• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

رمضان مدرسة تحرر وجهاد ونظام

د. أسعد سَحمراني

رمضان مدرسة تحرر وجهاد ونظام


(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...) (البقرة/ 185).
هذه الآية الكريمة تعرّف بفضائل شهر رمضان، شهر ابتداء نزول القرآن الكريم معجزة الإسلام المتواجدة بين أيدي البشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فالقرآن الكريم هو محور الإيمان والدين، وهو كتاب الإنسان، والدستور المشرّع لكل أفعاله، وفيه النظام الذي يتوجب عليه التمسك به في حياته.
في شهر رمضان وفي ليلة القدر كان نزول القرآن أو بدء النزول، حسب الروايات التي نقلت في هذا الموضوع بالتواتر، وبعدها تتابع نزول الآيات والسور وحيا على النبي محمد (ص)، في مكة والمدينة، ليكون مجموعها تشريع الله المنزل، من أجل الإنسان المستخلف، والتي أرسل بها النبي محمد (ص) رحمة للعالمين.
مهما يكن من أمر، يبقى من المهم أن نشير إلى أنّ رمضان يمتاز بأعظم فضيلة بين الشهور كلها، هي فضيلة نزول القرآن الكريم الذي بعث به محمد (ص) رحمة للعالمين، وحمل معه الهدى والنور لينقل الإنسان من الظلمات إلى النور، وليدعوه إلى التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وبذلك بات اتباع هديه طريق السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
الآية التي نتلمس محاولة فهم ما تحمله من مضامين، تدور حول ثلاثة عناصر رئيسة هي: القرآن + الإنسان + رمضان.
إنّ ترابط العناصر الثلاثة يؤكد لنا من جديد انّ الرسالة كانت تتوخى بقرار من الله تعالى خالق الإنسان، ومنزل القرآن، والمحدّد لفريضة الصيام في رمضان، مصلحة الإنسان المستخلف في الأرض، فإذا بالرسالة تمثل دور المنقذ من الضلال لكل طالب للهداية والنجاة، وتبيّن حدود الله التي يجب أن لا يقرّ بها أحد، وترسم الصراط المستقيم فتوضح الحلال والحرام، وتدل الناس على ما هم مكلفون به.
بعد هذه التحديدات العامة، لنعد إلى رمضان الكلمة المشتقة من الرمض وهو شدة وقع الشمس على الرمل أو غيره، حيث يقال بأن هذا الشهر سمّي برمضان لأنّه يرمض الذنوب، أي يحرقها. وحتى لا يحرم أحد من نعمة حرق الذنوب فرض الله تعالى الصوم فرض عين على الجميع، العالم والجاهل، والكبير والصغير، والذكر والانثى، وفرض الصيام ركنا من أركان الإسلام كالصلاة والزكاة.
نصل من ذلك إلى القول أن اتمام فريضة الصيام التزام بأمر الله تعالى وتطبيق لأحد أركان الإسلام، حيث يتعلم الإنسان مع هذا الالتزام والتطبيق التحرّر، كيف لا؟ وفي رمضان امتناع عن اللذة اختياراً، فالصائم يمتنع إرادياً عن اشباع غرائزه وشهواته، ليس خوفاً من سجن، أو مراعاة لدستور سنّه حاكم من البشر، وإنما يمثل هذا الالتزام الارادي أرقى درجات الترفع فوق الماديات سموا إلى الارتباط بحبل الله تعالى الذي يشكل سفينة النجاة للفرد والجماعة.
نعم الصوم مدرسة الأحرار، لأنّ العبودية ليست إلا عادات متحكمة، وشهوات يلهث من فقدوا الإيمان لاشباعها، وملذات مادية مجردة عن كل معنى روحاني أو إنساني يطيعها من تعلقوا بالحياة الدنيا وبقانون عضوي، يقرب من شرعة المخلوقات العجماء.
تقودنا هذه التعريفات لأن نتبيّن بأنه في الصيام تسليم وعبودية خالصة لله عزّ وجلّ، حيث تشكل هذه العبودية لله وحده طريق التحرّر للإنسان المستخلف في الأرض من كل تعلق بالماديات، والناس الذين ولدتهم أمهاتهم احرارا، يستمدون من رمضان العزم على تحقيق الكرامة والعزة اللتين وعدهم بهما الله تعالى بقوله في الكتاب العزيز: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/ 8). وفي هذا خير دافع للجهاد والعمل من أجل مواجهة العدو بعد الاعداد لذلك. أما عدم التسليم والعبودية لله وحده ففيهما ظلم للإنسان نفسه، منطلق من ذاته وهو مسببه لأنّه عصى فنال جزاء ما كسبت يداه. وبهذا تطالعنا الآية الكريمة: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله أنّ الشرك لظلم عظيم) (لقمان/13).
إنّ شهر رمضان يعوّد الإنسان على تحكيم عقله وإرادته، وتقنين اشباع نزواته، ويبعده عن الميل إلى الأهواء. وإذا كان الجهاد ضد النفس الأمّارة بالسوء أمرا مطلوباً ممارسته، لكي ينتقل بعدها الإنسان إلى الجهاد في المجتمع، فإنّ الصوم من الامتحانات الأساسية لنجاح الإنسان في شهادة الجهادية.
قد يعاني الإنسان من جوع وعطش وتعب بسبب الصوم، ولكن كل هذه هي مواد تلقّنه مادة التمرد على عبودية العادات، والحياة الرتيبة التي يستسلم فيها الإنسان للأمر الواقع، وإذا نجح في مادة التمرد هذه فإنّه يكون قد نجح في شهادة الجهاد ضد النفس، وعندها يمكن أن يقال عنه: لقد حصّل أول مؤهل للانتساب إلى صفوف الاحرار. وإذا ما فشل الإنسان في نيل شهادة الجهاد ضد النفس والتي يمكننا أن نعدّ الصيام مادتها الرئيسة، عندها سيقال: من يفشل في تحرير ذاته، وفي التحكم بشهواته، وينهزم في ضبط عالمه الداخلي، وتهن إرادته أمام نزواته، لا يرجى منه خسير في الصمود أمام تحديات عالمه الخارجي، وبذلك يكون قد جرّد من أولى مقوّمات الشخصية المتحررة.
من ينهزم أمام معسكرات نزواته. وشهواته، بالله عليكم كيف سينتصر على من هو أعتى وأقوى من الأعداء؟ لهذا يمكن أن نسمي رمضان شهر الحرية، ومدرسة الجهاد.
الصيام ليس جوعاً وعطشاً، وامتناعاً عن اشباع الشهوات، بل له غرض وراء ذلك، هو ما حدّدناه آنفاً. ولذلك يمكن القول أن كل صائم فاهم لمعنى الصيام، وحكمة الشارع من فرضه على المؤمنين، ومتحقق من أحكامه وفلسفته، يكون حكماً مناضلاً عاملاً في سبيل الحق، لا تلين عزيمته، صامداً في ساحات الصراع ومقارعة الأعداء، لا يقبل الهزيمة ولا الضيم، وإنما تراه دائماً كريماً حراًَ لا يسكت لذل يناله، أو عبودية يفرضها عليه أي إنسان.
وإذا كان الصبر من أسس المواجهة، والتحضير لها، مع الأعداء، فإنّ الصيام يعوّد الإنسان على الصبر وتحمل المشقات، فهو يقوّي الإرادة ويشحذ العزيمة، ويربّي الإنسان على التعوّد على القانون والنظام اللذين تفرضهما الإرادة، وينبعان من الذات، وتبدأ العملية التربوية من تنظيم اشباع الشهوات، وتحكيم العقل لا الأهواء في كل فعل يقوم به الفرد.
إنّ الصيام بهذه المنهجية يقوم بتعويد الإنسان على الموضوعية بدل الذاتية، وبذلك يبعد الإنسان عن الأنانية والاثرة، فينطلق من الاهتمام بالذات إلى الاهتمام بالجماعة وتماسكها، وهذا طريق الانتصار. فرمضان موسم عبادة لتهذيب النفس، وتقوية قواعد التعاون الاجتماعي حيث يشعر الإنسان بآلام البائسين والفقراء، وبذلك يكثر فيه التصدق وصلة الأرحام، ومواساة الجار والصديق. وهذا الجود هو سنّة نبوية في شهر رمضان، ويقول النسائي في سننه: "أخبرنا سليمان بن داود عن ابن وهب، قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة، أن عبدالله بن عباس كان يقول: كان رسول الله (ص) أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من شهر رمضان فيدارسه القرآن. وقال: كان رسول الله (ص) حين يلقاه جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة".
يخلق الجود تآخيا بين أبناء المجتمع، بالإضافة إلى المصدر الآخر للوحدة ألا وهو ذلك الالتزام الواحد للإنسان كل إنسان بوقت معين، لبدء الطعام والشرب وتلبية رغائب الذات من الحلال، ووقت معين محدد للتوقف عن كل ذلك. هذا النمط الموحد يربّي في الفرد حاسة مشاركة الآخرين والتعاقد والتعاهد معهم على القيام بأفعال متشابهة، وبأوقات واحدة.
وإذا كان الصيام والامتناع الارادي عن اشباع الغرائز، شكلاً من أشكال الطاعة التي تساعد على تقبل الحدود والنظم عند الفرد، فإنّ النظام يتجلى في كل مظاهر رمضان، من الجوع الواحد للجميع إلى الامتناع الواحد عن كل لذة، إلى صلاة الجماعة التي كثيراً ما تقام في رمضان، إلى افطار واحد عند الغروب إلى غير ذلك. ولعل المسلم المتعود على النظام الملتزم به طوعاً في أركان الدين، لا يصعب عليه الانخراط في المؤسسة، والانضباط وفقاً لقواعد نظام عادل، كما أن من تعود الانتصار على شهواته وذاته لا يعجز عن تفجير الثورة ضد كل منكر يراه..
يؤخذ المثل من التاريخ، فعن الطاعة يمكننا التحدث عن آخر جيش أنفذه الرسول (ص) باتجاه فلسطين لمحاربة الروم والذي سلم قيادته ورايته لشاب صغير السن هو أسامة بن زيد، ومع ذلك أمر الجميع التزام قيادة أسامة التي قبلها الجميع، علماً أنّه كان في جيش أسامة ذاك من هو من كبار الصحابة ومن يفوقه تجربة حربية، ومن هو سابق عليه إسلاماً. والمثل عن الثورة الجهادية دون مبالاة بالنتائج يؤخذ من واقعة كربلاء واستشهاد الامام الحسين (ع) وجمع كبير من آل البيت الطيّبين المطهرين.

ارسال التعليق

Top