• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حوار من أجل الدفاع عن الحقوق

أ. د أسعد السحمراني

حوار من أجل الدفاع عن الحقوق

◄لقد وهب الله تعالى الإنسان نِعَماً كثيرة لها أصول وفروع، وهو مطالب بالحفاظ عليها، وحمايتها من أي أذى أو عدوان. وقد جاءت مقاصد الشريعة تحدد الحقوق الواجب الحفاظ عليها، وهي خمسة: حفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ الدين، وحفظ النسل، وحفظ المال.

وهذه العطاءات بها تحفظ الحياة حيث إرادة الحياة تشكل الدافع الرئيس عند الإنسان، يليه دافع حفظ النوع من خلال التناسل والتكاثر.

لقد جاء هذا الحوار مبيِّناً لحقِّ الدفاع ومشروعيته:

"أخبرنا هنَّاد بن السِّرِّي في حديثه عن أبي الأحوص عن سمّاك عن قابوس عن أبيه؛ قال: جاء رجل إلى رسول الله (ص)، وأخبرني عليّ بن محمّد بن عليّ قال: حدَّثنا سمّاك بن حرب عن قابوس بن مُخارق عن أبيه، قال: سمعت سفيان الثوري يحدِّث بهذا الحديث:

قال: جاء رجل إلى النبيّ (ص)،

فقال: الرجل يأتيني فيريد مالي؟

قال: ذكِّره بالله.

قال: فإن لم يذكر؟

قال: فاستعن عليه من حولك من المسلمين.

قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟

قال: فاستعن عليه بالسلطان.

قال: فإن نأى السلطان عنِّي؟

قال: قاتل دون مالك حتى تكون من شهداء الآخرة أو تمنع مالك".

هذا الحوار الحديثي جاء يعالج مسألة الدفاع عن الحقوق كافة بعنوان لها هو المال، وقد جاء المحاور يسأل رسول الله عن واجبه في التصرف إذا جاء طامع ليغتصب ماله، ومثل الطامع بالمال من يحتل أرض الوطن، أو بدنس المقدسات، أو يتطاول على الكرامات، أو كلّ من يمارس عدواناً على حقِّ ما.

كان الجواب: إنّ العلاج الأوّل هو التذكير بالإيمان بالله وتحريك الفطرة، لأنّ إشعار الشخص بمراقبة الله تعالى، وما أمر به سبحانه، قد توقف المعتدي عن عدوانه، والظالم عن ظلمه.

كان بعدها الاستعلام عن حالة من لم يفعل الإيمان فعله في نفسه. عند ذلك يكون العلاج بأن يستعين الإنسان بمن حوله طالباً الموقف والتحرك لوضع حد لهذا الطامع المعتدي. لكن الحالة قد تحصل في مكان بعيد من الناس، أو خالٍ من الناس، ولا يكون من يستنجد به المعتدى عليه موجوداً.

هنا يكون المطلوب أن يتوجه من يتعرَّض للعدوان إلى الحاكم والسلطان، وإلى هيئات القضاء ومن ينوب عن الحاكم، فهذا الحاكم وازع يمنع عدوان الناس على بعضهم؛ يردُّ الحقوق المسلوبة إلى أهلها، وهنا يتذكر المتابع في أنّ المأثور هو: "إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".

إنّ من الناس من يتراجع عن ممارسة الظلم والعدوان انطلاقاً من العامل الديني الإيماني، وبالمقابل هناك أشخاص يحتاج وقف عدوانهم إلى حاكم وسلطة وعقوبات وغرامات وقصاص، وقد وجه النص القرآني إلى ذلك في قول الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 179).

جاء بعد ذلك السؤال الأخير: "فإن نأى السلطان عنِّي؟" عندها لا يكون أمام صاحب الحقِّ المعتدى عليه إلا حالة واحدة هي حالة المواجهة والمقاومة، وهي القتال دون حقوقه، وسيكون الأمر بإحدى نتيجتين: إما أن ينتصر المدافع ويحمي حقوقه وكرامته ويرد العدوان، وإمّا أن يستشهد ويكون من سعداء الآخرة.

هذا الموقف الدفاعي المقاوم جاء في قول الله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة/ 190).

"قال ابن عباس وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد: معنى الآية: قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النِّساء والصبيان والرهبان وشبههم، فهي محكمة على هذا القول، وقال قوم: المعنى: لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله كالحمية وكسب الذكر".

هذه الآية عند الأغلب من الصحابة هي أوّل ما نزل في الأمر بالقتال، وأما الآية: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج/ 39)، فإنّ هذه الآية قد نزلت في القتال عامة.

وقد جاء الحديث النبوي يؤكد الحكم نفسه، وهو الدفاع وعدم التسليم بالاغتصاب، وأنّ من قاتل دون أهله ودمه وماله، وهؤلاء هم وطن الأُمّة، فإن سقط مقتولاً يكون شهيداً. ونص الحديث هو: "من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه فهو شهيد".

بناءً على ما تقدم جاء من يقول: إنّ القتال في الحكم الشرعي الإسلامي هو قتال دفاعي، وهذا موقف غير موفّق لأنّ القاعدة العسكرية تقول: "أحسن أساليب الدفاع الهجوم". وفي الآية الكريمة توجيه للمجاهدين كي يغيروا صبحاً على الأعداء لأنّ هذا الوقت هو أفضل أوقات الهجوم حيث يكون الأعداء في حالة استرخاء بعد الليل. قال الله تعالى: (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) (العاديات/ 3). فالقتال ضرورة ومشروع صيانة للحقوق، ومحاماة عن الأُمّة أرضاً وثروات وأهلين، والأمر متروك للقائد والقيادة لتحديد أنواعه وفق الإمكانات والظروف، فقد يكون القتال هجوماً وقد يكون دفاعاً، وقد تجنح القيادة إلى الهدنة إذا وجدت ذلك الموقف مناسباً.

لكن المهم أن يلتزم المقاتل المسلم الضوابط والأحكام، إذ القتال لا يكون عبثياً بل تحركه مقاصد الشريعة، وكرامة الإنسان والأُمّة، وحماية المقدسات والثروات، وتكون له أوامر ونواهي؛ أي: قيود تحكم مساره.►

المصدر: كتاب الحوار في الإسلام (آدابه وقواعده)

ارسال التعليق

Top