يومئذ إلا من المشركين.. وعن أبي إسحاق عن أبي ميسرة، قال: كانوا يجمعون إليه صدقة الفطر فيعطيها أو يعطي منها الرهبان.. وعن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل ومرة الهمداني أنهم كانوا يعطون للرهبان صدقة الفطر. قال أبو عبيد: وإنما نراهم ترخصوا في هذا لأنه ليس من الزكاة إنما هو من السنة)).
وروي عن خالد بن الوليد في شأن عهده لأهل الكتاب بالحيرة: ((.. فإن فتح الله علينا فهم على ذمتهم لهم بذلك عهد الله وميثاقه أشد ما أخذ على نبي من عهد أو ميثاق وعليهم مثل ذلك لا يخالفوا.. وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الاسلام)).
ولأهل الذمة أمام القضاء حقوقهم المقررة دون تمييز بينهم وبين المسلمين قد تقدم أن آيات الله نزلت لتبرئة يهودي من تهمة زور وهي تدين المدعين بالكذب من المسلمين (النساء/ 105 ـ 115). وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري ضمن رسالته في القضاء: ((آس ـ أو واس ـ أو سوِّ ـ بين الناس في خلقك وعدلك. ووجهك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك))، وروي أنه كتب إلى أبي عبيدة ابن الجراح بالشام: ((إذا حضرك الخصمان فعليك بالبينات العدول والأيمان القاطعة، ثم اذن للضعيف حتى تبسط لسانه ويجترئ قلبه، وتعهد الغريب فإنه إذا طال حبسه –أي بقاؤه مغترباً في البلد محل دار القضاء بعيداً عن بلده- ترك حاجته وانصرف إلى أهله.. واحرص على الصلح ما لم يستبن لك القضاء)).
ولقد روي ان عبدالله بن رواحة ذهب من قبل النبي (ص) إلى أهل خيبر ليأخذ ما عاهدوا عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام من ثمار زروعهم فكان مما قاله لهم: ((والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ.. وما يحملني حبي إياه ولا بغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض)). وكان ((يخرص عليهم ثم يخيرهم أي النصفين شاءوا، أو يقول لهم: اخرصوا أنتم وخيروني، فيقولون: بهذا قامت السماوات والأرض)). ولقد روي عن علي بن أبي طالب أنه أنكر أن يفرد بالخطاب بكنيته في مجلس القضاء في حين لم يخاطب خصمه اليهودي بكنيته، وفي النداء بالكنية تكريم ينبغي ألا يميز به طرف عن الآخر في الدعوى. كذلك سمع القاضي أبو يوسف دعوى يهودي على الخليفة هارون الرشيد. وينبغي للقاضي ألا يكون فكرته عن القضية إلا بعد الاستماع إلى الخصمين جميعاً دون تفرقة. ولقد كان من وصية الرسول (ص) لعلي بن أبي طالب حين بعثه إلى اليمن: ((.. فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول..)). وروي عن المنذري: ((إذا أتاك أحد الخصمين وقد فقئت عينه فلا تقض له حتى يأتيك خصمه فلعله قد فقئت عيناه جميعاً)).
كذلك فإن الحاكم الأعلى لدولة الاسلام مسؤول مسؤولية كاملة مدنية وجنائية، ويقيم الحد عليه من ولي الحكم عنه إذ زنى مثلاً دون أن ينعزل كما ذكر القفال من الشافعية ويستوفيه بعض نوابه.
وأحكام الاسلام تقوم على شريعة ثابتة معلنة أصولها في القرآن الذي يتعبد بتلاوته وتدبره وفي السنة التي ينبغي أيضاً تعلمها وتعليمها. وتبيين هداية الاسلام العقيدية والأخلاقية والشرعية أساس لتحميل الشخص مسؤوليته القانونية (ومَن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى)(النساء/ 115)، (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون)(التوبة/ 115)، (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم)(محمد/ 32)، (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)(الإسراء/ 15).
وإنما يتقرر الالتزام القانوني بناء على النص الصحيح في حجيته ودلالته (وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تُبدَ لكم) (المائدة/ 101). وما سبق على ورود النص معفو عنه (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم.. وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف)(النساء/ 23)، (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم.. عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه)(المائدة/ 95)، وفي الحديث الصحيح: ((إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها)).
وشريعة الاسلام تحجز المؤمنين عن ركوب متن الشطط والغلو في التأثيم والتجريم، فالله تعالى يعلم عباده (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة)(النور/ 19). ولقد ورد ((ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة))، وفي الحديث: (ادرأوا الحدود بالشبهات))، وروي عن عمر ((لأن أعطل الحدود في الشبهات خير من أن أقيمها في الشبهات)) ودرء الحدود بالشبهات مما يؤكد أن قاعدة الاسلام هي أن الأصل هو براءة المتهم، وأن إدانته تحتاج إلى إثبات قوي لأنها خلاف الأصل، ولذلك تنهار التهمة لأدنى شبهة. وقرر الأصوليون قاعدة (البراءة الأصلية) إعمالاً لاستصحاب الحال، فالأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره والأصل في الانسان البراءة. ومهما قيل في تأصيل (الاستصحاب) وما إذا كان مصدراً شرعياً أو مجرد حجة، وأنه حجة دفع لا حجة إثبات كما قرر الأحناف لأنه حجة بقاء ما كان على ما كان ودفع ما يخالفه حتى يقوم دليل على المخالفة وأن الحجة في الحقيقة هي ما ثبت بها الحكم السابق لأن الاستصحاب هو استبقاء دلالة هذه الحجة على الحكم المستند إليها فإن (البراءة الأصلية) تبقى قاعدة لها أهميتها سواء استندت إلى مصدر شرعي أو كانت مجرد حجة، وسواء أكانت الحجة حجة إثبات أو لمجرد الدفع. هذا وإن درء الحدود بالشبهات قد يأتي نتيجة تحقيق القاضي لظروف المتهم الفردية، وقد يأتي نتيجة تحققه من وجود ظروف اضطرارية طارئة عامة، ذلك أن من الأصول الشرعية أن الضرورات تبيح المحظورات (.. وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه)(الأنعام/ 119)، (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)(البقرة/ 173)، (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم)(المائدة/ 3)، وقاعدة الشريعة في كل أحكامها أنها تتبع الوسع والاستطاعة على أن يكون تقدير ذلك بإخلاص وأمانة ومراقبة لله الذي لا تخفى عليه خافية (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)(البقرة/ 283)، (وانظر أيضاً البقرة/ 233، الأنعام/ 152، الأعراف/ 42، المؤمنون/ 62)، (فاتقوا الله ما استطعتم)(التغابن/ 19)، (لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها) (الطلاق/7).
وقد أعفى عمر من الحد غلاماً عند قوم من مزينة اتهم بالسرقة تأسيساً على أن المعروف عن قومه إنهم يجيعون غلمانهم حتى إن أحدهم لو أكل ميتة لحلت له وأغرم المزني (وهو المجني عليه المسروق منه) غرامة توجعه. كما روي أن عمر اعتبر المجاعة في عام الرمادة شبهة تردأ حدّ السرقة بوجه عام عن أي متهم باقتراف الجريمة. وهكذا يتضح تأكيد شريعة الاسلام لبراءة الانسان التي هي الأصل، وتحديد الشروط والضوابط اللازمة للإدانة والعقوبة بالحد. ولا مانع بالطبع من العقاب بالتعزيز إذا رأى القاضي وجود الشبهة التي تدرأ الحد ما دامت الجرمية قد وقعت في ذاتها بصورة ما، وإن اختلف تكييفها وتحديد العقوبة المناسبة لها.
وللاسلام أسلوبه الفريد في علاج النفوس من أعماقها وتقليل دعاوى الاتهام أمام المحاكم بقدر الإمكان وتأكيد أن براءة الانسان هي الأصل وفتح السبيل لرجوع الانسان إلى أصله وتقرير براءته، وهو أسلوب تتميز به شريعة الاسلام باعتبارها تستند إلى العقيدة أساساً، ويتآزر في الاسلام التربية والتشريع معاً. لذلك فإن ثبوت توبة الجاني قبل وقوعه في يد السلطة واعتقاله هو من موانع العقاب. يقرر القرآن عقب إيراد عقوبة الحرابة بالقتل أو الصلب أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض استثناء من هذا العقاب. (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم)(المائدة/ 34)، ويقول ابن القيم في شأن رفع العقوبة عن التائب بوجه عام ((وأما اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه دون غيره، فيقال: أين في نصوص الشارع هذا التفريق؟ بل إن نصه على اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره بطريق أولى.. والله تعالى جعل الحدود عقوبة لأسباب هي الجرائم ورفع العقوبة عن التائب شرعاً وقدراً)).. وفي الكتاب الكريم: (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم) (النحل/ 119)، (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم. وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) (الأنعام/ 54 ـ 55).
المصدر: كتاب أصول الفكر السياسي الإسلامي
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق