تميّز التاريخ الاقتصادي للمسلمين بحيث أصبح هذا التاريخ حُجة بيّنة واضحة في الدراسات الاقتصادية الإسلامية، يستعين بها المتخصصون في الاقتصاد الإسلامي للتدليل على كفاءة النظام الاقتصادي الإسلامي وصلاحيته للتطبيق، وهو ما نسعى إليه في هذا المقال عن طريق توضيح المعالم الرئيسية والهامة التي تميّز بها التاريخ الاقتصادي للمسلمين، ونعرض لها كما يلي:
أوّلاً- في مجال السياسات الاقتصادية ودور الدولة:
اهتمت السياسة الاقتصادية الإسلامية في التاريخ الاقتصادي بربط السلوك الاقتصادي بالعقيدة التي لها تأثير على سلوك المسلم بشكل عام مثل ربط الرزق والبركة بالإيمان والاستغفار والذكر، حيث قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) (الأعرف/ 96)، من هذا المنطلق قامت الدولة الإسلامية بتوجيه المسلمين لصلاة الاستسقاء في حالات الجدب وقلة المطر، وقامت السياسة الاقتصادية أيضاً بتوجيه الموارد بما يحقق الاستغلال الأمثل لها وخصوصاً في مجال استغلال الأرض، حيث قال النبيّ محمّد (ص): "مَن أحيا أرضاً ميتاً فهي له، وليس لمحتجر حقّ فوق ثلاث"، أي مَن يعطّل الأرض ولا يستغلها ثلاثة أعوام تقوم الدولة الإسلامية بأخذها منه لغيره لكي يعمل بها وينمّيها، وهذا يعني بلغة الاقتصاد نقصان فجوة الموارد إلى أدنى حدّ وتعبئة كامل الموارد في المجتمع للفعالية الاقتصادية.
ثانياً- في مجال المالية العامّة:
أمّا في مجال المالية العامّة فكانت الموارد الرئيسية للموازنة تتمثل في خراج الأرض الزراعية التي تم فتحها عنوة والعشور وهي الضرائب المأخوذة من البضائع التي تمرّ ببلاد المسلمين، والفيء والغنيمة وغيرها من الموارد المالية التي تتعلّق بسيادة الدولة وقوامتها على مصالح المسلمين، أمّا في جانب النفقات فكان يوجّه ضمن سلّم الأولويات وفق المقاصد الشرعية، الضروريات أوّلاً ثم الحاجيات ثم التحسينيات (الكماليات ) والتي أجملها الإمام الشاطبي في قاعدته المشهورة في المقاصد، بأنّه لا يراعى تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحاجي ولا يراعى حاجي إذا كان بمراعاته إخلال بضروري، وكان الاهتمام أيضاً بمحاربة الفساد المالي والنفقات غير الضرورية لأنّ فيه تلاعب بالمال العام في غير صالح المجتمع، أمّا بالنسبة للعجز فيجب لتمويله أن يتحقق شرطان، الأوّل أن يكون له مبرر موضوعي لحدوثة أي لا يكون سببه الفساد المالي وسوء التخطيط وأن تكون هنالك القدرة على سداده مستقبلاً لا أن يتحمّل المجتمع أعباء ديون لا يستطيع سدادها.
ثالثاً- في النظام النقدي:
اهتم المسلمون بالنقود وسكها وضبط أوزانها وأعيرتها، حيث لم يسمح بسك النقود إلّا في دار مخصصة لذلك، هذا بالنسبة للجانب الشكلي في النقود أمّا الجانب الحقيقي للنقود الذي يتمثّل بتأدية دورها كوسلية للتبادل فاهتم المسلمين بسنّ الأحكام الضابطة لذلك من تحريم الربا الذي يمنع التلاعب بقيمة النقود الحقيقية ويحدّ من الثراء غير المبرر للمرابين، وإيجاب الزكاة التي تجبر الأرصدة النقدية المعطّلة على التوجّه للاستثمار وللفعالية الاقتصادية، وهو مصداقاً لقوله (ص): "اتجروا في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة".
رابعاً- في تنظيم الأسواق والمعاملات فيها:
أوّل ما قام به الرسول (ص) عند وصوله إلى المدينة بعد هجرته من مكة هو إقامة سوق للمسلمين يتبادلون فيه السلع والبضائع، وقام (ص) بالتدخل بهيكل هذه السوق حيث قام بتحريم الغش والتدليس والاحتكار والنجش وسائر المعاملات غير المشروعة وهو ضمان لعمل السوق الإسلامية بكفاءة، ولم يتدخل (ص) بآلية السوق (العرض والطلب) لأنّها من الحرّيات الطبيعية التي لا يجب تقيدها إلّا إذا كان هناك مصلحة من ذلك، حيث جاء نفر إلى رسول الله (ص) لما ارتفعت الأسعار بالسوق وقالو له سعّر لنا يا رسول الله، فرفض (ص) التسعير وقال: "إنّ الله هو المسعّر القابض الباسط الرازق وإنّي لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دمٍ ولا مالٍ"، وشرّع الإسلام لضمان ذلك كلّه نظام الحسبة للتفتيش والرقابة على الأسواق ومعاقبة المخالفين.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق