• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

دور الفكر المغلق والفكر المنفتح في التنمية

حسن إبراهيم أحمد

دور الفكر المغلق والفكر المنفتح في التنمية

◄ما الذي أحال الأديان ذات الأفق الإيجابي والفاعلية الكونية، والمبشرة بالانعتاق إلى دوغمائيات مغلقة؟ بالتالي كيف حولت هذه الدوغمائيات المجتمع إلى غيتوات أو كانتونات؟

السؤال ينطوي على المفارقة بين النظرية والتطبيق، هذه المفارقة التي فرضت نفسها حديثاً من خلال فشل الكثير من الأحزاب ذات الأُفق الانساني التقدمي في ترجمة نظرياتها وبرامجها الطموحة إلى عمل حسب الخطوط التي رسمتها لنفسها.

والأجوبة تأتي متباينة ومعبّرة عن رؤية الأنساق والاتجاهات الفكرية، وهي بالتالي أنساق واتجاهات آيلة عن الانتماء إلى المعسكرات الفكرية.

عندما يكون الإنسان أمام نظريات كبرى ومبادئ عظيمة، عليه أن يكون شديد التحفظ في التعامل معها، وعليه أن يكون حذراً خصوصاً في أمر تطبيقها واستحضارها لكلّ صغيرة وكبيرة، فهي عندما تستخدم للتبرير ولقياس الاتجاه في صحّته وعدم صحّته، يبدأ التعسّف في استخدامها، وعندها يبرز دور المصالح الخاصّة، والآراء الخاصّة، والمبادئ الخاصّة، وتمتزج بالمبدأ والعقيدة، قد يكون هذا الخاص مُلكاً لفرد أو جماعة، وتكثر الخصوصيات ويبدأ التشرذم، وتزداد الشروح والتفسيرات التي يحتاجها التبرير، ثم تبدأ هذه الشروح والتفسيرات والخصوصيات تنغلق، وكلّها تستمد قدسيتها من المبدأ أو العقيدة، وبمرور الأيام يصبح المبدأ مبادئ والدين أديان وتصبح أبشع السرقات إرثاً مقدساً في نظر أحفاد اللص لا يجوز الاعتداء عليه (حسب تعبير ول ديورانت في قصة الحضارة).

هكذا يصبح التشرذم سمة من سمات الفكر، ويصبح التقدم لدى كلّ فئة قليلة أو كثيرة مشروطاً بتحقيق رؤيتها أو خَطّها وعقيدتها، ويظهر دور الأفراد والعقل الفردي المتمسك بالخصوصية أكثر، ثم يبدأ الاستبداد وعبادة القادة والأشخاص.

حدث هذا في كلّ دين من الأديان السماوية، كما حدث في الفلسفات الاجتماعية والمشاريع الكبرى في مجال السياسة والفكر، فتحكّمت سياسة ومصالح القادة دينيين ودنيويين، وكثرت المذاهب والنحل، وأصبح لكلّ منها سياجها العقيدي المقدّس، الذي التنازل عنه يعني التنازل عن الهُويّة والشخصية والكيان بالتالي عن الشرف والكرامة، ومن أجله ترخص الأرواح، ويحلو الاستشهاد والتضحيات، ويفسر كلّ تراجع يحصل في حياة الأُمّة على أنّه ناتج عن التفريط بحقّ الله والتراخي في تطبيق الشرائع، وعدم الحفاظ على النصوص والمقدّسات، وليصبح مقياس التقدم، التمسك بالعقيدة، والعض بالنواجذ على ما بين يدي الإنسان منها، وتبدأ اللعنات تصب على المفرطين، وتأخذ المزاودات أبعادها، ويظهر استغلال المواقف والانتهازية، ويصبح النفاق متبادلاً بين أقطاب هذا الاتجاه.

كان التفريط، والابتعاد عن صحيح المعتقد والتقرّب من الشيوعية سبباً في هزيمة عام 1967م حسب رأي الشيخ محمّد متولي الشعراوي أحد مؤدلجي العقل الإيماني، وهو الذي دفعه إيمانه الذي لم يفسده التقرّب من الشيوعية (الإيمان الصحيح) أن يصلي لله ركعتين شكراً له على هذه الهزيمة التي تعني مفاعيلها عنده غير ما تعنيه عند مجموع الأُمّة، فهي عند مجموع الأُمّة هزيمة بينما هي عنده نصر لأنّها تعني العودة عن الكفر والتفريط وانتهاء زمنهما بفصم عُرى العلاقة بالشيوعة الملحدة، هكذا، وبكلّ وضوح بل بكلّ صفاقه عبّر العقل الإيماني عن دوره وأفصح عن وجهه في وسط الآلام التي تعانيها أُمّة ذاقت مرارة الهزيمة لتوّها، فيكون دور هذا العقل تصعيد الشماتة بدل بلسمة الجرح، وهكذا تعوّد المؤمنون البحث عن أسباب مآسيهم ومصائبهم، لدى شيوخ الضرب بالمندل، وكتّاب الأحجبة، وقرّاء الفال، والمنجمين والمبصرين، ولدى الأبراج وعظام القديسين والتماثيل، المؤدية إلى التحكم بالغيب، عوضاً عن البحث عن الأسباب الحقيقية وسلبيات الواقع، والتقصير والاستبداد، وإصلاح الواقع الفاسد إن أمكن، وتجاوز أنظمة الإعاقة، وإبعاد المتراخي والمفرط والفاسد والمتآمر واللص والمستبد والانتهازي والوصولي والمرتشي والكسول ... إلخ بدل مباركتهم والحصول على هباتهم.

هكذا تتيسر الأمور، وهكذا تتوالى التبريرات اللاعقلانية، فتتألق قوى السحر والخرافة وتنتفخ، بينما تضمر قوى العقل والعلم، وتزداد أسطرة الشخصيات، وتبدأ كراماتها بالظهور، ويصبح المصير معلقاً بشطط أفكارها.

وضمن هذا الواقع يتم لعن الخارجين، وغير المترادفين، وتتم محاولات إعادتهم إلى القطيع كي لا يبقوا مخالفين للنسق، لأنّ نُسَبُهم يجب ألا تقل عن مئة في المئة، للانسجام مع المطلق، ويصبح الأكثر إغراقاً في لا عقلانيته معيار التقدم والنجاح، وفي هذا المناخ الذي يجب أن يسود فيه كلّ ما يقوم على النقد الموضوعي البناء، يمنع النقد، وتتم الدعوة إلى التكتل أكثر، وإلى الانغلاق في وجه الآخر أكثر، أي إلى التقوقع وإغلاق الأبواب ونبذ التثاقف والتفاعل.

وإذا كانت سمة التفريط بالعقيدة، وعدم التمسك بصحيح الخط الأرثوذكسي للطائفة أو الملة، والتحذير من الإغراق في ذلك، وضرورة التوبة، هي السائدة أيام المحن، فإنّ العون الإلهي وزوال الغمة برضى الآلهة، يعتبر التفسير الأكثر رواجاً في أيام الطمأنينة والرخاء، عند مؤدلجي هذا الاتجاه. ومن الواضح أنّ الإنسان هو نفسه لم يتغيّر وأنّ التمسك بالعقائد صحيحها وزائفها لم تتغير، فحصول ما هو إيجابي يُعاد إلى رضى الإله، حتى لو لم تتغير قيم الناس وسلوكياتهم وحتى لو لم يقوموا بأي عمل لنيل هذا الرضى، وهذا يلغي القراءة الدقيقة للواقع، ومعرفة المقدمات التي أدت إلى نتائج، أي تغييب منطق العلية والسببية.

إنّ نسبة النجاحات والانتصارات إلى الرضى الإلهي، والهزائم والفشل إلى الغضب الإلهي، هو تفسير دائم، قديم ومستمر، فالناس لم يكونوا أكثر تديّناً، ولا تديّنهم كان أكثر صحّة والتزاماً عام 1973م حيث انتصر العرب نسبياً في حربهم مع إسرائيل، منه عام 1967م حيث إنهزموا، مع ذلك، فقد رأينا كيف يبرر العقل الإيماني الهزيمة بغضب الله الآيل عن العلاقة مع الشيوعية والارتباط بها، كما رأينا العقل ذاته يشير إلى الرضى الإلهي الذي يعتبر سبب الانتصار حتى أنّ الله أرسل ملائكته للقتال مع المؤمنين على جبهة قناة السويس، وقد رأهم شيخ الأزهر بثيابهم البيض، والله لا يرسلهم إلّا لنصرة الإيمان، علماً أنّ العلاقة مع الشيوعية لم تكن قد تبدلت بما يرضي هذا العقل، والعلاقة مع نقيضها الرأسمالية ليس انحيازاً كاملاً إلى الإيمان.

هذا هو العقل الإيماني ورجاله وتبريراته!!

إذا كان هناك تقصير أو فعل سلبي، يعبر عن عجز وضعف أو هزيمة في مواجهة من أي شكل أو لون كانت، فالمسؤولية يتحملها الإنسان، فهو ابن الخطيئة، وهو العاجز، وهو المقصر، دون التفكير بإنسجام هذا النمط من التبرير مع فكرة الاستخلاف، التي جاءت بإرادة إلهية لعمارة الكون وصيانته، وإنّ العمارة والصيانة تصنعهما القوّة لا الضعف. العجز مرتبط بالعاجز والعاجز هو الإنسان، إذن ما يدور في فلك السلبية، وساحة العجز هو إنساني. والقدرة من سمات القادر، وإظهار القدرة يوحي بوجود صاحبها في ساحة الفعل، وكلّ ما يدور في فلك الإيجابية، فلا دور للإنسان فيه، إنّه فعل ينتمي إلى قوى فوقية، بتدخل الأرواح أو المقامات أو الكرامات.

إنّ الاعتقاد بشلل الفاعلية الإنسانية، هو رهان يعمل على تثبيته مَن كان له مصلحة في ذلك، ولا شك أنّ هؤلاء ينتمون إلى العقل الإيماني، لأنّ شلل الفاعلية البشرية يبقيهم أسياد الساحة، وهنا سأعود إلى سؤالي الرئيسي في هذا البحث، كيف يصنع تنمية مَن لا يستطيع مواجهة عجزه والخروج منه وتجاوزه؟

ستتم مهاجمة مَن يشكك بمواقف العقل الإيماني، لأنّ أصحابه ربطوه بالآلهة، ولا تجوز المساواة أو المقارنة بين القدرتين الإلهية والبشرية، ولأنّه يشكك بإمكانية القيام بتنمية تحتاج إلى قوّة بواسطة إنسان لا ينسب إليه إلّا العجز، إنّ الإنسان العاجز، أو الذي تم تعجيزه عنوة، لا يمكنه اجتراح التنمية►.

 

 المصدر: كتاب العقل الإيماني

ارسال التعليق

Top