• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حقوق الإنسان والسياسة المقارنة

حقوق الإنسان والسياسة المقارنة

لم تحظ قضية الساحة السياسية والفكرية باهتمام كبير في القرن المنصرم مثلما حظيت قضية حقوق الإنسان، حيث باتت على سلم أولويات عدد من الهيئات والمنظمات الدولية، وحكومات وشعوب في أنحاء متفرقة من المعمورة. فمع نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار الإمبراطوريات الاستعمارية، أخذت الدول المستعمرة تنال استقلالها وتقرر مصيرها كشعوب لها حرية وكرامة في العيش، أسوة بدول العالم المستقلة، ومع مجيء أنظمة حكم وطنية أصبح شكل النظام السياسي من كبرى المعضلات التي برزت على السطح. فأسئلة مثل: من يحكم؟ ومن أين يستمد سلطته؟ وما هي حقوق المواطن والحاكم؟ وما هو شكل الدولة ومؤسساتها؟ وما دور المشاركة الشعبية؟.. إلخ كانت موضع جدل بين الشعوب المتحررة. وعلى الصعيد الدولي وانقسام العالم إلى معسكرين يبرز تصوران لحقوق الإنسان، الأوّل النموذج الرأسمالي الغربي الذي يقوم على حقوق مدنية وسياسية والثاني الاشتراكي الذي يقوم على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
أما كل هذا كانت ومازالت قضايا حقوق الإنسان من أكثر القضايا إثارة للجدل على الصعيد السياسي، وذلك لتباين المواقف والاختلافات الفكرية في تفسيرها وفي تطبيقاتها العملية.
وتعرض هذه المقالة كتاب "حقوق الإنسان والسياسة المقارنة" Human Rights Comparative Politics من تأليف الدكتور يوسف بو عندل والصادر عام 1997 عن دار "دارت ماوث" Dartmouth البريطانية للنشر، ويقع في 246 صفحة. والذي يحتوي جزؤه الأول عن مناقشة نظرية تتضمن التعريفات والخلفية الفلسفية لمفهوم حقوق الإنسان، والجزء الثاني على دراسة تطبيقية لعدد من المنظمات الدولية والأفراد الذين حاولوا وضع معايير عملية، لتحديد تلك الحقوق والجزء الأخير يتضمن النتائج التي توصل إليها المؤلف.

- مبدأ الحق الطبيعي:
يتكون القسم الأوّل من ثلاثة فصول يحتوي الأوّل منها على لمحة تاريخية لتطور مفهوم حقوق الإنسان بدءاً من اليونان والرومان، حيث كانت الحقوق ملازمة للقانون الطبيعي خصوصاً عند المدرسة الرواقية. يليها طرح التصور الديني كما جاء في الديانات السماوية، وعما يمكن تسميتها بحقوق أو واجبات (Duties). ومع عصر النهضة أخذ المفهوم منحى جديداً على أيدي عدد من الفلاسفة منهم جون لوك وتوماس هوبز اللذان ارتكز تحليلهما على المذهب الطبيعي، ثمّ جاءت الثورات الفرنسية والأمريكية والإنجليزية. فالأولى أرست دعائم حقوق الإنسان كشعارات لها، والثانية حوى إعلان استقلالها الحقوق المستوحاة من مبدأ الحق الطبيعي. وقد ركزت الثورات الثلاث السابقة على الجانب الحقوقي المدني والسياسي الذي رفضه عدد من الفلاسفة الآخرين مثل ماركس وبنثام وبروكي الذين جعلوا من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية أساساً لهذه الحقوق. وأخيراً ما يطلق عليه بالجيل الثالث لحقوق الإنسان The Third Generation والذي برز بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً بعد نيل الدول المستعمرة استقلالها. ينطلق المؤلف بعد ذلك لمناقشة إمكان وضع تعريف محدد لحقوق الإنسان وما هو مضمون تلك الحقوق. فبالنسبة للأول توجد صعوبة في تحديد تعريف واضح وجامع بسبب تباين وجهات النظر في الأسس التي ينطلق منها كل فريق، وهذا يؤدي إلى مناقشة مضمون هذه الحقوق التي تحدد في ثلاثة: وهي الممارسة، أي ممارسة الحق عملياً، والثانية العالمية في التطبيق. وأخيراً الأولية في تقديم حقوق على أخرى.
ويخصص الفصل الثاني لمناقشة المفهومين الغربي والشرقي لحقوق الإنسان فيقوم الأول على حرية الفرد، أما الثاني فعلى سيادة المجتمع. فالمجتمع الغربي ينطلق من الحقوق المدنية والسياسية المتضمنة حرية الفكر والتعبير والملكية والتنقل. أما المجتمعات الشرقية "إبان الحكم الاشتراكي للاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية" فتركز على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، مثل الحق في العمل والسكن وتوفير الخدمات الصحية مجاناً، واعتبار ما سبق المتطلبات الأساسية للحياة بالمجتمع. إبان هذا التضاد لم يكن من الممكن خلال الحرب الباردة الاتفاق على علان عالمي موحد لحقوق الإنسان فجرى العمل على أن يحتوي أي إعلان على تصور كلا الطرفين. لكن بعد مجيء جورباتشوف للسلطة والتغيرات التي حدثت في أوربا الشرقية ضاقت هوة الاختلاف بين الطرفين وذلك لمصلحة التصور الغربي.
ينتقل المؤلف في الفصل الثالث لمناقشة الجيل الثالث من حقوق الإنسان المتعلق بالدول حديثة الاستقلال بعد تخلصها من الاستعمار المباشر، والتي وجدت نفسها أمام مفاهيم لم تشارك في وضعها، فأخذت تطالب ببنود جديدة. وتضمنت هذه المطالب: حق تقرير المصير وعدم التدخل المباشر وغير المباشر للدول الاستعمارية، والحق في التنمية عبر سيطرة الدول على خيراتها ومواردها الطبيعية، والحق في العيش في بيئة صحية خالية من التلوث والعيش بسلام ونبذ الحروب. ويجيب المؤلف عن التساؤل عما إذا كان ما سبق حقوقا للإنسان، فيخلص إلى أنّ هناك أموراً أساسية يواجهها الإنسان قد تؤدي إلى انقراضه مثل الحروب النووية والتلوث البيئي، فهذه الأمور لها صفة العالمية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهلها. فلا قيمة، مثلاً، للحديث عن حرية التعبير أو التنقل أو مجانية التعليم والصحة من دون وجود سلام، فالحرب تصادر حياة الإنسان التي من دونها لا قيمة لحقوق تذكر. ويختتم الفصل بالحديث عن مدى عالمية تطبيق حقوق الإنسان أو نسبيتها وينتهي الأمر بعدم إمكان تطبيق تعريف أو شروط عالمية واحدة وذلك لاختلاف الثقافات والنظم السياسية والاجتماعية والمطالب الأساسية للشعوب.

- منظمات تحت المعايير:
يتركز الحديث في الجزء الثاني من الكتاب على المنظمات الدولية لحقوق الإنسان ومدى إمكان تطبيق معايير موضوعية لقياس تلك الحقوق. فالفصلان الرابع والخامس يخصصان لمناقشة منظمة العفو الدولية ولجنة حقوق الإنسان، فبالنسبة للأولى يبدأ الفصل الرابع بالحديث عن نشأتها عام 1961 والتي بدأت تحت اسم "نداء العفو – 1961" على يد بيتر بنينسون (Peter Benenson) الذي شرع في مناشدة الدكتاتور البرتغالي سالازار إطلاق اثنين من الطلبة اعتقلا لآرائهما السياسية. ومنذ ذلك التاريخ توسعت اللجنة وتحولت إلى منظمة دولية لها قاعدة عريضة من المشتركين وبناء تنظيمي يبدأ من لجان صغيرة في مختلف بلدان العالم، وينتهي بالمجلس الدولي واللجنة التنفيذية التي ينتخب أعضاؤها من اللجان والفروع الدولية للمنظمة، التي اختارت أن تكون العاصمة البريطانية لندن مقراً لها. ومن أبرز بنود ميثاق المنظمة السعي لإطلاق سجناء الرأي وضمان محاكمة عادلة وسريعة لهم وإلغاء عقوبة الإعدام. ويناقش المؤلف البنود الثلاثة والمشكلات المتعلقة بتعريفها والعقبات التي تعترض تحديدها بشكل علمي، ثمّ يطرح ثلاثة أمثلة وهي الصين ونيكاراجوا ومنطقة الشرق الأوسط لمعرفة مدى تطبيق ما سبق على هذه الدول والمناطق. ويختتم الفصل بعرض نقدي لمفهوم المظمة لحقوق الإنسان والذي يرتكز على التصور الغربي المتعلق بالحقوق السياسية والمدنية وذلك لنشأتها في الغرب ما ننتج عن إهمال الجوانب المتعلقة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والفروقات الثقافية التي تميز شعوباً عن أخرى.
ويركز الفصل الخامس على "لجنة حقوق الإنسان (The Committee of Human Rights) التي بوشر العمل بميثاقها عام 1977 بعد توقيع 35 دولة عليه. ويتطرق المؤلف لكيفية تأسيس اللجنة وطريقة انضمام أعضائها وكيفية عقد اجتماعاتها واتخاذ القرارات فيها التي غالباً ما تؤخذ عن طريق الإجماع.
ويتلخص عمل اللجنة في البحث بالتقارير التي يبعثها مندوبو الدول الأعضاء مع الأخذ بعين الاعتبار التقارير والشكاوى التي يبعثها بعض الأفراد بشكل مستقل، وهذا ما كان يثير جدلاً حاداً في بعض الأحيان، نظراً لنفي واستهجان ممثلي الحكومات لتلك التقارير. ولكن في نهاية الأمر كانت النقاشات تنتهي بحلول وسط أو حلول لا تغضب الدول الأعضاء. ويقدم المؤلف مثالين عمليين وهما: الاتحاد السوفييتي "سابقاً"، وتشيلي لدراسة مدى تطبيق الدول الأعضاء الحقوق المدنية والسياسية. فبالنسبة لتشيلي فقد وقعت على الميثاق عام 1972، لكن حدثت تغيرات مهمة في عام 1973 بعد الانقلاب الذي أطاح بحكومة اللندي المنتخبة، فحل العسكر الأحزاب والبرلمان وبدأ مسلسل طويل من انتهاكات حقوق الإنسان، وكان مندوبو الحكومة العسكرية ينكرون حدوثه في اجتماعات اللجنة، ويرفضون النظر في الطلبات التي تأتي من الأفراد. ويختتم الفصل بمناقشة أوجه القصور والأخطاء التي وقعت فيها اللجنة وإهمالها للجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وهذا بدوره يبين تأثير المفهوم الغربي للحقوق. وتتضمن الفصول الثلاثة التالية محاولات لوضع معايير لحقوق الإنسان على أسس عملية تجريبية تنطلق من تعريفات محددة لها. فالفصل السادس يخصص لمناقشة أفكار ومنهج الصحفي البريطاني تشارلز هيومانا (Humana Charles) الذي قام بدراسة عملية ثلاث مرات في الأعوام 1983، 1986، 1992 عبر استبيانات، تتضمن المعايير التي وضعها لقياس حقوق الإنسان، وبناء عليها صنف الدول إلى مستويات مختلفة. ويناقش المؤلف تعريف هيومانا ومنهجه ونتائجه مبيناً جوانب القصور فيها. وأولها الخلفية الفلسفية لأعماله التي تعتمد على البعد الغربي الأمر الذي انعكس على عدد من الأسئلة مثل الإجهاض والخدمة العسكرية كحقوق للإنسان. أما عن المنهج والنتائج فالمقارنة بين جنوب إفريقيا "قبل إلغاء نظام التمييز العنصري" وإسرائيل تبين جوانب القصور فيهما من حيث إنّ النظامين يصنفان في درجات مختلفة على الرغم من كونهما عنصريين، بحيث كانت إسرائيل أفضل بكثير من جنوب إفريقيا. وينتهي الفصل بتوجيه انتقادات عامة لهيومانا مع عدم التقليل مما جاء به. ومن هذه الانتقادات عدم الأخذ بعين الاعتبار الممارسة العملية لحقوق الإنسان على الرغم من ورودها بتعريفه، وعدم التميز في التطور التاريخي والحضاري بين الدول، وأخيراً إهمال الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وبالذات لدول العالم الثالث. في الفصل السابع يتناول المحاولات التي تمت لوضع مقاييس للديمقراطية مركزاً على مفكرين هما روبرت داهل (Robert Dahl) وكينيث بولين (Bollen Kenneth). يرى الأوّل أنّه لا وجود لنظام ديمقراطي كامل في العالم المعاصر لذا يسمي الأنظمة الديمقراطية بنظم الحكم المتعددة (Polyarchics). ويعرف الديمقراطية على أنّها "عملية ممارسة المواطنين درجة من التحكم على رؤسائهم". ثمّ يقدم عدداً من الحقوق المعروفة مثل النشر والتجمع وغيرهما جاعلاً منها مقياسه للديمقراطية. ويناقش المؤلف النتائج التي توصل إليها داهل وتصنيفه للدول بناء على الحريات الديمقراطية ومدى دقتها وأوجه القصور فيها وأبرز مثال على ذلك تصنيف فرنسا وبوليفيا بنفس الدرجة كدول ديمقراطية وهذا بلا شك فيه إجحاف كبير بحق فرنسا والذي اعترف به داهل لاحقاً. ويركز القسم الثاني في الفصل على أفكار بولين ومفهومه للديمقراطية التي يعرفها على أنها "التقليل من سلطة النخبة السياسية وتوسيع سلطة العامة". فتكون العملية الانتخابية هي جوهر الديمقراطية وهي ذات بعدين الأول يقوم على السيادة الشعبية (Popuiar Sovereignty) والحريات السياسية (Political Liberties) كحرية التعبير وتكوين التجمعات، ويناقش المؤلف النتائج التي توصل إليها بولين ومعاييره للديمقراطية مبيناً أوجه القصور فيها خصوصاً في تصنيف جنوب إفريقيا عامي 1960، 1965 بين الدول الديمقراطية نسبياً. وهذا غير موضوعي على الإطلاق لكونه نظاماً عنصرياً آنذاك، ويخالف مبدأ أساسياً لبولين، وهو السيادة الشعبية التي حرم منها السكان الأصليون. في النهاية توجه انتقادات عامة للمفكرين أبرزها قصور تعريفها للديمقراطية، وعدم الأخذ بعين الاعتبار المستوى الثقافي والتعليمي لشعوب بعض الدول ومطالبها الأساسية.

- منظمة مستقلة:
وينتهي الجزء الثاني من الكتاب بالحديث عن "دار الحرية" (Freedom House) وللمفهوم والمعايير التي قدمتها لحقوق الإنسان. فيبدأ الفصل الثامن بالحديث عن الخلفية التاريخية لنشأتها عام 1941 كمنظمة مستقلة، تتخذ من نيويورك مقراً لها، والتطورات التي رافقت عمل أعضائها. والمنظمة لا تعتمد على أبحاثها الخاصة بل على تقارير الصحفيين، خصوصاً الغربيين، وبعض الأكاديميي. وتعريف المنظمة لحقوق الإنسان لم يعر انتباها للجوانب الاقتصادية والاجتماعية، بل على الحقوق المدنية والسياسية التي تقيم الدول وتصنف بناء عليها. ويبين المؤلف العيوب في طريقة التقييم لوقوعهم في نفس الخطأ الذي وقع فيه من سبق مناقشة أساليبهم وطريقة تقييمهم، لاعتمادهم نظرية أحادية الجانب لحقوق الإنسان وهي النظرة الغربية الليبرالية. وهناك انتقادات أخرى للمنظمة أبرزها صلتها الوثيقة بالسياسة الأمريكية الرسمية خصوصاً في محاربتها للدول الاشتراكية، ودفاعها عن النموذج الأمريكي لحقوق الإنسان، لكون عدد من أعضائها موظفين سابقين أو حاليين في الإدارة الأمريكية. وساهم ذلك في أحيان كثيرة في غض النظر عن ممارسات الأنظمة الديكتاتورية التي تدعمها واشنطن خصوصاً في أمريكا اللاتينية.
ويخص الجزء الأخير من الكتاب للإستنتاجات التي توصل إليها المؤلف في دراسته لحقوق الإنسان نظرياً وتطبيقياً، أهمها عدم وجود تعريف واحد جامع لحقوق الإنسان ومن ثمّ لا يوجد معيار عالمي يمكن تطبيقه في جميع أنحاء العالم، وهذا يقود إلى صعوبة دراسة هذه الحقوق من جهة السياسة المقارنة لاختلاف النظم السياسية وتعدد الثقافات، لكن ذلك لا يعني عدم القيام بمحاولات يكون أساسها حرية الرأي وحرية الاعتقاد واختيار الدول المراد دراستها بعناية. وينتهي الكتاب ببعض التوصيات لدراسات مستقبلية حول حقوق الإنسان.
يعد الكتاب من الكتب القليلة والمهمة التي تناولت حقوق الإنسان من ناحية نظرية وتطبيقية، فما قدمه المؤلف من موضوعات وأفكار وطريقة تحليلها ومعالجتها، يعد دراسة مترابطة نجح في تحقيق هدفها المتضمن في صعوبة تطبيق السياسة المقارنة لحقوق الإنسان، على الأمم ذات النظم السياسية المختلفة والثقافات المتعددة. وعليه فتكون تطبيقات تلك الحقوق نسبية وهذا نتاج للتطور التاريخي والحضاري والواقع الذي تعيشه الشعوب ومطالبها ومستوى التعليم والثقافة فيها. لكن ذلك لا يعني عدم وجود بعض الملاحظات العامة والتي نوجزها فيما يلي: في الفصل الأوّل وخلال الحديث عن النشأة التاريخية لحقوق الإنسان ذكر المؤلف أنّ الفلاسفة الإغريق قد تحدثوا عن حريات عدة لها أهمية حتى اليوم، وهناك تطبيقات بضعها عند اليونان، لكنه لم يذكر أيا من الفلاسفة ولا شرحاً لأفكارهم مثلما فعل مع الفلاسفة المحدثين. وإذا كان لابدّ من التطرق لآرائهم، وذلك لكون الفصل يناقش البعد الفلسفي والتاريخي لهذه الحقوق.

- الفهم الديني لحقوق الإنسان:
يضاف إلى ذلك أهمية التوسع بالحديث عن التحول الذي تم في العصر الحديث، وأثر ذلك على الفهم الديني للإنسان ودوره في الحياة. فحقوق الإنسان بمفهومها الغربي الحالي يعود ظهورها إلى ما بعد انهيار الكنيسة المسيحية، بحيث حدث تحول في النظرة للإنسان ولحقوقه وطريقة حيات، مبنية على أسس مدنية علمانية. هذا التحول بحاجة إلى تفاصيل أكثر وليس إيجازاً، لأنّه يمثل الجذور التي تستمد منها هذه الحقوق اليوم. وفي الفصل الثاني المتضمن مقارنة حقوق الإنسان بين الشرق والغرب ذكر المؤلف في ص34 أنّ بعض الحقوق التي لا توجد عند مواطني الدول الشيوعية "سابقاً" لا يعني أنّها موجودة بشكل كامل في الغرب، واستشهد على ذلك بإضراب عمال المناجم في بريطانيا، عندما منع بعضهم من دخول مناطق معينة – كمثل لمنع التنقل – هذا المثال ضعيف والفكرة الأساسية بحاجة إلى توسع أكثر لتبيان أن هناك حقوقاً يتم الالتفاف عليها في الغرب من قبل بعض الحكومات أو القوى الرأسمالية المتنفذة، كاحتكار الوسائل الإعلامية مثلاً وسن القوانين التي تجرد العمال من حق الإضراب وغيرها. وهناك ملاحظة أخرى في الفصل الرابع متعلقة بكون معظم الدول الديمقراطية دولا غنية ومتطورة اقتصادياً، إذ ذكر المؤلف في رده على ذلك أنّ دول الخليج دول غنية، وليس بها برلمانات ديمقراطية منتخبة. هذا التعميم في غير محله فالكويت تتمتع عن غيرها بنظام ديمقراطي شعبي تمثل الأمة فيه مصدر السلطات جميعاً.
تبقى ملاحظتان، الأولى تتعلق بالثقافة والأخلاق وربط ذلك بحقوق الإنسان والثانية تتعلق بالاستنتاجات الختامية. فعند مناقشة مفهوم حقوق الإنسان من زاوية نسبية ومطلقة تحدث المؤلف عن أهمية ربط هذه الحقوق مع الأخلاق وبالتالي مع الثقافة. فقد كان من الأفضل أن يتوسع في طرح الأبعاد الثقافية وأثرها على تعريف وانتشار حقوق الإنسان سواء من ناحية الحقوق المدنية السياسية ذات الطابع الفردي المرتكزة عليها الثقافة الغربية أو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ذات الطابع الجماعي. فالملاحظ أنّ المفهوم الأخير منتشر بين الشعوب الشرقية والعالم الثالث عموماً. أي أن ما طرحه ماركس لم ينتشر في الدول الرأسمالية الغربية بل لاقى رواجاً كبيراً في الشعوب الشرقية بسبب البعد الجماعي للأفكار الاشتراكية التي تلاقي قبولاً في ثقافة تلك الشعوب القائمة على الجماعة. أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالسبب وراء تناول عدد من المنظمات والأفراد الذين تمت مناقشة أفكارهم للمفهوم الغربي لحقوق الإنسان.
بدون شك يعود ذلك إلى التطوير التاريخي والحضاري عند الغرب، في مقابل ذلك لاتزال تعيش معظم دول العالم الثالث بمفاهيم الإقطاع وحكم الفرد. بمعنى أنّه لم يُقدم حتى الآن نموذج فكري من قبل ما أطلق عليه المؤلف بالجيل الثالث من حقوق الإنسان – دون العالم الثالث – كي يكون معياراً لممارسة الحقوق وبديلاً لما يطرحه الغرب. لذا فمن البديهي إذن أن يسيطر هذا النموذج في ظل غياب نماذج أخرى.

المصدر: مجلة العربي العدد 474 لسنة 1998م

ارسال التعليق

Top