◄إنّ الالتفات إلى خصوصيات ومقتضيات مراحل النمو المختلفة، يوجب علينا أن نتباحث مع الناشىء في كلّ مرحلة، بصورة تتناسب وقابلية إدراكه وفهمه، وبالتدريج، وقليلاً قليلاً نعرّفه بالمسائل ذات المستوى الأعلى.
في مرحلة البلوغ، وفي نفس الوقت الذي تتحرك فيه الغرائز والاحتياجات النفسية عند الغرائز يتحرك فيه أيضاً الحس الديني والأخلاقي، ويجعله محتاجاً إلى التفكير في المعنويات والحقائق الدينية.
ومما ينبغي أن يكون واضحاً إنّ الحس الديني والأخلاقي هو من البواعث الفطرية عند الإنسان التي تترافق مع سائر الأبعاد الفطرية في مرحلة البلوغ، وتصل إلى النمو والنضج معها. ولهذا السبب تعتبر الحاجات والبواعث الدينية والإلهية، واحدة من حاجات الناشئة الأساسية في هذه السنين.
إنّ الناشىء بتطلعه واندفاعه الذاتي يسعى نحو الحصول على الهوية الأيديولوجية التي يمكن من خلالها أن يحصل على صورة واضحة لفلسفة الحياة، فقد تطرح على الناشىء أسئلة مرتبطة بالأمور الفكرية والعقائدية في هذه المرحلة، حيث يلجأ إلى البحث، من أجل الحصول على أجوبة هذه الأسئلة.
وفي هذا المجال من الضروري أن نذكر أنّ الأسرة يجب أن لا تترك أبناءها لوحدهم في حل المسائل الفكرية، وكذلك الحصول على أجوبة الأسئلة الأساسية، بل يجب عليها أن تساعدهم وبأسلوب منطقي على الحصول على حل مسائلهم، فإذا كان الأب أو الأُم من أهل المطالعة، فإنّهم ينوّرون ذهنية أبنائهم بهذه المسائل بالكُتب المناسبة، والبحث والمحادثة معهم، أما إذا كان الأب والأُم يفتقدان الاستعداد والقدرة الكافية للقيام بهذا العمل، فمن الأفضل بالنسبة لهما، أن يجعلا أبنائهما الناشئين على ارتباط بشخص يكون مورد اعتماد وثقة، ومن ذوي المعرفة الفكرية والعقائدية حتى يحصلوا على إجابات لأسئلتهم من هذا الشخص.. وعادة ما يكون المعلمون والمربون في المدرسة التي يدرس فيها أبناؤهم، هم أنسب الأشخاص للقيام بهذا العمل.
والنقطة التي يجب التأكيد عليها في هذا المجال، هي أنّه في البحث والمحادثة مع الناشىء، يجب عدم طرح المسائل التي يكون مستواها أعلى من مستوى إدراكه وفهمه، لأنّ هذا العمل سوف يولد عنده تشويشاً فكرياً، في حين أنّه لا يحل المشكلة.
على أيّة حال، الظروف الخاصة التي يعيشها الناشىء، تقتضي إعطاء أهمية أكثر لتربيته دينياً وعقائدياً، حتى يستطيع أن ينجو من حالة اللامبالاة أو الغموض والضياع في فترة نموه الذهني، وأن يجد فلسفة واضحة وبيّنة للحياة، والتي يمكن من خلالها الإجابة على كلّ الأسئلة المهمة، وتوصله إلى اتّجاه مشخّص بخصوص الاحتياجات الفكرية والعاطفية التي تبلغ أوج عمقها وسعتها في هذه المرحلة.
- الاستقرار النفسي:
علاوة على ما تقدم، فأنّ حصول الناشىء على الإيمان الديني يساعده في الوصول إلى الاستقرار النفسي – الذي يعتبر من حاجات وضرورات هذه المرحلة – وإزالة قلقه، ويحصل هذا الاستقرار بعدة أمور:
الأوّل: إنّ الناشىء يخرج من حالة اللامبالاة والتيه، ويتضح له خط السير الفكري والعملي.
الثاني: إنّ الاعتقاد بالله يزيد من وضوح رؤيته لهذه الدنيا المادية، وإنّ عدم حصوله على كلّ رغباته أو مع وجود نواقص محتملة في حياته لا يعيقه ذلك ولا يبعث في نفسه اليأس وعدم الاستقرار.
الثالث: إنّ حاجة الإنسان إلى التوجه إلى الله سبحانه وتعالى والارتباط به برابطة قلبية، هي حاجة فطرية، إذا لم تتحقق يواجه الإنسان قلقاً نفسياً.
وكلّ واحد يمكن أن يجرب هذه الحقيقة، حيث يعرّف القرآن الكريم الاستقرار الحقيقي بأنّه التوجه نحو الله سبحانه والارتباط به فقط لا غير، كما أنّ نسيان الله جلّ وعلا يؤدي إلى مشقة وضيق الحياة.
وفي ضوء أهمية الاستقرار الروحي في سني البلوغ الحرجة، يمكن إدراك أهمية التربية الدينية في مرحلة النشىء، وللأسف أنّ بعض الأُسر لا تهتم بهذه المسألة بالشكل المطلوب ولا تعرف أنّ تقوية إيمان الناشىء يعينها على تربيته، ويقلل من مشكلات هذه المرحلة المليئة بالاضطرابات.
- الأسلوب النموذجي في التربية الدينية للأبناء:
للأسلوب النموذجي في التربية الدينية للأبناء أهمية كبرى، فعندما يشاهد الأبناء الالتزام بالآداب والواجبات الدينية منذ البداية، في أجواء المنزل، وينجذبون إليها، سوف يكون التزامهم بهذه الأعمال، أمراً طبيعياً وسهلاً في السنين التالية.
علاوة على ذلك فإنّ الإنسان (سيما في مرحلة المراهقة)، عادة ما يكون ميالاً إلى الراحة والدعة والترفيه، ويصعب عليه أحياناً القيام بالعبادات والفرائض، وكثيراً ما يكون هذا الميل نحو الراحة والدعة مانعاً للقيام بهذه التكاليف، ومن أجل التغلب على حالة الميل نحو الدعة والراحة، ينبغي تعويد الأبناء على حب الدين منذ البداية.
على سبيل المثال، إنّ التبكير في النهوض صباحاً، عمل سهل وميسور بالنسبة للشخص الذي اعتاد عليه، بينما يكون مثل هذا العمل صعباً بالنسبة إلى الشخص الذي لم يتعوّد عليه، وأحياناً نلتقي بأفراد بالغين، لا يؤدون الصلاة رغم اعتقادهم بالأصول الدينية ويتهربون منها بحجج واهية، وأهم سبب في ذلك هو طلبهم للراحة، يعني أنّ مثل هؤلاء الأفراد لم يعتادوا على أداء هذه الفريضة منذ البداية في محيط الأُسرة، كما أنّهم لا يتمتعون بإيمان متين يجعلهم قادرين على التغلب على حالة الميل نحو الراحة والدعة، ولهذا فإنّ التعاليم الإسلامية توصي الآباء والأُمّهات بأن يشجعوا ويرغّبوا أبناءهم على أداء الصلاة منذ سن السابعة.
الشيء المهم هنا، هو ألا يكون إجبار الأبناء على القيام بالتكاليف الدينية، مصحوباً بالخشونة والشدة، بل يجب على الأب والأُم أن يهديا أبناءهما إلى هذا الطريق بالاستعانة بالصبر وسعة الصدر، حتى لا يتولّد عندهم العصيان واللجاجة تجاه هذه العبادة.
- ملاحظة أخيرة:
الملاحظة التي يجب أن نطرحها في نهاية هذا الحديث، هي أنّ الدين لا ينحصر في الممارسات العبادية كالصلاة والصوم و... فقط، بل إنّ الدين يشمل كلّ نواحي الحياة، ولهذا فإنّ السعي من أجل الحصول على وسيلة الحياة، وتحصيل العلم، والمعاشرة مع الناس و.. كلّها تعتبر أموراً دينية، حيث تعد عبادة إذا ما أُنجزت بنية القربة لله تعالى، وبالشكل الذي بينته التعاليم الإسلامية، ولذا يجب الاهتمام بهذه النقطة المهمة في التربية الدينية للأطفال والناشئة حتى لا يتوهموا بأنّ الدين منحصر ببعض الواجبات العبادية، بل أنّهم مثلما يهتمون بالصلاة والصيام و...، يجب أن يهتموا أيضاً بالصدق والأمانة والإحسان ويعرفوا أنّها كلّها من الواجبات الدينية ►.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق