◄أنّ النظرة للحياة تختلف تبعاً لاختلاف النظرة لما وراء الحياة والوجود، فإذا رفضنا وجود حياة أخرى غير هذه الحياة التي نحياها، فإننا نواجه أهدافاً تنبثق من طبيعة هذا الكون الذي نعيش فيه، باعتبار هذه الحياة الفرصة التي لن تتكرر أو تتجدد، ولذا فإنّ الطيبات والشهوات تُمثل القيمة الكبرى في وجود الإنسان وتفكيره، فهي النعيم الكبير، بينما يُمثل الحرمان الجحيم الأكبر في حياته، لأنّه يجسد العذاب النفسي والجسدي الذي يعيشه الإنسان في كلِّ لحظة من لحظات الحرمان.
وأما عندما نؤمن بوجود حياةٍ أخرى، فالموقف يختلف، لأنّ اللذة لا تمثل قيمة كبرى، كما أنّ الألم لن يكون ضد هذه القيمة، بل القضيّة تكون نسبية... فإذا كانت هناك حياة أخرى تشتمل على لذة أكبر أو حرمان أكبر، فإنّ الحرمان هنا من أجل اللذة الكبرى لا يُعتَبَر جحيماً وعذاباً، كما أنّ اللذة التي تستتبع الحرمان الأبدي لن تكون نعيماً وسروراً.. تماماً كما هو الحال في الحياة نفسها، عندما يتعرض الإنسان لحالة حرمان طارئة في إطار العمل من أجل المستقبل الكبير، فإنّه لن يعتبر ذلك حرماناً إذا استطاع التعويض عنه بالهدف الكبير، والعكس هو الصحيح، في الطرف المقابل.
وعلى ضوء هذا، يُحدِّد السيّد فضل الله واقعية النظرة الإسلاميّة للحياة، من خلال ما قدمته الفكرة الدينيّة من اعتقاد روحي قائم على وجود حياتين للإنسان، ولكلِّ منهما مهمة ووظيفة عملية، فالدنيا دار المسؤولية والعمل، والآخرة دار نتائج المسؤوليّة، فلابدّ أن يقاس التشريع، أو المفهوم العام، بمقياس هذه النظرة.
ولا يستخدم السيّد فضل الله كلمتي "المادة" و"الروح" في معالجته للفكرة، لأنّه يعتبر أنّ هاتين الكلمتين، بما لهما من مدلول فلسفي، ليستا من الألفاظ القرآنية التي تحدثت عن الفكرة، بل نستخدم كلمتي الدنيا والآخرة، فالدنيا – في القرآن الكريم – تمثل الحياة التي نحياها، بما فيها من متع ولذائذ وأموال وعلاقات.. أما الآخرة، فإنها تمثل القيم التي تحكم هذه المتع واللذائذ والعلاقات، وتنظّمها في نطاق مخصوص، وإنما هي من أمر الآخرة، باعتبارها تمثل الإطار الذي تعيش فيه هذه الأوضاع والأهداف التي تتجه نحوها، الأمر الذي يجعل الإنسان يواجه نوعاً من الحرمان على أساس رضا الله.
وعلى ضوء هذا، يُقرر السيّد فضل الله أنّ الإسلام لم يُواجه انفصالاً في العمل بين الدنيا والآخرة، فقد أعطى الإنسان نصيبه من الدنيا بكلِّ ما تمثله من حاجات حسية ومعنوية، وطلب منه – إلى جانب ذلك – أن يراعي القيم التي وضعها الإسلام في حياته، وأصبحت تمثل الحدَّ الفاصل بين التقييد والإطلاق، أو الفوضى والتنظيم، كأساس من أسس تنظيم الواقع وعلاقة الإنسان به.
ولعلَّ أبلغ آية تصوِّر لنا النظرة الإسلامية العامة، في هذا المجال، قوله تعالى:
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77).
فهي تركز على الهدف في ما يملكه الإنسان من أشياء، وفي ما يمارسه من أعمال، ولكن على أساس مراعاة التوازن بين طبيعة الهدف وطبيعة الواقع، فلا يستغرق الإنسان في جوّ القيمة، بالشكل الذي يغفل فيه عن حياته وعن واقعه، كما يفعله بعض المتصوفة، بل بالطريقة التي يحفظ فيها نصيبه من الدنيا.. ولعل التركيز على المسؤولية اتجاه الآخرين بالإحسان إليهم، والمسؤولية اتجاه الكون بترك الفساد في الأرض.. يرسم الخط العريض للقيمة التي تحدد للإنسان خط الدنيا وخط الآخرة عندما يلتقيان في طريق واحد، كما يوضح لنا الخط الذي ينفصل فيه أحدهما عن الآخر، فإذا استغرق الإنسان في الدنيا حتى يتحوّل إلى إنسان أناني يفكر بنفسه، ولا يهتم بالآخرين وبحاجتهم إليه، فلا يتعاطف معهم في شيء، أو يستسلم لنزواته الذاتية التي تجعله خاضعاً لنوازع الفساد والإفساد.. فإنّه يقف في الخط المقابل لخط الآخرة.
أما إذا استغرق في الآخرة – القيمة – الهدف.. فأهمل حياته وترك نصيبه من الدنيا، أو عاش في سكراته الصوفية الحالمة المغرقة في أجواء الخيال.. فإنّه يقف في الخط البعيد عن خط الدنيا الواقعية التي يُريدها الإسلام للإنسان في الحياة.
ويُشير السيّد هنا إلى أنّه بإمكاننا أن نفهم هذه الفكرة من الآية الكريمة التي تصور لنا النموذج الذي يطلب الدنيا، فيقتصر على لذّاتها وشهواتها، لأنّها – في نطاقها الخاص – لا تعني إلا ذلك.. أما النموذج الآخر الذي يطلب الآخرة، فإنّه يطلب الدنيا والآخرة على أساس التفكير الإسلامي الذي يرى القيمة الروحية الواقعية في التعاطي معهما كوحدة عمليّة رائعة.. قال الله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (البقرة/ 200-202).
وفي الحديث الشريف: "ليس منا من ترك دنياه لآخرته ومن ترك آخرته لدنياه". وفي الحديث المشهور: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً".
إنّ ذلك هو الذي يحقِّق للإنسان التوازن بين حاجاته وواجباته.. ونستطيع أن نلمح ذلك في الحشد الكبير من الآيات المختلفة التي أنكرت تحريم الطيبات من الرزق، وما أخرجه الله لعباده من الزينة، ودعت الإنسان إلى أكل الحلال الطيب مع التحفظ في ترك اتّباع خطوات الشيطان، وطلبت منه القيام بشكرها عملياً، وعدم الاعتداء فيها.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (المائدة/ 87-88).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة/ 168).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة/ 172).
وربما تلمح، في بعض الآيات، الإيحاء بأنّ الله يريد من الإنسان أن لا يبتعد عن التمتع بالطيبات، لأنّها من رزقه وأرادها للمؤمن خالصة يوم القيامة، لا يُحاسب عليها لأنّه قام بواجبها ورعاها حقّ رعايتها كما شرع الله وأراد: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 32).
وتنطلق في هذا الاتجاه الأحاديث الكثيرة المرويّة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، التي تعتبر أنّ الدنيا إذا أقبلت فأحق الناس بها أخيارها لا أشرارها ولا فجّارها.. والحديث النبوي الشريف: "حُبَّب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة".
وهناك الآيات الكريمة التي توضح لنا ما أودعه الله في الإنسان من محبة للشهوات والأموال والبنين والخيل والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة وغيرها من الأمور التي يتجه إليها بطبيعته، فعليه أن يوزان بينها وبين ما تطلبه الدار الآخرة من انضباط وإتزان.
ونلاحظ، في هذا الاتجاه، حوار الإمام عليّ (ع) مع العلاء الذي شكاه أخوه للإمام، لأنّه لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، فبادره الإمام بقوله: "يا عدي نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها، أنت أهون على الله من ذلك". واستمع العلاء إلى الإمام يُلقي عليه هذه الموعظة، ففاجأه ذلك، لأنّه يرى سلوك الإمام العملي مرتكزاً على ترك الدنيا، فبادره بقوله: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك. فقال الإمام: "ويحك، إنّي لست كأنت، إنّ الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس لكيلا يتبيغ بالفقير فقره".
وهكذا نجد أنّ رفض الحياة بطيباتها ولذائذها ليس قيمة إسلاميّة كبرى، يُجاهد الإنسان من أجل الحصول عليها لينال بها الحظوة عند الله والثواب منه في الدار الآخرة، بل العكس هو الصحيح، باعتباره يجسِّد السلوك الطبيعي الذي يجعل الإنسان يمارس فيه حياته بطريقة واقعية، لا يسيء فيها الإنسان لنفسه، ولا يرهق بها غيره.
أما أحاديث الزهد التي كثرت في السنّة الشريفة، فإنّها تنطلق معه، من حيث هو حالة نفسية، تمثل الشعور بالغنى الذاتي اتجاه الحياة، ما يجعل الإنسان لا يواجهها مواجهة الجائع الشره الذي يقدم كلّ شيء ويضحي بكلِّ شيء في سبيل الحصول على متعة أو لذة فيها، حتى لو كان الشيء الذي يضحي به دينه أو عقيدته، بل يواجهها مواجهة الإنسان الطبيعي الذي يملك حرّية الاختيار، فيأخذ منها بحرية، ويدع ما يدع منها بحرية واختيار.
وربما يصوّر لنا ذلك الحديث الشريف الذي يروى عن الإمام عليّ (ع) في نهج البلاغة:
"جمع الله الزهد في كلمتين: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم".
إنّها الفكرة التي تقول للإنسان – كما يشرحها السيّد فضل الله – بأنّه ينبغي عليك أن تواجه خسائر الحياة وأرباحها بنظرة عمليّة واقعية متوازنة، لا تعتبر أياً منها حالة غير عادية، ولذا، فإنّ الالتزام بمثل هذه النظرة لا يترك في النفس أي شعور غير طبيعي، باعتباره يؤدي إلى التحرر من العلاقة القوية بالدنيا التي تجعله يعيش تحت ضغط متطلباتها، وعندها فإنّ مسألة الربح والخسارة تصبح ككلّ وقائع الحياة التي تأتي وتروح، تماماً كما هو الليل والنهار والفصول الأربعة.
وعلى ضوء ذلك، يقرر السيّد فضل الله أنّ الإسلام واجه الموقف في نظرته إلى الحياة وممارسته لها، على أساس واقعي، لا يغفل حاجات الإنسان الجسدية، ولا يتسامح في قيم الإنسان المعنوية التي ترتبط بالوجود الثاني للإنسان.. وربما نلتقي، في هذا المجال بنقطة مهمة، وتؤكد لنا هذه النظرة الواقعية، وهي: أنّ الدين عندما دعا الإنسان إلى ممارسة الحرمان عن اللذات التي حرَّمها الله، وعده الثواب الحسي في الآخرة، حيث يُمارس الإنسان فيه لذائذه الحسية بشكل أفضل، بالإضافة إلى الثواب المعنوي، فهو يعد الإنسان المؤمن بالحُور العين والولدان والنعيم الكبير وغير ذلك، ثمّ يضف إليها قوله: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) (التوبة/ 72).
ويرى السيّد فضل الله أنّ هذا الاتجاه – في جعل الثواب منسجماً مع إحساس الإنسان بالحاجات الحسية للجسد في الدنيا والآخرة – يلتقي تماماً مع النظرة الواقعية للإنسان، التي تُبعده عن الشعور بالحرمان الأبدي مما مُنع عنه في الدنيا، الأمر الذي يجعله طبيعياً في مواجهة حالات الحرمان.
المصدر: كتاب محمَّد حسين فضل الله.. العقلانية والحوار من أجل التغيير
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق