• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مراحل الوجود القانوني

أسرة البلاغ

مراحل الوجود القانوني

    ◄تبتني هذه الحقيقة: حقيقة أنّ الإسلام هو سجل التشريع الكوني للإنسان، وهو الصيغة التشريعية الكاشفة عن قانون الطبيعة الإنسانية.

    تبتني هذه الحقيقة على أنّ في هذا الوجود الإنساني حقائق وقوانين تتحكم به وتسيره، وهو بدون هذه القوانين والأنظمة فوضى وعبث وفساد.

    وإن نحن تابعنا حالات ظهور هذه القوانين، ومراحل تحققها في حياة الإنسان نجدها كغيرها من قوانين الطبيعة تتجسد وتظهر في ثلاث صيغ وجودية في عالم الإنسان وهي:

    1- الصيغة الموضوعية:

    للقوانين الإنسانية صيغة موضوعية تتحكم في ذات الوجود الإنساني العقلي والنفسي والمادي، وهي قائمة بذاتها، مثلها كمثل قوانين المادة الطبيعية التي تتحكم في تنظيم العالم المادي من حيث واقعيتها واستقلالها وترابطها وترتيب نتائجها وآثارها... إلخ.

    فللتفكير قواعد وقوانين يجري عليها، وللنفس قواعد وقوانين وغايات تعمل وفقها وتتحكم بحركتها واتجاهها.

    وللجسم قوانين وقواعد وغايات وحاجات تسيطر على نشاطه وفعالياته، وللعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قواعد وقوانين تتحكم بها وتحدد نتائجها... إلخ.

    2- الصيغة العلمية :

    أو المرحلة العقلية لهذه القوانين والحقائق التي تتحكم في حياة الإنسان، وهي مرحلة إحاطة العلم بهذه القوانين والتوفر الكامل على كشفها وانتزاعها من موضوعاتها كما تنتزع قواعد النحو والفيزياء والفلك.. إلخ من مواضيعها وموارد انطباقها.

    3- عملية الصياغة القانونية:

    أو التعبير اللغوي المعبر عن معنى القوانين وأهدافها، بطريقة يفهمها الإنسان المكلف بها ليجري حياته، ويبني علاقاته، وينظم سلوكه ونشاطه الفردي والاجتماعي على أساسها.

    والمراحل الثلاث التي يمر بها التشريع ليست مقدورة بصيغتها الحقيقية إلا لخالق الوجود وحده، فهو خالق الإنسان وهو الخالق للقوانين والأنظمة، وهو العالم بها، والمحيط بكلِّ وقائعها والصادق في التعبير عنها، بعكس الإنسان المشرع فعلمه وقدرته محدودة في اكتشاف القانون والنظام الطبيعي للحياة، إضافة إلى انتفاء صفة النزاهة والموضوعية عنه في حالة تعامله مع القانون، فهو يزيفه لصالحه أو لصالح فئة معينة، ولا يعبر عن الحقيقة القانونية بصيغتها العلمية والموضوعية.

    والأدلة كثيرة ومتعددة على ذلك، مثالها أنّ الإنسان عندما اكتشف ضرر الخمر، والزنا والربا والاحتكار.. إلخ، لم يحرّم شيئاً من ذلك، ولم يستفد من الحقيقة العلمية المكتشفة، بل تمادى في مغالطة الحقيقة وطمس معالمها، لذا كان اختصاص الحكم والتشريع بالله وحده هو الطريق لإنقاذ الإنسان وانتشاله من هاوية السقوط، لأنّ الله هو النزيه العالم بكلِّ خفايا هذا الإنسان وخبايا حياته (ألا يَعلمُ مَن خلقَ وَهوَ اللطِيفُ الخبير)  (الملك/ 14).

    والله سبحانه هو القادر على إيصال ما يريد إيصاله للإنسان بالطريقة التي يفهمها الإنسان، ويستطيع التعامل معها عن طريق الوحي والأنبياء، بعد أن تصاغ بهيأة لفظية واضحة المعنى والدلالة لديه وبهذا جاءت الشرائع والرسالات الإلهية جميعاً ناطقة وداعية   (ومَا أرسَلنا مِن رَسولٍ إلا بلسَان قومِهِ لِيُبَيّنَ لهمْ...) (إبراهيم/4).

    (ألرَ كِتابٌ أنزلناهُ إليكَ لِتخرجَ الناسَ مِنَ الظلمَاتِ إلى النور بإذن رَبّهمْ إلى صِرَاط العزيز الحَمِيد) (إبراهيم/ 1).

    (إنّ هَذا القرْآنَ يَهْدِي للتِي هيَ أقومُ ويُبَشرَ المُؤمِنينَ الذِينَ يَعمَلونَ الصّالِحَات أنّ لهمْ أجْرأً كبيراً) (الإسراء/ 9).

    وصدق الإمام الصادق (ع) حين قال: "القرآن عهد الله إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كلِّ يوم خمسين آية" (السيد الخوئي/ البيان في تفسير القرآن ص45).

    فمن هذا المنطلق صور لنا القرآن الكريم حقيقة التشريع الإلهي الذي يبشر به الأنبياء، بأنّه الحقيقة الوجودية المتسقة مع طبيعة الوجود الإنساني، وكشف لنا عن عدم صلاحية غيره من قانون أو نظام أو منهج لاستيعاب الحياة وتنظيمها، إلا أن تبدل طبيعة الإنسان، أو تغير هيأة الحياة، لأنّ هذا الدين هو التصميم الإلهي الموافق لطبيعة الفطرة، وللتركيب الإنساني المتعدد الجوانب، قال تعالى:(سُنة اللهِ التِي قدْ خلتْ مِن قبلُ وَلن تجدَ لِسُنةِ اللهِ تبدِيلاً)  (الفتح/ 23).

    (وَاتلُ مَا أوحِيَ إليكَ مِنْ رَبّكَ لا مُبَدلَ لكلمَاتهِ وَلن تجدَ مِن دُونِهِ مُلتحَداً)                                         (الكهف/ 27).

    (وَتمّتْ كلِمَة رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدّلَ لِكلمَاتِهِ وَهوَ السّمِيعُ العَلِيم)  (الأنعام/ 115).

 

    (أمْ تريدُونَ أنْ تسْألوا رَسُولكمْ كمَا سَألَ مُوسىَ مِن قبْلُ وَمَن يَتبدّل الكفرَ بالإيمان فقدْ ضَلّ سوَاء السّبيل) (البقرة/ 108).

    (ولوْ اتبَعَ الحَق أهوَاءَهمْ لفسَدَت السّمَاوَات وَالأرض وَمَن فِيهن بل أتينهمْ بذكرهمْ فهمْ عَن ذكرهمْ مُعرضون) (المؤمنون/ 71).   

وهكذا جاء القرآن بآياته ومفاهيمه ليكشف عن العيون سحب العمى ويزيح عن العقول شبهات الوهم والجهل الذي يصور للإنسان قدرته على ارتجال نظام اعتباطي حسب رغبته وهواه، وليدرك الإنسان أنّ نظاماً كهذا العبث المرتجل لا يمكنه أن يحل مشكلته أو ينظم نشاطه وعلاقاته الفردية أو الاجتماعية المختلفة.

    لأنّ القانون في هذه الحال لم يقم على أسس موضوعية وليس له حقيقة واقعية يجري عليها سوى تصور الإنسان وتخيلاته.

    فنحن لو سألنا المشرع الوضعي مثلاً لماذا جعلت الغرامة مائة دينار أو السجن لمدة سنة عقوبة لهذه الجريمة أو تلك؟

    وهل تقوم مثل هذه العقوبة على أساس موازنة قيمية ووجودية دقيقة، بحيث يكون طرف الجزاء في المعادلة التشريعية يساوي طرف الجريمة من حيث حجمها وأثرها الخارجي في الواقع الاجتماعي، أو ردها النفسي، بحيث تكون كافية للردع، وعادلة في إقرار موازنة الحساب بين الأطراف الداخلية في الحكم؟

    وعلى أي أساس بنيت تقديرك واستنتاجك، وتشريعك لهذه العقوبة؟

    لو طرحنا عليه مثل هذه الأسئلة.. لما استطاع أن يضع لنا الجواب العلمي الدقيق، ولما استنتجنا من الحوار معه إلا أنه يخرص ويتخبط، ويضع ويشرع بلا ميزان ولا قياس، ودون أن يدرك أنه يمارس بعمله التشريعي هذا عملية إحداث وجودية عابثة في نظام الحياة، تعاكس منطق العدالة وتناقض مبادئ الوجود.

    وإنّ مثل هذا التشريع يحدث بأثره السلبي خللاً كونياً بموازنة الحقّ والعدل الذي قامت على أساسه كلّ حقيقة في هذا الوجود:

    (شهدَ اللهُ أنهُ لا إلهَ إلا هُوَ وَالمَلائِكة وَأولوا العِلم قائِماً بالقِسْطِ لا إلهَ إلا هُوَ العَزيز الحَكيم) (آل عمران/ 18).

    وصدق الله القائل (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) (الأنعام/ 116).

ارسال التعليق

Top