بدأ النقد العربي صِلاته بالتلقي، منذ الإرهاصات الأولى التي تشكل عندها النقد. فإذا كان نقد النصوص مرافقاً للشعر، فإنّ التلقي مرافق للإثنين. فتاريخ النقد وتاريخ الشعر يرافقهما تاريخ للتلقي. وهذه بديهة يشهد بها الأدب ويلهج بها النقاد لكن تكوين إطار معرفي يستند إليه التلقي بصفته ظاهرة لصيقة بالنص حدث بعد أن تطور المفهوم الأدبي والنقدي وظهرت كتب النقد ومصنفات البلاغة وأصبح التبليغ والإبلاغ والتبيين والبيان من قضايا النقد الجوهرية، فكنه الظاهرة الكلامية وهي مادة الأدب (إبلاغيه بلاغية) إذ تشير ظاهرة التلقي إلى استيفاء المعنى الأدبي واستخلاصه من النصوص. وكيفية تلقي النص وأثر النصوص في نفوس متلقيها هو جوهر القضايا النقدية بل هو جوهر الأدب، فللنص مواضعاته وله صفاته وطرقه في التبيين والاستمالة وللمتلقي مواضعاته أيضاً وله طرقه في فهم النص واتخاذ موقف منه... وله أيضاً استعداد نفسي إن قل أو ضعف قل التأثير أو انعدم.. لكن كلاً من الشاعر والمتلقي يضمهما نظام بياني واحد، هو البيان العربي.. وإنّ هذه المرجعية توجد قطعاً تفاهماً بين الطرفين، يجعل أحدهما في حوار دائم مع الآخر، لا سيما حوار المتلقي الذي يستجيب للنص، ينفعل به ويتأثر. فليس المفهوم الجمالي وحده هو من تضع البنية البيانية العربية نفسها من أجله، بل يقف معه المفهوم القيمي وهو يحث على الفعل وينسجم مع التغيير. ويمكن تلمس المهام الدقيقة لنظام البيان هذا منذ البوادر الأولى لنشأته ونفاذه في العقل والوجدان. وحين يمتلك هذا النظام منطق الوجود الكلي الذي يتبلور في الرؤية الحاثة على الفعل، يكون للعاملين الأساسيين (النص والمتلقي) هيمنة أساسية لا شكلية، وإذ وجد مسوغ يسمح باقتران الكاتب والنص على أساس العلاقة الوثيقة بينهما وعلى اعتبارات أخرى تمس جوهر الظاهرة الأدبية، فإنّ نظام البيان بُنيَ على ثلاثة أسس هي الشاعر والنص والمتلقي، تحمل كلها هيكل البناء، ويمثل المتلقي الركيزة الأولى فيها... فما صفات هذا المتلقي الذي شكل ركيزة البيان؟
ليس نظام البيان العربي نظاماً استطرادياً، يعنى بوضع قواعد ويطالب بتطبيقها فقط.. وإنّ حالة البيان ليست من الأشياء المتحصلة في الفكر التي يمكن الإمساك بها والتصرف على وفق ما تتيحه من إمكانات، وليست هي أيضاً بالغائبة التي تتسامى في علو مطلق وتترفع عن كل ما يبصر ويجسم.. بل هي نتاج العقل حين ينزع نحو الوحدة والتنظيم وهي نتاج الوجدان، حين يجعل لهذه الوحدة لوناً وذوقاً وجمالاً. وإمكانات العقل لا تحد وإمكانات الوجدان ممتدة ما امتدت النفس البشرية في نوازعها وطموحاتها وأفقها غير المحدود.
وإذا كان نظام البيان ممتداً في جانبيه العقلي والوجداني فكيف يحد المتقبل أو المتلقي بنظام غير محدد أصلاً؟ وليس هنا موضع إشكالية معينة في الفكر، لأنّ الإشكالية توجد حين لا يوجد جواب شافٍ يستجيب لسؤالها.. ولكنها مواضعة فكرية أثبتها نظام البيان العربي وفصلها وأوجد لها حيزاً في كتب النقد والبلاغة.. فالمتلقي هو الكائن المحدود في مواجهة نظام واسع الآفاق مطلق الإمكانات.. وأمام حرية المتلقي في تقويم النص تقف حدود اللغة. التي تجمع النص والمتلقي في حيز واحد محدد الأبعاد.. وطبيعة اللغة محددة لأفانين القول ولولا هذا التحديد ما اجتهد الأدباء في سلسلة طويلة من طرق المجاز والعدول.. كل ذلك خروج على التحديد، وهو مع ذلك موصول بإمكانات اللغة.. لأننا لا نستطيع إلا أن نصف أنواع الخروج هذه باللغوية، إنّه خروج على اللغة وعودة إليها في الوقت نفسه، وتنويع لا يلغي الأصل ضرورة.. فالمتلقي إذاًَ هو المطلق من حيث الفكر المحدد من حيث اللغة، وبين الاطلاق والتحديد يتشكل فعل التلقي ويتجلى الحوار المطلوب مع نصوص الأدب. وإذا كان لنظرية التلقي خصوصية في إطار نظام البيان فإنها خصوصية وردت إليها من الاستعمال، فقد أوجد النص القرآني فضاء جديداً من التعامل بين النص والمتلقي.. حقاً لم يخرج النص المعجز على كلام العرب ولكنه ليس امتداداً له، فقد أثبت في الذاكرة السامعة والقارئة نظاماً في استعمال اللغة، وطريقة جديدة في الإصغاء حين يكون القرآن مرتلاً، وفي القراءة حين يكون مقرؤاً.. طريقتان في التلقي ظلتا تلازمان النص المعجز طوال العصور، ولا تجور إحداهما على الأخرى، مهما تعددت وسائل الكتابة وكثرت القراء، ومنح النص القرآني متلقيه حرية في اكتشاف دلالاته المتجددة، فوسعت هذه الحرية لذة الاكتشاف لدى المتلقي فالأساليب اللغوية المستخدمة وإن أصبحت معطاة بفعل ثباتها في النص، غير أنّ التمعن فيها كل حين يضفي عليها جدة وديمومة، لأنّ معانيها ممتدة إلى غير نفاذ. فالمتقبل في التراث النقدي هو الذي قرأ القرآن وسمع تلاوته وأدرك جزءاً من جمال الصياغة فيه، وهو مَن أدرك معنى حرية القراءة في مواجهة نص أعجز الخليقة عن الاتيان بمثله، فهو ليس مستهلكاً للنص بل عنصر مفكر فيه. لقد أوجد القرآن هذا النوع من التلقي إذ يوقظ الوعي وينبه الفكر إلى جملة من الأساليب الجمالية، التي تضفي على السياق خلابة أخاذة... فالمطلوب أن (يتمعن) المتلقي في كلمة الله، ليترسخ الإعجاز في نفسه وليكون قبوله القائم على الوعي وأعمال الذهن طريق الهداية الصالحة القويمة.
وأول خطاب وجه إلى المتلقي هو خطاب الاعتبار المسمى بالنصبة وهو واحد من الدلالات الخمس التي ذكرها الجاحظ. فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد، وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض وفي كل صامت وناطق وجامد ونام، مقيم وظاعن، وزائد وناقص، فالدلالة التي في الموت الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة والعجماء معربة من جهة البرهان، ولذلك قال الأول (سل الأرض فقل: مَن شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حواراً، أجابتك اعتباراً لقد أصبحت أشياء الكون واسطة لإيصال رسالة إلى المتلقي ليتمعن في جوهر الأشياء الماثلة أمامَه وحقيقة وجودها وموجدها، فإنّ باعثها هو الله سبحانه، فأساس خطاب الاعتبار إذن أعمال العقل وتحريك الفكر فالمتلقي كما أريد له أن يكون، رابطاً الأسباب بالنتائج موصلاً الظواهر بأصولها، فالنصية (أداة تواصل تحمل رسالة صامتة أو خطاب بالحال.. ومصدر الرسالة وباثها هو الله خالق العالم، ومتلقيها هو الإنسان الذي يتأمل الكون من حوله فيستخلص منه وجوه الحكمة الإلهية).
من صور التوجه القرآني نحو المتلقي التي تثري النص وتزيد غناه المعرفي وأثره الجمالي قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى...) (الرعد/31) وقوله عزوجل: (كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) (التكاثر/5) فقد ترك الجواب لأنّه من شأن المتلقي، فكأنه قال (لكان هذا القرآن) وكأنه قال في الثانية: (لأقلعتم عن باطلكم أو لتحققتم مصداق ما تحذرونه).
فالمتلقي السامع للقرآن والقارئ له هو الذي شكل دلالة الجواب، لقد أبقى نص القرآن الكريم الجواب مفتوحاً وإن أوحى به خير ما يكون الإيحاء.. أراد أن يبقي للمتلقي دوراً موافقاً يشكله بنفسه كي يتواصل ويتمعن ويُغذ السير في استجلاء معاني النص.. ونستطيع أن نضع عدداً من الأجوبة في صياغات متعددة وفي إطار المعنى السياقي الذي أساسه التصديق بوعد الله والتحذير من تجاوز حدوده سبحانه.
وقال عزوجل: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) (الزمر/71). يلاحظ أنّ حذف الجواب وضع المتلقي في أقصى حالات الترقب والانتظار وهذا الترقب قائم على موحيات لفظة (الجنة)، أبوابها ورياضُها وثواب العابدين الذين يدخلون جماعات ليتلقوا وعد الله لهم بالخلود... لقد شحذ النص القرآني خيال المتلقي وأيقظ ذهنه، ليتواصل مع النص ويدرك مغزى الجواب المحذوف (وإنما يحذف الجواب في مثل هذه الأدوات المقتضية الجواب لقصد المبالغة، لأنّ السامع يترك مع أقصى تخيله بتقديره أشياء لا يحيط بها الوصف).
إنّ تقدير الوصف ترك للسامع والقارئ، ولو شاء المرء أن يرى الجنة من خلال الأوصاف والنعوت التي خص بها القرآن هذا الموئل المقدس لما خرج بتصور واحد معين، بل بتصورات عديدة تحاول كلها الإحاطة بهذا الوعد الإلهي، فالمتلقي في القرآن هو ذلك الذي يعمل الفكر لكي يتحصل المعنى تحصيلاً ويستخدم طاقة الخيال لرؤية ما يوحي به النص.
فالتوجه نحو المتلقي إذن وجه من وجوه الإعجاز في القرآن، وهي حقيقة مهمة انتبه عليها أبو سليمان الخطابي (388هـ ) حين قال: (قلت في إعجاز القرآن وجهاً آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذا رع السمع خلص إلى القلب من اللذة والحلاوة في الحال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر منه النفوس وتنشرح له الصدور حتى إذا أخذت حظها منه، عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق ويغشاها الخوف والفرق تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها.
إنّ هذا التوجه نحو المتلقي ميزة خاصة وسمة من سمات النص القرآني الكثيرة، وهو يتجلى في مخاطبة الأنبياء (ع) للأقوام الخارجة عن الإيمان فأسلوب الحوار وطريقة التخاطب التي يستخدمها الأنبياء وما تتضمن من أبعاد نفسية وجمالية، تحمل المتلقي على الإنصات لقوة المحاجة العقلية ووضوح البينة، فيقف متأثراً مفكراً في الكلام نفسه وفي أبعاده القصصية التي تظل لصيقة بالذاكرة، قال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر/28).
يكشف النظر في هذه الآية الكريمة نوعاً خاصاً من توجه النص نحو المتلقي، ذلك المتعلق بالإقناع والتأثير، والحوار والدليل البياني واستمالة المتلقي بلطف، على الرغم من الحجة الواضحة، التي يضعها النص أمام المتلقي.. وفي النص القرآني هذا نوع من التحذير ورد بصورة لطيفة سهلة يقتضيها السياق، إذ لم تبدأ الآية بالتحذير بل بالحث على الرؤية والتفكير والتمعن.. أما السؤال الذي استخدم حرف الاستفهام (الهمزة) فقد ترك دون جواب، لأنّ الجواب مضمن فيه وعلى المتلقي إخراجه، وقد يقود هذا التساؤل إلى التوبيخ من نية القوم في قتلِ رجل لمجرد قوله ربي الله، وبعد أنّ أخذ النص من المتلقي انتباهه كله، عضد ذلك بالنصيحة الصادقة وهي إغراء المتلقي للتمعن من جديد في جوهر الآية، أي إنكم إن عدلتم عن القتل فإنّ النفع أكيد، بينما القتل ليس فيه إلا الضرر.
