• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

في بيان مفهوم حُسن التَبَعُّل

سلوى النجار

في بيان مفهوم حُسن التَبَعُّل
◄أولى الإسلام اهتماماً كبيراً للأسرة المسلمة، لِما للأسرة من دور بالغ الأهمية في بناء مجتمع يتمتع أفراده بالإيمان والصلاح والخُلق. جاعلاً من ترغيبه في تكوين الأسرة على أساس من المودة والرحمة، وبيانه كلاً من الحقوق والواجبات المترتبة على الزواج، مرتكزات لتحقيق استقرار الأسرة، وأسساً لعلاقة زوجية واضحة نقيّة لا يداخلها جور ولا غموض. حرص الإسلام كل الحرص على أن تكون الأسرة المسلمة أسرة مستقرة متماسكة. لذا فقد تعهدها الشرع بكثير من التوجيهات والإرشادات التي تُعين على استقرارها وتماسكها، بداية من الحث على الزواج وإرساء أسس اختيار كل من الزوج والزوجة، مروراً بتوضيح الحقوق والواجبات المترتبة على عقد الزواج، وصولاً إلى بيان مفهوم حُسن العشرة وحسن التبعُّل. وفي بيان جانب من ألوان عناية الشرع بالأسرة المسلمة، تتحدث الدكتورة رشيدة بوخبرة، الباحثة في الهيئة العامّة للشؤون الإسلامية والأوقاف، أبوظبي. وتستهل حديثها بالإشارة إلى أنّ الأسرة هي أساس المجتمع واللبنة الأولى في بناء كيان الأُمّة، والنواة الأولى في تشييد حضارتها. بصلاحها يُقاس صلاح المجتمع، وبفشلها وانهيارها وسيرها في مزالق الضياع والضلال، يُقاس إخفاق المجتمع وتقهقر الأمة. لهذا فقد أعلى الإسلام مكانة الأسرة، وأشار إلى أنها قاعدة التكوين الأولى لبني الإنسان، فقال الله سبحانه وتعالى في مستهل سورة النساء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1).   -        بناء الأسرة: لقد رَغَّب ديننا الحنيف في بناء كيان الأسرة وإقامة صرحها، وتكوين قواعدها، والحفاظ على جوها الصافي وظلها الوارف من أن تشوبه غوائل البغضاء وبوائق الشقاق والشحناء، فكان أول ما اهتم به في تكوينها أن شرع الزواج وحث عليه وجعله من آياته في الكون، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم/ 21). وقال رسول الله (ص): "يا مَعْشَرَ الشباب، مَن استطاعَ مِنكُمْ البَاءَةَ فليَتَزَوَّج، ومَن لم يستطِع فعلَيْهِ بالصوم، فإنّه لَهُ وجَاءٌ" (رواه البخاري ومسلم). كما جعل من الدِّين والخُلق أساس اختيار أحد الزوجين للآخر، كما في حديث جابر بن عبدالله (رض)، أنّ رسول الله (ص): "إنَّ المرأة تُنْكَحُ على دِينِها ومالِهَا وجَمالِها فَعَلَيْكَ بِذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَداك" (رواه مسم). وأوصى الأولياء بقول رسول الله (ص): "إذا خَطَب إليكُمْ مَن ترضون دينه وخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إلا تَفْعَلوا تَكُنْ فِتنةٌ في الأرض وفَسَادٌ عَرِيضٌ" (رواه الترمذي وابن ماجه)، وما ذلك إلا لتنشأ الأسرة في كنّف حياة تَتَفَيَّأ ظلال المحبّة الصادقة والإيمان الرّاسِخ الذي يحمي مِنْ الزَّيغ والإنحراف.   -        عناية الإسلام بالأسرة: التذكير بمكانة الأسرة في الإسلام له أهمية بالغة لِما تمثله من منزلة سامية في هذا الدين الحنيف، ولِما للعناية بها من أثر في صلاح المجتمعات، ولِما للتفريط فيها من عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع، لا سيّما أنها قد تتعرض لموجات من العنف والتشدد يخالفان النظام الأسري المبني على قواعد الوسطية والاعتدال، الذي جعله الله عَزَّ وَجَلَّ نظاماً بالغ الدقة والإحكام، جديراً بالعناية والاهتمام، إذ لم يعرف العالم بأسره نظاماً للأسر أسعد ولا أكمل ولا أعدل من نظام الإسلام. ومن اعتناء الإسلام بالأسرة رفضه أي علاقة خارج مؤسسة الزواج، وإحاطته الأسرة بسياج من الأحكام الدقيقة لحمايتها والحفاظ على تماسكها، منها حثّه كل واحد من الزوجين على إحسان العِشرة، والقيام بالواجبات للتقليل من فرص الشقاق، وزرع المحبة والمودة في قلب كل واحد منهما. كما حَثّ على صبر كلا الزوجين على ما يُلاقيه من الآخر، ووعد على ذلك بالأجر العظيم. قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء/ 19). كما شرع العدّة بعد الطلاق حفاظاً على الأنساب من الاختلاط، وفرصةً يحق للزوج فيها مُراجعة زوجته من دون عَقْد جديد، كما شرع التحكيم وهو أن يتدخل أهل الزوجين للإصلاح بينهما. قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء/ 35). ومن أوجه اعتناء الإسلام بالأسرة أنّه جعل العلاقة الزوجية واضحة المعالم، لا غموض فيها ولا التباس، فحدّد المسؤوليات وعَيَّن الواجبات، ورسم حدود هذه العلاقة النبيلة وبناها على قاعدة أساسية تتمثل في قول الله عزّ وجلّ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة/ 228). فالواجبات التي فُرضت على المرأة جُعلت لها في مقابلها حقوق مكافئة، أما الدرجة التي ذكرتها الآية الكريمة للرجال، فهي درجة المسؤولية المادية والقوامة الأسرية، إلا أنها رئاسة وقيادة قائمة على التشاور والتناصح.   -        مفهوم حُسن التَبَعُّل: لا تكون المرأة سكناً لزوجها، محافظة على استقرار أسرتها، إلا إذا عرفت مكانته وحقوقه عليها، وقامت بها طائعة راضية، لأنها عبادة تُثاب عليها، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 162). بل هي مُقدَّمة على عبادة النَّفَل. قال رسول الله (ص): "لا يحلُّ للمرأة أن تَصُومَ وبَعْلها شَاهِدٌ إلا بإذْنِهِ ولا تَأذَنَ في بَيْتِهِ إلّا بإذْنِهِ" (أخرجه البخاري ومسلم). إلا أن حُسن التبعُّل يجب أن يُفْهَم بمنظار حاجات الأسرة الواقعية، والقيام بتلك الحاجات وفق منهج الوسطية والاعتدال التي مَيَّز الله تعالى به أمّتنا على سائر الأمم. فالرجل يحتاج، ليُحسن الالتزام بمبادئ الإسلام السَّمحة في أسرته، إلى زوجة صالحة تشاطره حياته، وتُوطّن نفسها لتكون له سكناً، ولهمومه مجلية، وله في ما يخصه من النَّوازل مُشيرةً، وله في ما يُعجزه ويشق عليه سنداً. ولنا في زوجات رسول الله (ص) أُسوة حسنة، فهذه أمّ المؤمنين خديجة (رض) تُؤازره، (ص) بمالها ونسبها ورجاحة عقلها. ومن المواقف الخالدة، موقفها معه (ص) في بداية نزول الوحي عندما رجع إليها من غار حراء يرجف فؤاده. فنجدها تهدئ من روعه، وتذكره بصفاته الحميدة وأخلاقه الفاضلة، قائلة بلطف وحنان: "كلّا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر" (رواه البخاري ومسلم)، وهذه أم المؤمنين أم سلمة (رض) تشير على رسول الله (ص) في موقف من أصعب مواقف المسلمين في صلح الحديبيّة. هكذا كان دأب الصحابيّات الجليلات في مُساندة أزواجهنّ. وكانت بيوتهنّ رحيق حنان وألفة، ومأوى رعاية وأمومة، ومركز عبادة وخشوع، لا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط. فعلى الزوجين أن يُحسنا القيام بواجباتهما في الحفاظ على تماسك الأسرة، وأن يراعيا في ذلك يُسر الإسلام وسماحته، بعيداً عن مظاهر الإفراط والتشدد التي قد تكون سبباً في تصدع كيانها.

ارسال التعليق

Top