• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ثورة الحسين (ع) هزّة ضمير وحياة رسالة

السيد الراحل محمد باقر الحكيم

ثورة الحسين (ع) هزّة ضمير وحياة رسالة
◄يمثّل المقال جزءاً من محاولة لتكوين تصور نظري عامٍ لثورة الإمام الحسين (ع) وبيان الإطار الفكري والشرعي والسياسي والأخلاقي لهذه الملحمة التأريخية وأسبابها ونتائجها اعتماداً على مجموعة من الظواهر التأريخية والحقائق الثابتة دون الخوض في جانب السرد التأريخي.   نظريات في تفسير ثورة الحسين (ع): اختلف أهل الهدى وأهل الضلالة في تفسير ثورة الحسين (ع) وأهدافها ودوافعها الحقيقية اختلافاً بيّناً وكبيراً، وإن كان هناك إجماع من عامة المسلمين على قبولها وتأييدها وإدانة الحكم الأموي بسببها؛ فالأعداء حاولوا أن يفسّروها بتفسير معيّن، ومن آمن بالحسين وبإمامته (ع) فسّرها بتفسير آخر، ومن لم يؤمن به حاول أن يفسّرها بتفسير ثالث قد لا يكون تفسيراً عدائياً، ولكنّه انطلق من وجهة نظره الضيّقة وفهمه للحياة الإنسانية ولدور الحسين (ع) في هذه الحياة. ونريد هنا أن نستعرض بشكل إجمالي بعض هذه النظريات في تفسير قضية الحسين وثورته، لنتعرّف التفسير الصحيح لها، ونستكشف النظرية التي قامت الثورة على أساسها، ثمّ نتعرف الدرس العملي الذي أراده الحسين (ع) من وراء هذه الثورة.   التفسير الأوّل: ثورة الحسين (ع) صراع قبلي: هناك تفسير يقول بأنّ حركة الحسين كانت حركة قبلية (عشائرية) تعبّر عن الصراع المحتدم بين قبيلتين قرشيتين كانتا تتصارعان على السلطة والهيمنة قبل الإسلام، واستمر هذا الصراع بينهما إلى ما بعد الإسلام، ذلك هو الصراع بين بني هاشم وبني اُمية. هذا التفسير تبناه أعداء الحسين (ع) ولعلهم انطلقوا من دوافع يزيد (قاتل الحسين) عندما قال معبّراً عن رأيه في هذا المجال:


ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا
لأهلوا واستهلّوا فرحاً
لعبت هاشم بالملك فلا
جزع الخزرج من وقع الأسل
ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشل
خبر جاء ولا وحي نزل


وبعد ذلك سار على طريق يزيد في هذا التفسير بعض المؤرِّخين الحاقدين، حتى انتهى الأمر إلى أولئك المستشرقين الذين حاولوا أن يفسّروا تأريخنا وأن يرغمونا بشكل أو بآخر على قبول هذا التفسير بأساليبهم وبحيلهم وبأضاليلهم، فقد حاول بعض منهم أن يفسر القضية على أساس صراع بين قبيلتين، وفسّر الصراع بين رسول الله (ص) وبين أبي سفيان على أنّه امتداد لذلك الصراع القبلي والعشائري، لأنّ هؤلاء المستشرقين الذين يحاولون أن يظهروا أنّهم حياديون تجاه هذا الصراع لا يؤمنون بالنبوة والوحي والرسالة الإسلامية، ومن ثمّ فهم ليسوا حياديين تجاه الإسلام ورسالته.   الحقائق الثابتة ترفض هذا التفسير: ولا يمكن أن ينجسم هذا التفسير مع الحقائق التأريخية، حيث إنّه إذا أردنا أن ندرس قضية الحسين (ع) من خلال مجموعة من الظواهر الثابتة تأريخياً – ونأخذ منها على سبيل المثال ظاهرة واحدة وهي ظاهرة أصحاب الحسين (ع) – نجد أنّ قضية الحسين لا يمكن أن تكون صراعاً بين عشيرتين أو قبيلتين، لأنّ أصحاب الحسين – سواء كانوا من حيث الانتماء القبلي أو من حيث الانتماء القومي أو من حيث الانتماء لمستوى الثقافة أو مستوى الوضع الاجتماعي، بل وحتى من حيث الانتماء المذهبي – يمثلون نماذج وعيّنات متعددة ومختلفة، حيث نلاحظ أنّ هناك اختلافاً عظيماً بينهم ولا يمكن أن تجمع كل هؤلاء أو توحدهم قضية الصراع القبلي. فإنّ قضية الصراع القبلي لا يمكن أن توحّد بين (جون) العبد الأسود وبين حبيب بن مظاهر سيّد العشيرة العربي، كما أنّه لا يمكن أن توحّد بين أولئك الذين كانوا بالأمس أعداءً للحسين، كالحر بن يزيد الرياحي وزهير بن القين وغيرهما من الأشخاص الآخرين الذين انضموا إلى الحسين أثناء المعركة عندما سمعوا حديثه أو استغاثته، وبين من كان موالياً للحسين منذ اليوم الأوّل. ثمّ ما هو الشيء الذي جعل زهير بن القين يتحوّل عن (عثمانيته) وعن اعتقاده بخط العثمانية؟ الخط الذي أسّسه معاوية لتعليل موقفه المعارض لعليّ (ع) والذي كان يدّعي أنّ عثمان قُتل مظلوماً وأنّه لابدّ من الأخذ بثأره، وأنّ وراء قتله كان عليّ بن أبي طالب (ع)، هذا الخط العثماني الذي كان يتبنّى مثل هذه الفكرة، وكان زهير بن القين – إلى حين لقاء الحسين (ع) به في الطريق إلى كربلاء – يتبنى هذا الخط. لا يمكن أن نفترض أنّ زهير بن القين (وهو أحد زعماء هذا الخط) تحوّل من هذا الاعتقاد الذي يمثل القطب المعارض تماماً لخط أهل البيت – عليهم السلام – إلى جانب الحسين (ع) باعتبار أنّ الصراع كان صراعاً بين قبيلتين، بين بني هاشم وبين بني اُمية، مع أنّ زهير بن القين كان في جانب بني اُمية ومن خط بني اُمية. وكذلك موقف الحرّ بن يزيد الرياحي الذي كان إلى آخر لحظات المواجهة قائداً عسكرياً كبيراً يقود ربع جيش عمر بن سعد، ثمّ تحوّل إلى جانب الحسين (ع) ليستشهد معه لأنّه كان يخيّر نفسه بين الجنة والنار، فاختار الجنّة في اللحظة الأخيرة. إنّ ظاهرة أصحاب الحسين (ع) إذا درسناها بتأمل نجدها ترفض بشكل قاطع هذه النظرية، خصوصاً إذا عرفنا أنّ أصحاب الحسين (ع) أنفسهم كانوا يعيشون الحقيقة بعقولهم كما كانوا يعيشونها بوجدانهم وضميرهم، وأنّهم كانوا يعيشون الأوضاع السياسية والاجتماعية بكل ظروفها وبكل مواصفاتها وجزئياتها لأنهم قريبون منها، وبعضهم كان يعيش قريباً من النظام الأموي ومن الإمام الحسين (ع). وليس حالهم حالنا، حال من ينظر إلى التأريخ من خلال هذا الفاصل الزمني بيننا وبين الحسين (ع) وقضيته، فهذه النظرية في الحقيقة (مرفوضة) ولا يمكن أن نأخذ بها، بل هي نظرية معادية بالأصل كما أشرنا. هذه ظاهرة من ظواهر كثيرة لا مجال لشرحها الآن، وانما نريد أن نشير إلى بعضها من أجل أن نتبيّن الموقف من مثل هذا التفسير.   التفسير الثاني: حركة الحسين (ع) كانت من أجل الوصول إلى السلطة: هناك تفسير آخر يقدّم لحركة الحسين (ع) يول: إنّ الحسين (ع) باعتباره إماماً معصوماً مفروض الطاعة ومنصوباً من قبل الله سبحانه وتعالى فهو أحق بالحكم من غيره، والإمام الحسين (ع) وجد أنّ يزيداً إنسان ضعيف في الحكم بعد موت معاوية لا يملك القاعدة السياسية التي كان يملكها أبوه بدهائه وخبرته، وباعتبار أنّ يزيداً كان معروفاً بمجونه وتمرده على الإسلام وبفسقه، بل وكان معلناً الفسق ومتجاهراً به، فهو إنسان معزول عن المجتمع الإسلامي ومرفوض من قبله، والإمام الحسين (ع) رأى من واجبه أن يسعى إلى السلطة من أجل أن يقيم حكم الإسلام العادل ويرجع الحقّ إلى نصابه. إذن فهناك صراع بين الإمام الحسين (ع) وبين يزيد على السلطة، ولكن لا من أجل الهيمنة والسيطرة فحسب – كما يقول التفسير السابق – وانما من أجل إحقاق الحقّ وإقامة العدل الإلهي، ولكن الحسين لم تؤاته الظروف رغم أنّ أهل الكوفة أرسلوا له آلاف الكتب ووعدوه بالنصرة والوقوف إلى جانبه، ولكنهم خذلوه في اللحظة الأخيرة ولم يتخذوا الموقف المناصر له، وإذا به يجد نفسه وحيداً فريداً غريباً وفي وضع مأساوي، الأمر الذي أدّى إلى هذه النهاية المأساوية. هذا تفسير يذكره الكثير من المؤرِّخين وهو يتبادر إلى أذهان أكثر الناس؛ فالحسين (ع) باعتباره الأحق بهذا المنصب وهو الأحق بالخلافة – كما صرح بذلك في عدة مواضع من نهضته –، إذن فمن الطبيعي أن يسعى إلى هذا المنصب باعتبار المسؤولية التي يشعر بها تجاه إقامة الحكم الإلهي، وقد سعى بجد ونشاط وبتخطيط لتحقيق هذا الهدف السامي لا حبّاً بالسلطان، وإنما لإقامة العدل الإلهي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح في أُمّة جدّه رسول الله (ص)، كما أعلن عن ذلك في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية، غير أنّ الإمام الحسين (ع) لم يتمكن من الوصول إلى هذا الهدف لا لضعف في قيادته وانما نتيجة لتخاذل الناس عنه، كما حدث بالنسبة إلى أمير المؤمنين (ع)؛ إذ سعى إلى هذا الأمر واستلم الخلافة، ولكنه لم يستمر فيها لاستشهاده على يد ابن ملجم، والإمام الحسين (ع) أيضاً سعى إلى الخلافة وانتهى دوره باستشهاد مأساوي فجيع بسبب طغيان عبيد الله بن زياد، ويزيد بن معاوية.   الأحداث ترفض هذا التفسير أيضاً: هذا التفسير لا نقبله أيضاً، ولا نؤمن به لأنّنا نرى أنّ هدف الحسين (ع) من وراء هذه الحركة لم يكن الوصول إلى السلطة لا بسبب أنّ السعي إلى الخلافة أو السلطة وإلى الحكم الإسلامي وإقامة العدل والقسط بين الناس سعي غير مشروع، أو أنّ الحسين (ع) لم يكن مسؤولاً عن ذلك، بل إنّ هذا السعي كان واجباً إلهياً مشروعاً، وأنّ الحسين (ع) وكلّ إنسان سائر على خطه (ع) يجب عليه أن يسير في هذا الطريق، وأن يعمل من أجل إقامة حكومة الله وتحقيق العدل الإلهي، والحسين (ع) مسؤول عن هذا الأمر بطبيعة الحال إذا تحققت شروطه الموضوعية، وهذه مسألة واضحة وليست مورد نقاش وشك. ومع ذلك فلم يكن هدف الحسين (ع) من وراء هذه الحركة تحقيق هذا الشيء، لأنّه كان يعرف أنّه لا يصل إليه بسبب إدراكه لطبيعة الظروف السياسية والنفسية والاجتماعية للأُمّة، وكانت هذه النتيجة واضحة بالنسبة للحسين (ع). ونحن انما نرفض هذه النظرية: (نظرية أن يكون هدف الحسين (ع) من ثورته هو الوصول إلى السلطة فحسب ولكن لم يتمكن من ذلك) بحيث تفترض بأنّ الحسين (ع) لو كان يعرف النتائج وأنّه لا يصل إلى السلطة ولا إلى الحكم لجلس في بيته، كما جلس أخوه الحسن (ع) بعد الهدنة مع معاوية، أو كما جلس أبوه عليّ بن أبي طالب (ع) بعد وفاة رسول الله (ص)، إنما نرفض هذه النظرية لأننا نقول: إنّ الحسين (ع) كان يعرف منذ البداية النتائج التي حصلت له، وأنّه لا يتمكن من الوصول إلى السلطة، ومع ذلك تحرك في مواجهة حكم يزيد، إذن فهذا التحرك لم يكن بهدف الوصول إلى السلطة مع أنّه – كما قلت وأُؤكد – هدف مشروع وصحيح ويجب العمل أيضاً من أجله، عند توفر الظروف والشروط الموضوعية لنجاحه. وانّما نرفض هذه الفكرة لأننا – كما قلنا – نعرف بأنّ الحسين (ع) كان على معرفة بالنتائج، ذلك لأنّ الظروف الموضوعية للنجاح في تحقيق هذا الهدف الخاص لم تكن متوفرة، وكان الإمام الحسين (ع) يدرك عدم توفر هذه الظروف منذ البداية، ومع معرفة الحسين (ع) بذلك لا يمكن أن نفترض أنّ الهدف هو الوصول إلى السلطة لأنّ معنى ذلك انّ الحسين كان يسعى إلى هدف غير واقعي ويكون عمله مجرد عمل انتحاري، وهذا لا ينسجم مع شخصية الحسين وتجاربه ومع فرضية إمامته وأنّه الأحق بالخلافة. ويمكننا أن نعرف هذه الحقيقة من خلال عدة أمور يعرفها الإنسان عند مطالعته ومراجعته لتأريخ حركة الحسين (ع) بشكل واضح: الأمر الأوّل: هو أنّ العقلاء من خلّص أصحاب الحسين (ع) أو من غيرهم من أصحاب الرأي وممن لهم معرفة بالأوضاع السياسية في ذلك الزمان كلّهم كانوا متفقين على أنّ هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق للحسين (ع). فمثلاً عبدالله بن عباس (الذي كان يعتبر من حكماء العرب بحيث إنّ أمير المؤمنين (ع) اختاره مندوباً عنه في قضية الحكمين، لكنّ المنافقين والجهلاء من أصحاب عليّ (ع) رفضوا ذلك)، كان ينصح الحسين (ع) بعدم التوجه إلى الكوفة لأنّ أهلها سوف يخذلونه في النهاية، وهكذا كان موقف كلّ من محمد بن الحنفية (أخ الحسين لأبيه) وعبدالله بن جعفر (ابن عمّ الحسين) وأم سلمة وجماعة أخرى ممن يحبّون الحسين ويخلصون له، كان رأيهم هو أنّ الحسين (ع) لن يصل إلى هذا الهدف، وحذّروه من الموقف العام لأهل الكوفة وغيرهم من المسلمين الذين طلبوا منه القيام والنهوض وما يمكن أن يتحقق من خذلانهم له، وأنّهم صنعوا بأبيه وبأخيه في السابق ما صنعوا من تخاذل ونفاق وعدوان، وغير ذلك من التحذيرات التي يُعثر عليها في الكتب التأريخية. وقد جاءت نهاية المأساة متطابقة أيضاً مع ما قاله هؤلاء المخلصون للحسين (ع)، وكان ما ذكروه يمثّل الحقيقة بعينها. ونحن ازاء ذلك لا يمكن أن نفترض أنّ الحسين (ع) (الذي هو وريث محمد (ص) ووريث الإمام عليّ والإمام الحسن (ع) وعاش مختلف الظروف والتجارب والتحولات والتغييرات التأريخية والسياسية) لا يمكن أن يكون غير مدرك للحقيقة التي أدركها هؤلاء المستشارون وهؤلاء المخلصون الذين كانوا إلى جانب الحسين (ع) وأكدوا له النتائج التي وقعت، وذكروا له أنّه لا يمكن في مثل هذه الظروف السياسية أن يتحقق هذا الانتصار والوصول إلى الحكم، فهل من المعقول أن يكون هؤلاء قد توصلوا إلى هذه الحقيقة وأدركوا هذا الأمر وبقي ذلك بعيداً عن حسابات الحسين (ع) وتوقعاته؟ ثمّ هل كان الحسين (ع) يتصور – نتيجة لرسائل أهل الكوفة ولاصرارهم وإلحاحهم عليه بالثورة – أنّه يتمكن أن يصل إلى هذا الهدف الخاص، مع أنّ كل هؤلاء أجمعوا على أنّ هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق؟ الأمر الثاني: موقف الحسين وإصراره على المضي في طريقه بعد
أن تدهور الوضع السياسي في الكوفة بمقتل مسلم بن عقيل ورسوله مسهر بن قيس الصيداوي وغيرهما وتوارد الانباء عليه بهذه الحقائق وتقديم النصائح له ومع ذلك كان يصرّ على الاستمرار في الحركة ويترك للآخرين أن يختاروا مصاحبته أو تركهم له. الأمر الثالث: وهو أوضح من الأوّلين في رفض هذا التفسير وهو النصوص التي وردت عن الحسين (ع) وأهل البيت الكرام والنبيّ (ص) والتي تؤكد أنّ الحسين وأهل البيت كانوا مطّلعين على هذه المأساة وتفاصيلها، فمن ذلك ما ورد على لسان الحسين (ع) خلال مسيرته نحو كربلاء في عدة مواضع من أنّ مصيره هو القتل حتماً هو وأهل بيته وأطفاله وعياله، ومن ذلك رؤياه لرسول الله (ص) في الحرم المدني عند الوداع، ثمّ بعد ذلك خطبة الحسين (ع) عندما خرج من مكة متوجهاً إلى الكوفة قبل أن يكشف أهل الكوفة موقفهم الحقيقي، وكانت الكتب والرسائل تتوارد عليه بالمئات في ذلك الوقت وأكّدها سفيره ورسوله وابن عمه مسلم بن عقيل (ع)؛ فقد خطب الحسين (ع) في ذلك يقول: "... خُط الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة..." "وكأني بأوصالي هذه تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء". إضافة إلى أنّ هناك الروايات الكثيرة التي وردت عن الرسول (ص)، وعن أمير المؤمنين (ع)، وعن فاطمة الزهراء – عليهما السلام – تؤكد وقوع هذه المأساة للحسين (ع) وإخبارهم عنها. ومع ملاحظة موقف الحسين ومسيرته نرى أنّه كان متأكداً من هذه النهاية، ومَن يتأكد من هذه النتيجة لا يمكن أن يخطر بباله أنّه سوف يصل إلى الحكم، أو سوف يصل إلى تحقيق العدل الإلهي من وراء هذه الحركة التي قام بها. إذن لم يكن الهدف الخاص للحسين (ع) في حركته هو الوصول إلى السلطة الأمر الذي تفترضه هذه النظرية، بحيث نفترض أنّ الحسين فشل في تحقيق هدفه أو أنّه لم يكن قادراً على التحليل الصحيح للظروف والأوضاع السياسية أو تعرّض لخدعة كبيرة، نعم تعرض لخيانة كبيرة، ولكن الفرق بين الخيانة والخدعة واضح. إذن فهذه النظرية مرفوضة أيضاً.   التفسير الثالث: حركة الحسين (ع) كانت بهدف أخلاقي: يعتمد هذا التفسير على افتراض أنّ تحرك الحسين (ع) ونهضته كان بدوافع أخلاقية ذاتية تنطلق من العوامل النفسية والأخلاق الإسلامية العربية التي كان يتصف بها (ع)، ويقال بأنّ الحسين (ع) كان إنساناً شريفاً وعزيزاً وكريماً يأبى الضيم، وهو ابن بنت رسول الله (ص)، ابن عليّ بن أبي طالب (ع)، ابن هذا البيت المجيد... هذا الإنسان الشريف لا يمكن أن يخضع لإنسان وضيع، ملحد، فاسق، فاجر، إلى غير ذلك من الصفات التي كان يتصف بها يزيد الأموي؛ إذن فهذا الإنسان باعتبار أخلاقياته وصفاته النفسية العالية لا يمكن أن يبايع يزيد وأن يضع يده بيد يزيد، وقد عبّر عن ذلك في قوله (ع): "والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد". أو قوله لوالي المدينة (الوليد): "أيها الأمير إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل شارب الخمور وقاتل النفس المحرمة ومعلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله". هذا التفسير الذي يفسّر حركة الحسين (ع) يفترض أنّ المسألة أخلاق وإباء للضيم، وعزّة، وكرامة؛ فالإنسان عندما يكون عزيزاً أبياً لا يمكن أن يخضع للذل، والحسين (ع) تعرّض لمحاولات الإذلال والامتهان فأبت نفسه الزكية الأبية الذل والخضوع، ومن ثمّ انتهت الأمور إلى أن تقع مأساة قتل الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه وسبي عيالاته إلى غير ذلك من المآسي المعروفة في واقعة كربلاء... هذا تفسير آخر يُقدّم للهدف من حركة الحسين (ع). وتوجد عشرات الآلاف من (الأدبيات) الحسينية تتحدث ع هذا التفسير وهذه الأخلاق، كما توجد ملامح لهذا التفسير في بعض خطب الحسين (ع) وفي بعض كلماته التي ذكرنا بعضها، وكلمات أخرى عديدة، نحو: "ألا وأنّ الداعي ابن الدعي قدر ركز بين اثنتين، بين الذلّة والسلة، وهيهات منّا الذلّة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون... ونفوس أبية...".

فما هو موقفنا من هذا التفسير؟

أسرة البلاغ: الجواب يترك للقارئ الكريم   المصدر: مجلة الفكر الإسلامي/ العدد 12 لسنة 1416هـ. ق

ارسال التعليق

Top