قال ابن الأثير معلقاً على هذه الآية: (ألا ترى أحسن مآخذ هذا الكلام وألطفه، فإنّه أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال: لا يخلو هذا الرجل إما أن يكون كاذباً، فكذبه يعود عليه ولا يتعداه أو يكون صادقاً، فيصيبكم بعض الذي يعدكم إن تعرضتم له. وفي هذا الكلام من حسن الأدب والانصاف ما أذكره لك، فأقول إنما قال: (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) وقد علم إنّه نبي صادق وإن كل الذي يعدهم به لابد وأن يصيبهم، لا بعضه لأنّه احتاج في مقاولة خصوم موسى (ع) أن يسلك معهم طريق الانصاف والملاطفة في القبول، ويأتيهم من جهة المناصحة ليكون أدعى إلى سكونهم إليه).
ولعل ما جرى من ميل القول والحوار بين إبراهيم (ع) وأبيه، حين دعاه إلى الإيمان، يوضح المنزلة التي وضعت للمتلقي في التنزيل الحكيم، فضلاً على نمط الخطاب الذي يأخذ بعين الاعتبار موقع الأبوة والبنوة وإن كان الأب غير مؤمن، فإنّ الكلمات أفعمت بعاطفة قوية، عاطفة الابن، إبراهيم، وإدراكه مقدار الخطأ الذي انساق عليه أبوه، إنّه أولى الناس بالهداية فقد رتب القول على وفق طريقة فائقة الدقة، ووضع المتلقي بسبب هذا النظام الخاص في القول أمام سياق يشد الانتباه ويهز العقل ويذهب عميقاً في الوجدان، وقد سدّت أمام المتلقي بسبب تتابع الكلمات الكريمة كل حجة، فأصبح في مواجهة هذا الانسياب الجميل في اللغة.
قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) (مريم/41-45) وقد أضفى حرف اللين والمد (الياء) المفتوح والمطلق على النص بعداً يأخذ بمجامع القلوب ويتجاوب مع نظام التتابع في الكلام والانتقال من حالة قولية إلى أخرى لها علاقة وثقى بها.. فبين العلم الذي ورد على إبراهيم وبين أتباع أبيه له علاقة وثيقة، يضمها نظام الكلام القرآني أما نهايات الآيات فقد تجاوبت مع المعنى الكلي العام فهي من خلال صورتها اللفظية الموحية، تخاطب أعماق النفس ومكامن الوجود لأنّ خطاب إبراهيم لأبيه ما كان إلا عبرة ومثلاً.
ويلاحظ مقدار احتواء هذا النص الكريم على اللين والرفق لا سيما تكرار حرف النداء والمنادى، ليصنع معادلاً في ذهن المتلقي بين دعوة الناس إلى الله ومنهم أبوه والخلق الرفيع ولتظل الذاكرة على مدى العصور يقظة تربط بين علم الأنبياء وأخلاقهم، وقال جل شأنه في أهل الجنة: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) (البقرة/25). فقد قال المفسرون: (إنما كانت ثمار الجنة مثل ثمار الدنيا في اللون دون الطعم، لأنّ الإنسان إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدم له معه ألف، ورأى فيه ميزة ظاهرة وفضيلة ثابتة وتفاوتاً بينه وبين ما عهد بليغاً، أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه وتحقق مقدار الغبطة به. يضع هذا التفسير للنص القرآني الكريم المتمعن فيه أمام عنصر مهم في مجمل عملية التلقي ألا وهو المفاجأة، فقد أشار النص إلى قيمتها في الإحساس باللذة وإن تحقق ذلك في الطعام عند أهل الجنة... ولو نقلنا ذلك إلى النص فإنّ عنصر المفاجأة لا يقل تأثيراً عن الأول، وقد انصرف التفسير كما هو واضح إلى شمولية الظاهرة لوم يقصرها على الحدث الذي وردت فيه. والله أعلم بالطبيعة البشرية. وهو الذي وسع علمِه السموات والأرض، فالاستغراب والغبطة علامات فرح المتقبل وإقباله، فإذا تحقق ذلك في النص، كان مدعاة للتفاعل بينه وبين المتلقي.
إذن الميزة هي في الجديد الذي لم يؤلف ولم يسبق به عهد.. والمفاجأة تكسر الاعتياد والرتابة وتقود قطعاً إلى الجدة.. ويلاحظ خصوصية التركيب الجمالي في القرآن الكريم التي تعني المتلقي أولاً وآخراً، مثل قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) (الحجر/94) وهو أبلغ من قوله فاعمل بما تؤمر وإن كان هو الحقيقة كما يقول أبو سليمان الخطابي: (والصدع مستعار وإنما يكون ذلك في الزجاج ونحوه من فلق الأرض، ومعناه المبالغة. أمر به حتى يؤثر في النفوس والقلوب تأثير الصدع في الزجاج ونحوه... فالمعاني التي لها وقع في النفوس هي المعاني المقصودة في نظام البيان العربي، وأوجد النص القرآني طريقاً مفضياً إليها بوسائل البيان، وبالعوامل المكونة للنص، فلا غرابة إذن أن يسمي حازم القرطاجني المعاني التي ليس لها وقع في نفوس الجمهور بالمعاني الدخيلة (... والصنف الآخر وهو الذي سميناه بالدخيل لا يأتلف منه كلام عالٍ في البلاغة أصلاً، إذ من شروط البلاغة والفصاحة حسن الموقع من نفوس الجمهور) ونتوقف عند عبارة (حسن الموقع) التي أشار إليها حازم.. فهي تعني فيما تعنيه الإحساس بالجمال، فما كنه المسألة الجمالية في النقد العربي؟؟ إنّ المتلقي هو الذي يكتب النص من أجله ويتوجه به إليه، وهو الذي تعنيه قيم النص الجمالية، ولكن الجمال في النقد العربي ليس الشعور باللذة فقط، فهذا الشعور جانب واحد لا يتكامل المفهوم الجمالي به وحده. وقد تكون ميزات الخطاب الشكلية كافية لإحداث اللذة، ولم يكن هذا منزع النقد العربي ولا الفكر العربي في فهمهما للقيمة الجمالية. إذ أنّ جمال النص يشكله عاملان أساسيان حققهما ابن طباطبا في عيار الشعر، وأحسب أنّ النقد العربي قد تمثل هذين العاملين، وتفحص أثرهما. قال ابن طباطبا في إشارة إلى العامل الأول: (... فالعين تألف المرأى الحسن وتقذى بالمرأى القبيح الكريه، والأنف يقبل المشم الطيب ويتأذى بالمنتن الخبيت، والفهم يلتذ بالمذاق الحلو ويمج البشع المر). فهنا إدراك لفاعلية الحواس وأثرها في تمثل الإحساس الجمالي، فالحاسة هي التي تستمتع بآثار الجمال.. غير أنّ هذا العامل يبقى دون اكتمال حتى يتحقق العامل الثاني، ويمكن فرز هذا العامل وتشخيصه من كلام ابن طباطبا نفسه في أثر الجميل وهو أن (يسل السخائم ويحل العقد ويسخي الشحيح ويشجع الجبان) وإذ يرتبط كلامه الأول باللذة والمتعة الجمالية الخالصة ينصرف كلامه الآخر إلى الحث على الفعل. قطبان أساسيان يشكلان جوهر القيمة الجمالية عند العرب. وجوهر الخطاب الأدبي (شعراً كان أم نثراً)، إذ تتركز العناية بالمتلقي انطلاقاً من هذين العاملين.
إنّ توجه النقد العربي نحو المتلقي، وعنايته بالأدب الذي يشكل المتلقي بعداً من أبعاده ويشارك في صوغ أثره الجمالي يضعنا أمام عدد من المبادئ الأساسية التي تصح مدخلاً لتلمس حقيقة الجهد النقدي في جانبه المتعلق بالتأثير.. نشير هنا إلى أربعة من المبادئ التي لها دلالة على إيضاح القصد النقدي وما ينطوي عليه من فهم واستيعاب وتجل للظاهرة الأدبية في جانبيها الأساسيين الإنتاج والتلقي.. وهذه المبادئ نوجزها كما يلي:
1 ـ الصواب وإحراز المنفعة:
يمكن اعتبار هذا المبدأ أحد مصادر التلقي عند العرب، قال بشر بن المعتمر: (مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة). يلخص هذا القول اتجاهاً دقيقاً ومهماً في النظرية النقدية والبلاغية عند العرب، إذ أنّ القصد الحقيقي من الخطاب الأدبي هو توجيه المتلقي إلى فعل شيء أو تركه. وهذا الهدف الأساسي الذي أثبته الجاحظ يلتقي مع مجمل الهدف الفكري في القرآن الكريم، فإذا كان هدف التنزل هداية البشرية إلى طريق الحق والصواب وهو فعل، فإنّ القول القرآني مدل عليه، بل هو إياه، وبذلك يمكن القول إنّ المنازع القولية عند العرب هي منازع فعلية، وقد التقط بشر هذه الحقيقة مستفيداً من الإرث الثقافي واللغوي الذي سبقه ومستشرفاً فيه ما سيأتي، فالفعل هو الهدف النهائي والأخير لكل قول أدبي أما الفن فهو المتضمن في هذا القول إذ يشكل مع الفعل أساس بنيته التكوينية. فكلامه الذي نعده أحد المداخل المهمة لنظرية التلقي، يشير إلى جانبين مهمين أحدهما مؤد إلى الآخر: الأول شروط إنتاج الخطاب الأدبي، إذ ينبغي أن يتحقق فيها الصواب والثاني مآل هذا الخطاب وغاياته.
2 ـ بروز الشيء من غير معدنه:
هذا المبدأ (بروز الشيء من غير معدنه) أولاه النقد أهمية متزايدة لا سيما أبو عثمان الجاحظ وعبدالقاهر الجرجاني. وله علاقة وثيقة بمفهم اللذة الأدبية وكيفية إيجادها في النص ومن ثم تأثيرها، لأنّ مفهوم اللذة متعلق بمفاهيم عدة قريبة هي الجدة، الاستطراف، التعجب، المفاجأة. فهي التي تحدث الاستجابة الجمالية لأنّ (الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع). ويبدو أنّ هناك نوعاً من التناقض بين المفاجأة التي هي العنصر المهم في تقبل النص والروية وإدمان النظر. يقول عبدالقاهر: (من المركوز في الطبع إنّ الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى وبالمزية أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف وكانت به أضن وأشغف). والمفاجأة تساعد على اكتشاف النص وطاقة الإيحاء فيه، وهذا الاكتشاف عماده الروية وإعمال الذهن.
فالمفاجأة إذن هي محصلة لمباشرة النص بالنظر والتمعن. والنقد العربي ممثلاً في الجاحظ وعبدالقاهر قد اطمأن إلى أنّ بروز الشيء من غير معدنه هو الصيغة الفضلى للنص ليحقق التأثير، وهذا الذي ذهب إليه النقد قائم على فهم النفس البشرية في إقبالها على البعيد الغريب المدهش وعدم اكتراثها بالمعاد القريب المتداول (مبنى الطباع وموضوع الجبلة على إنّ الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس به أكثر) إنّ بروز الشيء من غير معدنه قريب من مفهوم المفاجأة.. لذا فهو يشكل واحداً من مبادئ نظرية القراءة والتلقي عند العرب.
3 ـ دلالة الباقي على الذاهب:
إنّ الكلام الأدبي موئل احتمالات عدة.. وقد يذهب القراء والسامعون من تقليب أوجه النص مذاهب مختلفة ومتعددة، تتوقف على الدربة ورياضة النصوص الأدبية أو الثقافة الأدبية.. والوصول إلى الوجوه المحتملة للنص، طريقُهُ، دلالة الكلام الباقي.. أي النص، فالذاهب من النص يحصله المتلقي ويكتشفه. يقول ابن رشيق في العمدة مشيراً إلى حذف بعض الكلام لدلالة الباقي على الذاهب: (وإنما كان هذا معدوداً من أنواع البلاغة، لأنّ نفس السامع تتسع في الظن والحساب وكل معلوم فهو هين لكونه محصوراً).
توجه الاهتمام إذن إلى المجهول الذي هو ليس هيناً، هنا يلتقي ابن رشيق مع الآراء النقدية التي ترى إنّ فعل المتلقي قائم على الروية وإعمال النظر في استخراج المعنى الأدبي، والمتلقي الذي يستدل على المعنى المخفي بالمعنى الظاهر أو المحذوف بالمعنى الباقي هو متلقٍ ذو صفات خاصة. وهذا ما يريده النقد العربي للمتلقي، كونه عنصراً فاعلاً في توليد المعنى أو اختراعه، وما يوضح هذا المنحى المهم من مناحي النقد، ما قام به عبدالقاهر الجرجاني حين أسند للمتلقي مهمة جليلة في الاستنتاج والعمل العقلي والتخييلي للوصول إلى مغزى الخطاب، (حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعاً من الثمر). وهذا المبدأ ثابت في ذاكرة النقد وهو ينسجم مع طاقة الإيحاء والتخييل في الأعمال الأدبية.
4 ـ صحة الطبع وإدمان الرياضة:
من القضايا المهمة التي طرحها النقد التعليل، أي لماذا يؤثر هذا النص في المتلقي ولا يؤثر نص آخر مساوٍ له في الجودة وقد اكتملت شروط الصياغة والحسن في كليهما؟ إذا كان النقد العربي يقف من هذه المسألة المهمة موقفاً يناصر الذوق وهي حالة نفسية ذاتية فإنّ هذا النقد نفسه يذهب إلى ضرورة إيجاد مسوغ للاستحسان والقبول أو الرفض والصد.. وجهان رافقا النقد العربي منذ بواكيره الأولى، ونجد للتعليل ميزة على عدم التعليل في الكتابات النقدية المتأخرة إنّ المتلقي ينبغي أن يفسر سبب جمال الأعمال الأدبية.. إذن أنّه لا يتوصل إلى كنه هذا الجمال إلا بتعليله.
فالتذوق ليس عملاً فطرياً عفوياً بل هو يتحصل بجهد وإدراك وروية، ولو دققنا في قول القاضي الجرجاني الآتي لتكشف وجها العملية التذوقية (وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، تستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كل مذهب، وتقف من التمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن والتئام الخلقة وتناصف الأجزاء وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة وأدنى إلى القبول وأعلق بالنفس وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم وإن قاسيتَ واعتبرتَ ونظرت وفكرت لهذه الميزة سبباً ولما خصت به مقتضياً) لقد وضع الجرجاني يده على حقيقة النفس البشرية وصعوبة التحكم بالذائقة الفردية والجماعية.. غير أنّ النقد ما كان ليستقر على هذه المنازع النفسية فلابد إذن من التعليل ومعرفة الأسباب، لأنّ ترك الأعمال الأدبية في عهدة الذائقة الفردية قد يكون مضيعاً للغاية المتوخاة من النص الأدبي، فالمطلوب التفاعل مع جوهر النص ومعرفة عالمه الداخلي لا التأثير السطحي الخارجي وما قد يثيره من انفعالات عابرة.. والمسألة كما يرى الجرجاني متعلقة بعاملين أساسيين: طبيعة النص والمتلقي، فمن النصوص (المحكم الوثيق والجزل القوي والمصنع المحكم والمنمق الموشح ومنها: المختل المعيب والفاسد المضطرب) وقد تنصرف النفس عن القسم الأول وهو مشتمل على مواصفات الجودة ويكمن السبب في الحالة النفسية والشعورية والمعرفية أيضاً أي أنّ خلوص النص إلى عقل المتلقي وضميره لا يتوقف فقط على الجودة بل أيضاً على ما يراه المتلقي من مسوغ لتلك الجودة.
هذا مغزى كلام القاضي الجرجاني في القسم الأول، أما القسم الثاني وهو المختل المعيب والفاسد المضطرب، فإنّ مهمة المتلقي فيه أكثر صعوبة وهنا يحتاج إلى الرواية والدراية معاً كما يقول: (والآخر غامض يوصل إلى بعضه بالرواية ويوقف على بعض بالدراية ويحتاج في كثير منه إلى دقة الفطنة وصفاء القريحة ولطف الفكر وبعد الغوص، وملاك ذلك كله وتمامه والجامع له والزمام عليه، صحة الطبع وإدمان الرياضة، فإنهما أمران ما اجتمعا في شخص فقصرا في إيصال صاحبها عن غايته ورضيا له بدون نهايته).
وضع القاضي الجرجاني شرطين مهمين يقوم عليهما أساس رفض الأعمال الأدبية وهما صحة الطبع وإدمان الرياضة، وإذا كان صحة الطبع عنواناً لتفريعات عديدة تدخل منها الشروط الذاتية والموضوعية للمتلقي فإنّ إدمان الرياضة، يختص بمجال واحد ومهم جداً، وهو التجربة وكثرة قراءة النصوص الجيدة.. وهو عامل أساسي في تلقي الشعر خاصة، وقد حافظ القدماء على هذا الشرط سواء أكانوا رواة للشعر أم شعراء أم نقاداً.. فلا دخول في مضمار الشعر دون الرياضة.. ، فهو يعلّم سبب رفض النصوص الضعيفة الواهية النسج، وهذان الشرطان يصلحان أساساً لقبول الأعمال الأدبية أيضاً وإن لم يتطرق الجرجاني إلى ذلك، لأنّهما شرطان للتمييز، والتمييز يقود إلى التعليل.
المصدر: كتاب استقبال النص عند العرب
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق