إنّ الفقهاء وأصحاب كتب الشريعة عند حديثهم عن القواعد الأصولية تتبعوا منهج القرآن في التربية والتعليم لإحداث التغيير المطلوب. فهناك تدرج في التشريع يريد أن يساير الفطرة البشرية وطبيعة الإنسان التي تأبى التحول الفجائي، والمثل على ذلك تحريم الخمر، إذ لم يكن التحريم عملاً فجائياً بل لقد حدث على خطوات ومراحل متدرجة في اليسر والصعوبة. ويعبر عن ذلك قصة عمر بن عبدالعزيز مع ابنه الذي أنكر على أبيه عدم إزالة بقايا الانحراف والمظالم التي ارتكبها مَن سبقه من خلفاء بني أمية، فقال عمر قولته المشهورة: (لا تُعجِّل يا بني فقد ذم الله الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة. وإني لا أريد أن أحمل الناس على الحق جملةً فيكون من ذا فتنة). لقد كان شعار القوم آنذاك: (يسروا ولا تُعسروا) فلابد من تيسير سبل التحريم حتى تنضج ظروفه ومبرراته لاتخاذ الخطوة الحاسمة. وبهذا استطاع القرآن القضاء على عادة شرب الخمر بين المسلمين، وإن كنت لا أشك في أنه بقيت في الساحة قلة ضئيلة لم تستطع التخلص من هذه العادة فتجاوز عنها القرآن لأنه إنما يرسم ويخطط للأجيال المقبلة. فإذا عجزت هذه القلة عن التخلص من هذه العادة فقد خرج من أصلابها سلالات نظيفة لم تقرب الخمر طوال حياتها. لقد كانت الواقعية رائد محمد والقرآن، ولا عليه بعد ذلك أن يحدث تجاوز من هنا وتقصير من هنا ليَسلم الإنسان!
وقد نتج عن ذلك ما يسمى بالناسخ والمنسوخ. إنّ التدرج في التشريع غرضه القضاء على عادات راسخة في المجتمع الجاهلي واستئصال شأفتها كما ذكرنا. كان شرب الخمر أمراً مباحاً لا حرج منه حتى في أوقات الصلاة. فكان يصح للمسلم أن يصلي وهو سكران، لكنه في خطوة تالية مُنع من الصلاة إذا بلغ به السكر حداً أفقده الوعي، فإذا كان السكر دون ذلك فالصلاة صحيحة لا غبار عليها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) (النساء/ 43)، ثم نُسخت هذه الآية بآية أخرى نزلت فيما بعد أتمت عملية التحريم نهائياً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة/90)، فالآية السابقة يقال لها منسوخة، وقد نسختها الآية الأخيرة. هذه الآية نسخت تلك، وكلتاهما من القرآن، لكن إحداهما منسوخة تُقرأ ولا يُحتج بها، وبالتالي لا يجوز العمل بها، والأخرى ناسخة، يجب الالتزام بها وعدم تأويلها. بصرفها عن ظاهر معناها. وهكذا فالنسخ مبدأ أساسي في الإسلام، إنّه يريد أن يعالج أمراً واقعاً يعيشه المجتمع كل يوم ويعاني من همومه. ولئن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مدى واقعية القرآن وعنايته بمشكلات الحياة وهمومها. إنّه الآلية القادرة على إزالة التناقض بين المطلق والنسبي، بين الثابت والمتحرك، بين الموت والحياة. هي الواقعية عصب كل تحرك وتحريك، كل تفقه وتفقيه، بل كل تفكر وتفكير، وكل تأصيل وتشريع في نطاق الإسلام، دع عنك الإسلام المنحرف.
إنّ ظاهرة النسخ هذه تُبرز واقعية القرآن كما رأينا وبالتالي تبرز طابعه التاريخي. فالنسخ لا معنى له في الإسلام إلا تطور التشريع بتطور الواقع الاجتماعي. وهناك ظاهرة أخرى تبرز الطابع التاريخي للقرآن أيضاً وهي ظاهرة تنجيم القرآن. فالخطاب القرآني لم (ينزل) جملةً واحدة، بل لقد نزل (نجوماً) استجابة لأحداث ووقائع تمر بها حياة المؤمنين وتأتي كل يوم بجديد. ومعنى ذلك أنّه (نزل منجماً) بحسب التعبير الإسلامي ـ على امتداد 23 سنة ـ ، تبعاً لما يطرأ على هذا المجتمع من معضلات أو مشاكل، أو يثار فيه من أسئلة تُطرح على النبي من قبيل (يسألك) و(يسألونك) و(سأل) و(سألك) وأمثالها، ولابد أن (ينزل) القرآن مجيباً عن هذه الأسئلة بكلمة (قل). وبذلك يتبين الموقف الإسلامي من القضايا المطروحة التي يدور عليها السؤال والتسآل. فنتج عن ذلك كله نظام شامل للحياة والمجتمع هو وليد واقع الحياة والمجتمع وتفاعلات الحياة والمجتمع.
والقرآن مع حرصه الشديد على الإجابة عن الأسئلة التي تُطرح على الساحة، فقد كان حريصاً أيضاً على أن يحدَّ بقدر الإمكان من كثرة السؤال والتسآل وألاّ يُطلق للمؤمنين العنان ليسألوا عن كل شيء يقفز إلى أذهانهم، كيلا يغرقهم في نصوص لا تنتهي تشل فاعلية الفكر وتوقف تحركه. إنّه لا يريد أن يلزمهم بقوالب جامدة لا تدع لهم فسحة أو رخصة، لاسيما وأنّ هذه الأسئلة كان أكثرها يدور على الحلال والحرام. ولذلك نهاهم عن الإكثار من الأسئلة، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ *قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) (المائدة/101-102). فالسؤال ملزم لصاحبه، فإن لم يتقيّد بالجواب الذي (ينزل) به القرآن فقد وقع في الحرام. فما عفا الله عنه هو ما تُرك للعقل البشري ليجتهد فيه.
والاجتهاد قاعدة أساسية من قواعد التشريع الإسلامي. فالنصوص لم تتناول كل شيء بالتفصيل. فقد بين الله حكمه في أشياء وسكت عن أشياء، وهذا السكوت تفويض إلينا بالاجتهاد. ومن الاجتهاد ما يعتمد على القياس ومنه ما يعتمد على المصلحة.
قال الشاطبي (المتوفى سنة 590هـ) في كتاب الاعتصام: (فلم يبق للدين قاعدة يُحتاج إليها في الضروريات والخاصيات أو التكميلات إلا وقد بينت غاية البيان. نعم يبقى تنزيل الجزئيات على الكليات موكولاً إلى نظر المجتهد. فإن قاعدة الاجتهاد نصاً ثابتة في الكتاب والسنة، فلابد من إعمالها ولا يسع تركها، وإذا ثبتت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالاً للاجتهاد، ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه. ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل، فالجزئيات لا نهاية لها فلا تنحصر بمرسوم. وقد نصّ العلماء على هذا المعنى، فإنما المراد بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل).
وهكذا، ففي الشريعة أصول عامة استوفت أمور الدين. لكن تفصيلها تُرك للنظر الاجتهادي، لأنّ النصوص المتناهية كما هو معلوم لا تستوعب الوقائع غير المتناهية. فاستنباط أحكام الوقائع المتجددة من الوقائع الكلية لابد منه لفهم الشريعة. وقد حدث ذلك في وقت مبكر جداً، بل لقد كان أسبق أنواع النظر العقلي عند المسلمين وأسرعها إلى الظهور.
وعلى كل حال، إنّ الأصل في الأشياء الإباحة حتى يكون المنع بالنص. فانتهزوا أيها المؤمنون فرصة عدم ورود النص رفعاً للحرج ففي ذلك رخصة لكم. واعلموا أنّ الله لم ينسَ شيئاً وأنّ النص على كل شيء فيه تضييق، وفيه تشديد، وفيه حرج، وفيه أيضاً عدم مراعاة لأحوال الزمان والمكان، فلا تتدخلوا بعد اليوم فيما لا يعنيكم، فالله أعلم بمصالحكم. إنّ الناس يختارون ما يحقق المصلحة ولا مصلحة لكم في التزام نصوص جامدة لا تحقق أي مصلحة فيضيقون بها ولا يعملون بمضمونها فيهلكون.
وهكذا نرى كيف أنّ القرآن لم يكن فقط عمدة المسلمين الأساسية في رصد حياة نبيهم بتقلباتها المتموجة ولحظاتها الخفاقة منذ بلوغه سن الأربعين حتى وفاته، بل كان أيضاً عمدتهم في رصد حياة شريعتهم وسجلاً أميناً لحوادث وقعت ومواقف اتخذت وحركة تاريخية لم تتوقف إلا بتوقف أنفاس مثيراه ومشعل فتيلها.
المشاكل عربية إسلامية، والهموم عربية إسلامية، والحلول عربية إسلامية، والأسئلة والأجوبة عربية إسلامية، في بيئة كل نسمة هواء فيها وكل حبة رمل عربية إسلامية. وكل أولئك يؤكد تاريخية القرآن وتمخضه بحركة التاريخ. فكل آية في القرآن هي تاريخ وكل آية تنبض بدفق التاريخ، وما أكثر الآيات التي غيرت في تلك البقعة على الأقل وجه التاريخ، خلال ثلاثة وعشرين عاماً من الكفاح والنضال والعذاب والآلام التي قذفت بأصحابها إلى سدة التاريخ، وجعلتهم صناعاً للتاريخ.
وهكذا فكلما كان الإسلام ينتشر في ربى الحجاز ونجد، كان الوحي (ينزل) ـ بحسب التعبير القرآني ـ بالتوجه والتعليم وبالدرس الضروري في المثابرة والصبر والإقدام والإخلاص والبشارة والأمل والتشجيع والترهيب والتغريب.. يتلقاه أولئك الأبطال الأسطوريون، أبطال الملحمة الخارقة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق