تواجه اقتصادات الغذاء العربية أجواء السوق العالمية التي تحتمها المتضمنات الاقتصادية للعولمة، في زمن مازالت فيه القيود والمحددات الموردية سائدة على الصعيد المحلي في العديد من البلدان العربية، سواء من جراء انخفاض مرونة استخدام تلك الموارد، نتيجة جمود عوائدها، مثل معدل الفائدة وأجور العمل الزراعي، أو أنّها تتسم بقدر من الندرة مثل المياه ورأس المال. وبالنظر إلى أنّ قاعدة الموارد تعدّ مدخلاً أساسياً يُبنى عليه النسق الاقتصادي الزراعي، فإنّه يقتضي الابتعاد عن النماذج التجريدية لتطور إنتاج الغذاء عربياً، وذلك بسبب إحباطات التجارب التاريخية لتنمية الاقتصادات العربية المعاصرة، التي غالباً ما اعتمدت نماذج اقتصادية تتسم بالانفصام بين متضمنات هذه النتائج وحقائق الواقع الاقتصادي الزراعي العربي. ولذا يجب التشديد على تجنب الوقوع في خطأ تجريد النظام الاقتصادي الزراعي العربي. ولذا يجب التشديد على تجنب الوقوع في خطأ تجريد النظام الاقتصادي من مكوناته الموضوعية المحلية، ونمط تأثره بالمتغيرات الإقليمية، فضلاً عن التأثيرات العولمية، ولا سيما أنّ تأثر الغذاء بمتضمنات العولمة سيقود إلى ارتفاع أسعاره في المدى القصير في أقل تقدير، وهو ما ينعكس سلباً على اقتصادات الأمن الغذائي العربي في البلدان ذات الدخل المتوسط والدخل المنخفض.
وبناءً عليه، يقتضي أن يكون استشراف اقتصاد الغذاء العربي اجتهاداً علمياً منظماً يستهدف صوغ مجموعة من التنبؤات المشروطة، وحقائق الأوضاع الغذائية السائدة، ولا سيما أنّ مسألة إنتاج الغذاء على الصعيد العربي شهدت إشكاليات متعددة، سواء من حيث الكميات أو الأسعار (العرض أو الطلب)، خلال الحُقبة الزمنية الماضية. وقد أثرت تلك الإشكاليات في أوضاع الأمن الغذائي في معظم البلدان العربية، ولا سيما غير النفطية، مما ترتب عليه عجز غذائي لدى أفراد المجتمع، وبنسب متباينة.
إنّ أساليب التكامل والتنسيق الإقليمي في مجال استخدام الموارد الاقتصادية الزراعية تتقدم قائمة الخيارات الممكنة لتعظيم منافع الأمن الغذائي وتقليص أعبائه. وهناك مساهمات نظرية متعددة لتحقيق التكامل الإقليمي، وفي مقدمتها دراسة كلّ من باستل وميساروفيتش (Pestel and Mesarovic) اللذين أشارا فيها إلى اتساع إمكانات نمو الغذاء على الصعيد الإقليمي مقارنةً بإنتاجه محلياً، ولا سيما أنّ إعادة توزيع الموارد الزراعية (العمل ورأس المال) ستؤثر في الكفاءة الإنتاجية من خلال إمكانية إعادة البنية المزرعية باتجاه السعات المُثلى، التي يتأتى عنها خفض تكاليف إنتاج وحدة الغذاء وزيادة إنتاجه، وذلك لاختلاف تكاليفه النسبية في ما بين البلدان المنضمة إلى التجمعات الإقليمية.
وبعبارة أخرى، كلما ازداد حجم الاقتصادات الزراعية المنضوية تحت إجراءات التنسيق والتكامل الزراعي الإقليمي، تنامت المنافع المتأتية من إنتاج الغذاء، سواء من خلال تزايد السعة السوقية أو من خلال الوصول إلى أحجام مزرعية كفء. وستنعكس هذه الآثار الاقتصادية على العلاقات الاقتصادية الخارجية أيضاً، الأمر الذي لا تتعارض معه التكتلات الإقليمية ومسارات النظام الاقتصادي الدولي الجديد (العولمة)، بينما لن يكون لوجود وبقاء أوضاع إنتاج الغذاء على الصعيد المحلي تأثير في اقتصاد الغذاء العالمي، أي أنّ مرونة الطلب على صادراته أو مرونة عرض وإرداته لا يكون لها تأثير محسوس في الأسواق العالمية للغذاء، لتواضع حجومها على الصعيد العالمي، في حين إنّ تأثيرهما يأخذ في الظهور مع توسّع الأسواق العربية المتكتلة إقليمياً لارتفاع حجم التعامل مع الأسواق الخارجية بالسلع المذكورة.
وجدير بالذكر أنّ التنوّع المناخي واختلاف بيئة الإنتاج المحصولي بين معظم دول الأقاليم العربية، يعدان جزءاً من الاقتصادات الزراعية المحلية داخل التكتل الإقليمي عن مفهوم الأوضاع "التنافسية"، ويقرّبانها من نظيرتها "التكاملية"، وهو ما يشير إلى تزايد الأوضاع الإنتاجية المؤدية إلى تحسن الأمن الغذائي العربي ما بعد الصيغ التكاملية مقارنةً بما قبلها. أمّا في ذلك الجزء من الإنتاج بين دول الأقاليم، وهو ما يعدّ "تنافسياً"، أي أنّ الدول تنتج سلعاً غذائية متشابهة قبل الدخول في الأوضاع التكتلية على مستوى الإقليم، فإنّ الإجراءات التكاملية ستزيد في كفاءتها الإنتاجية، ومن ثمّ قدراتها التنافسية.
وينبغي التحفظ والتحوط تجاه عولمة الغذاء؛ إذ إنّ التغيرات في الاقتصادات الزراعية العربية، ولا سيما في البلدان الكثيفة السكان (ذات عرض العمل الزراعي المرتفع)، ستواجه بصعوبة توازن المزرعة في الأمديتين الزمنيتين القصيرة والمتوسطة في أقل تقدير، في ظل المنظمات الاقتصادية للعولمة، والمعتمدة على مفاهيم النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة. ويعود ذلك إلى أنّ معظم أسواق العمل العربية تعاني فائض عرض هذا المورد، وأصبحت الدول المستقبلة لهذا الفائض محكومة بمستويات الأجور في دول الجوار (أو دول أخرى مثل دول شرق آسيا) لا بعلاقات الأجر والإنتاجية داخل كلّ من هذه الأسواق، وفقاً للعلاقات الاقتصادية الجزئية.
وفي ظل هذا الاحتمال، فإنّ اقتصاد العولمة سوف لا يؤدي إلى انتقال مورد العمل ذي الأجور المنخفضة إلى أسواق العمل ذات الأجور المرتفعة، وذلك لأسباب بعضها اقتصادي وبعضها الآخر اجتماعي، إنّما الاحتمال الأكبر هو انتقال الاستثمار الزراعي الأجنبي المباشر إلى حيث تكون الأجور أدنى، وبذلك يعود جزء كبير من "القيمة المضافة الزراعية" إلى رأس المال الأجنبي المستثمر لا إلى العمل العربي، الأمر الذي يرجّح الاتجاه نحو تكوينات إقليمية عربية لإنتاج الغذاء كإحدى صيغ التنسيق والتكامل العربي، بدلاً من القبول بالبرامج الاقتصادية الإصلاحية المؤدية إلى انتقال عوائد الاستثمار الأجنبي الزراعي المباشر إلى مصادره الخارجية.
ويواجه العديد من البلدان العربية عوامل تحدد وتقيد الخيارات أمام السياسات المتاحة لتقليص آثار تواضع الأمن الغذائي أو انعدامه، وفي مقدمة هذه العوامل:
- انخفاض الموارد المالية المخصصة لبرامج الإنفاق الزراعي العام، إذ لا تأخذ متطلبات البُنى المؤسسية الزراعية أولوية الاهتمام في توزيع مكونات الموازنة العامّة للدولة.
- ضآلة المتوافر من النقد الأجنبي، الذي يمكّن من تحقيق أمن غذائي مناسب من خلال الاستيرادات، وهو ما قد يضطر بعض السياسات إلى الضغط من أجل تعزيز إنتاج المحاصيل التصديرية المولّدة للنقد الأجنبي، لأنّ سياسات من هذا النوع قد لا تضمن على الدوام توافر النقد الأجنبي الذي يكفي لتغطية قيمة الواردات الغذائية، فيضطر بعض السياسات إذ ذاك إلى اللجوء إلى برامج تعويض الواردات الغذائية، باعتبارها سياسة أفضل من ترويج الصادرات، في ظل ضغوط أوضاع الأمن الغذائي.
- المواءمة بين أسعار محفزة لمنتجي الغذاء، والمستهلكين من منخفضي الدخل والفقراء، تعدّ مسألة في غاية التعقيد، الأمر الذي يجعل خيار الحماية الحدودية أقل إغراءً، لما تسببه من ارتفاع في أسعار السلع الغذائية المستوردة.
- تتسم العلاقات العربية - العربية والإقليمية المعاصرة، بقدر كبير من التعقيد يرجع في جذوره إلى التاريخ العربي الحديث، الأمر الذي قيّد كثيراً من انسيابية الغذاء وموارده بين هذه البلدان، فالتجارة الزراعية العربية البينية لم تتجاوز 5,8 بالمئة من إجمالي التجارة الخارجية الزراعية.
المصدر: كتاب الأمن الغذائي العربي (مقاربات إلى صناعة الجوع)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق