• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القرآن يتجلى في تكوين كوكب الأرض/ ج1

الشيخ نزيه القميحا

القرآن يتجلى في تكوين كوكب الأرض/ ج1

◄الأرض كوكب سابح في الفضاء ضمن مجموعة تابعة للشمس، عاش عليها بلايين البشر على مدى الزمن.

يرد ذكرها في القرآن كثيراً، وأنّها خُلقت بعد السماء، قال سبحانه وتعالى: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) ( النازعات/ 30).

وأنّها منّة من الباري سبحانه لخليفته فيها، قال تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30).

وأنّها لم تُخلق، مع المخلوقات التي عليها، عبثاً بدون سبب أو حكمة.

إنّها باب الحياة الفُضلى، والطريق الموصل إلى النهاية الخالدة.

إنّها ذات حجم أصغر من حجم الشمس بمليون و300 ألف مرة،

وأنّ وزنها أقل من وزن الشمس بـ(332) ألف مرة،

وأنّ بُعدها عن الشمس (93) مليون ميل،

وأنّ دورتها اليومية حول نفسها تتم بـ(24) ساعة،

وأنّ دورتها السنوية حول الشمس تتم في مدة (365) يوماً ونحو ربع اليوم،

وأنّ شكل مدارها حول الشمس إهليليجي،

وأنّ سرعة دورانها حول نفسها ألف ميل في الساعة،

وأنّ سرعة دورانها حول الشمس (18) ميل في الثاني،

وأنّ وضعها على مدارها مائل بزاوية قدرها (23) درجة،

هذا ما أثبته العلم الحديث من معلومات عن الأرض بعد دراسات طويلة، وتجارب مريرة. ويقول العلم أيضاً: لو كان حجم الأرض أكبر مما هو عليه الآن، أو أصغر. أو كان ثقلها وكثافتها أقل أو أكثر، لاختلّ أمر الحياة، أو تغير، أو تشوه.

إنّ حجمها متناسب مع سرعتها، ومع دورتها.

وثقلها متناسب مع قوّة جذبها، وهكذا ..

فلو زاد الحجم، أو نقص لتغيرات السرعة، والمدّة في دورتها.

ولو قلّ جذبها لأفلت الأوكسجين منها.

ولولا الدورة اليومية حول نفسها لما كان لنا ليل ونهار.

ولو زادت سرعة دورانها حول نفسها عن ألف ميل في الساعة، أو قلّت، كما هو الحال في بقية الكواكب، لاستحالت الحياة عليها.

فمثلاً: لو كانت سرعتها مئة ميل في الساعة بدل ألف! لأصبح طول النهار (120) ساعة، ولاحترق الزرع من طول النهار، وشدّة الحر، ولزوى في زمهرير الليل، ولاختلّ ميزان العمل في النهار، والراحة في الليل.

ولكن الله سبحانه الخالق الحكيم، جعل هذه السرعة ثابتة فلم يطرأ عليها أي تبديل ولو بمقدار ثانية واحدة منذ بلايين السنين.

وبحكمته عزّوجلّ جعل الإنسان مشدوداً إليها بقانون الجاذبية. وقانون الجاذبية هذا اكتشفه العلم الحديث، وعرفه من آثاره، ولم يدركه بأي حاسة من الحواس الخمس، وعليه يتوقف العلم اليوم.

فالأرض مع جيرانها من الكواكب ترتبط بالشمس بوساطة الجاذبية، والشمس بدورها ترتبط بالمجرة بوساطة الجاذبية، والمجرة أيضاً ترتبط بالكون بوساطة الجاذبية.

وهكذا نجد الكون كلّه مترابطاً متماسكاً تحت قانون عرفوه من آثاره، وأسموه الجاذبية.

بينما المؤمن بالله تعالى يقول: إنّ الكون يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرة الخالق، المكوّن، المدبّر، الحكيم، وهو خالق الأسباب والمسببات والقوانين، وهو المشرف على إدارته وتدبيره، لا يغيب عنه: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) (البقرة/ 255).

فأبناء العلم العصري يسألون المؤمن، هل رأيتَ ربك بعينك؟!.

فهل للمؤمن أن يسأل أبناء العلم اليوم: أنتم تؤمنون بوجود الجاذبية، بل وتعتقدون أنّ الكون مترابط بها وقائم عليها، فهل رأيتم الجاذبية؟ أو لمستموها بإحدى الحواس الخمس؟!.

لابدّ أن يكون جوابهم: أنّنا آمنا بالجاذبية وعرفناها من آثارها!.

فنقول لهم: لماذا يحقّ لكم ما لا يحقّ لغيركم؟!.

ـ القرآن يتجلّى في حركة الأرض وكرويتها:

منذ مئات السنين والخلاف على أشده: هل الأرض، كروية ومتحركة، أم أنّها ثابتة ومسطحة؟!.

بنظر الإنسان الساذج تبدو ثابتة والشمس متحركة، ولكن العلماء اخترعوا المراصد وأثبتوا من خلالها أنّ كلّ الأجرام السماوية متحركة، وهذا ما جاء به القرآن الكريم منذ مئات السنين: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ( يس/ 40).

قبل أن نذكر الآيات القرآنية التي تثبتُ حركة الأرض ودورانها، علينا أن نذكر مقدمة تمهيدية:

نزل القرآن الكريم في زمان كان يغلب على أهله الجهل والتخلّف والفساد، فنهض بأبنائه، وحثّهم على العلم والمعرفة والكشف عن أسرار الكون ...

ثم تحكم بالأُمّة مَن ليس أهلاً للحكم، وسيطر العدو الكافر من جديد...

وما ذلك إلّا لابتعاد الناس عن قانون السماء، الذي رسمه الحقّ سبحانه هدى ورحمة، وطريق أخلاق ومعرفة.

وكان الغرب من ناحيته يرزح تحت حكم الجهل، باسم الدِّين، ويقمع كلّ علم لا يتماشى مع مفهوم الكنيسة للخلق والحياة.

هذا (كوبرنيكوس) ثبت له علمياً أنّ الأرض متحركة، وكان هذا مخالفاً لتعاليم الكنيسة في ذلك الحين، (مع أنّه كان أسقفاً من أساقفتها)، فرفع كتابه إلى (البابا بولس الثالث)، يقول في مقدمته: "إذا وجدت أُناساً أخذوا على عاتقهم، رغم جهلهم بالرياضيات، أن يحكموا على هذه الآراء وفقاً لآية من الكتاب المقدس شوّهوا صفوها حتى يوافق هواهم، فإنّني لا أقيم لها وزناً، بل أحتقر حكمهم الأحمق، وإنّني لأرفع بحثي في هذا الموضوع إلى قداستكم، ثم إلى أعلام الرياضيين ليحكموا فيه. ولم يمتد العمر بـ(كوبر نيكوس) طويلاً، إذ أُصيب بشلل أقعده ثم مات بعد أن ظلّ هدفاً للسخرية والازدراء".

ثم جاء بعده (برونو) وأعلن قبوله للنظام (الكوبرنيكي)، فعدّ ذلك منه خروجاً على الكنيسة، فلجأ إلى جمهورية البندقية، ولكنّه حُوكم، وحُكم عليه بالسجن، وبعد ست سنوات، رأى أولو الأمر أنّ السجن لا يكفي في معاقبته، فحُكم عليه بالموت حرقاً، وكانت آخر كلماته: "إنّكم وأنتم الحاكمون عليَّ أشدّ خوفاً مني أنا المحكوم عليه، فقد كافحتُ وهذا كثير. أمّا النصر ففي أيدي القدر. أمّا كيف يكون حكم القدر فالعصور المقبلة لن تنكر عليَّ ـ أياً كان المنتصر ـ إنّني لم أخشَ الموت! فآثرتُ الموت على حياة الجبن".

وجاء دور (غاليلو) الذي تأكد علمياً من صحّة رأي (كوبرنيكوس)، فأعلن رأيه وجاء بالأدلة والبراهين على صحّة ما ذهب إليه.

اصتدر رجال الدِّين أمراً بطلبه إلى روما حيث قرر مجمع الكرادلة، اعتبار كتابات (كوبرنيكوس) محرّمة، ويعاقب قائلها وناشرها ومعتقدها.

وبذلك وجد (غاليلو) نفسه بين خطرين: إمّا السجن والتعذيب، وإمّا ترك آراء (كوبرنيكوس)، وهي الحقّ كلّ الحقّ..

فآثر السلامة، وسلّم بما لابدّ منه ..

وبعد أن توفي (البابا بولس الخامس)، وخلفه (البابا أربان الثامن)، (وكان من أصدقاء العالم غاليلو)، ظنّ أنّ العهد الجديد سيكون عهد تساهل، فوضع كتاباً على نمط محاورة بين ثلاثة أشخاص:

أحدهم يمثل رأي (كوبرنيكوس)، والثاني يمثل رأي (أرسطوطاليس) و(بطليموس)، والثالث يُدير المناقشة. وجعل الغلبة لرأي (كوبرنيكوس).

صُودر الكتاب، واُستدعيَ (غاليلو) للمحاكمة، وأمام مجمع الكرادلة حكموا بإعدام مؤلفاته! ولكن نظراً لكبر سنه، واعتدال صحّته، وإعلانه لتوبته، اكتفت المحكمة بسجنه في ديوان التفتيش طول عمره ..

وخرج من المحكمة وهو يقول كلمته المعروفة: "ومع ذلك فهي تدور"، وظل سجيناً إلى أن مات ... .

وعندما كنتُ أكتب هذه الكلمات عن تسلّط علماء الدِّين الجهلة في الماضي، وحُكمهم على أهل الفكر والعلم بالسجن والإعدام، طالعتنا مجلة الكفاح العربي في عددها رقم (904) الصادر في تاريخ 27/ 11/ 1995 بكتاب لمفتي الديار السعودية، الشيخ عبدالعزيز بن باز يقول فيه: "إنّ الأرض ثابتة، والشمس هي المتحركة، وكلّ مَن يقول غير ذلك فهو كافر، ويجب قتله بعد أن يستتاب". وقال أيضاً: "إنّ الفكر هو الكفر! لأنّهما يتألفان من نفس الأحرف".

قال الله تعالى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (الزمر/ 5).

اللغة: يكوّر، أي يلفّ، ومنه كوّر العمامة على رأسه أي أدارها على هيئة حلزونية.

عبّر الله سبحانه عن كروية الأرض بشكل علمي حديث.

إنّ العلماء بعد أن صعدوا في الفضاء، وراقبوا الأرض عن بُعد، (بعد سنة 1958م)، وجدوا أنّ الجانب المواجه للشمس مضيء دائماً، والجانب الآخر مظلم دائماً، وهي تدور حول محورها، وهذا الدوران المستمر أي اللف المتعاقب والدائم، موصوف في كلام الله تعالى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (الزمر/ 5).

قال الله سبحانه هذا القول في زمان لم يكن عند أهله أي فكرة عن حركة الأرض، أو دورانها حول نفسها أو حول الشمس. وقد أشار سبحانه إلى دورتها وحركتها بآيات أخرى. منها قوله تعالى: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) (الأعراف/ 54).

هل هناك تعبير أوضح وأبين من هذا الكلام، الذي يوضح أنّ الليل يطلب النهار بسرعة وإلحاح، وأنّ لا نهاية لهذا الطلب، أو الملاحقة، وأنّه يغشاه ويتداخل به؟. ومنها قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) (يس/ 37).

هل رأى الإنسان كيف يتداخل الليل مع النهار، أو كيف ينسلخ أحدهما من الآخر؟. ما هذا إلّا كلام الله عزّوجلّ، العالم بسر الخلق، وعظمة الصنعة، وقدرة الخالق المهيمن سبحانه. ومنها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) (لقمان/ 29).

عباراتنا شتّى وحُسنك واحد وكلّ إلى ذاك الجمال يشير، هل إيلاج الليل في النهار إلّا دخوله فيه؟!. وهل هناك تعبير أجمل وأوضح من هذا على كروية الأرض وحركتها؟. ومنها قوله سبحانه وتعالى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ) (النور/ 44).

حقّاً إنّه كلام الله سبحانه، عالم الماضي، والحاضر، والمستقبل، إنّه الحكيم الخبير. إنّه يخاطب أولي الألباب، أصحاب العقول والأفهام. ومنها قوله تعالى: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس/ 40). وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الأنبياء/ 33).

هنا يذكر القرآن الكريم بوضوح أمراً جوهرياً، ألا وهو وجود مدار لكلّ من الشمس والقمر، وأنّ هذين الجرمين ينتقلان في الفضاء كلّ بحركة حقيقية خاصّة به. كلّ من تأمّل هاتين الآيتين وجد أنّ الله سبحانه قد ذكر الشمس والقمر صراحة. وذكر الأرض بذكر الليل والنهار، ليدل العلماء على أنّ الأرض تدور حول محورها فتؤلف الليل والنهار.

وعلاوة على ذلك قال سبحانه: إنّ هذه الأجرام التي نراها، ونعيش عليها، كلّها في فلك تسبح!.

وهذه من التشبيهات الجميلة التي عرفها الإنسان الحديث بوساطة التلسكوب، ورأى كيف أن كلّ ما في الفضاء من نجوم ومجرات وكواكب تسير وتسبح في ظل نظام دقيق، وقانون لا تحيد عنه. ومنها قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس/ 24).

في هذه الآية الكريمة بيّن سبحانه كروية الأرض وحركتها بشكل واضح، لأنّ قوله: (لَيْلا أَوْ نَهَارًا) يوضح المعنى. وأنّه سبحانه يخبر بأنّه سيحطّم الأرض ويدمّرها بعد أن تصل المدنية إلى أوج عزّها، ويأتيها هذا الأمر في وقت يكون نصفها في حالة الليل، والنصف الآخر في حالة النهار. وهذا ينسجم تماماً مع الشكل الكروي للأرض كما هو معلوم. ومنها قوله تعالى: (وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا) (ق/ 7).

في هذه الآية دلالة واضحة على كروية الأرض، لأنّ السائر عليها تبدو له لأوّل وهلة أنّها غير كروية، فهي ممتدة أمامه امتداداً فسيحاً، ولكنّه إذا سار لا يصل إلى طرفها، بل يعود إلى نقطة انطلاقه.

أوَليس في ذلك دلالة واضحة على أنّها كروية ممدودة أمام الإنسان؟. ومنها قوله تعالى: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (النازعات/ 30).

الدحو في اللغة: الدحرجة، قالوا: دحى الولد الكرة أي دحرجها. ولا تتحقق للأرض الدحرجة إلّا إذا كانت كروية مثل الكرة. وهذه من الآيات الدالة بوضوح على كروية الأرض وحركتها. ومنها قوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا) (الأعراف/ 137). وقوله تعالى: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) (الصافات/ 5). وقوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ) (المعارج/ 40).

ففي هذه الآيات دلالة واضحة وبيّنة، لكلّ مَن أمعن النظر، على كروية الأرض. فإنّ طلوع الشمس على أي جزء من أجزاء الكرة الأرضية يلازم غروبها عن جزء آخر، فيكون تعدّد المشارق والمغارب، دليلاً واضحاً على كرويتها وحركتها. ومنها قوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل/ 88).

هل هناك أدل وأوضح من هذا الكلام الإلهي العظيم على حركة الأرض ودورانها بسرعة هائلة؟!.

إنّ الآية تُنبئ عن نظرتين للجبال الراسية: نظرة ظاهرة للعين المجردة، ترى الجبال جامدة؛ لأنّ الجبال والناظر إليها يتحركان بحركة واحدة مع الأرض. ونظرة أخرى مفكرة واعية، أو عصرية علمية كاشفة، ترى أنّ الأرض ومعها الجبال الراسيات تدور وتتحرّك بسرعة كبيرة، وما ذلك إلّا لأنّها صُنع الله سبحانه الذي أتقن كلّ شيء. وقد أشار سبحانه بآية أخرى إلى أنّ النجوم كلّها تجري: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) (التكوير/ 15-16). ومنها قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا) (طه/ 53) و(الزخرف/ 10).

وهذه الآية الكريمة كسابقتها بالدلالة على حركة الأرض، لأنّ المهد في اللغة والعرف: هو السرير الذي أُعد للطفل، لكي يُهز له بنعومة وراحة.

فشبّه سبحانه الأرض بسيرها وحركتها بأهلها بأنّها مثل مهد الطفل، تتحرّك بنعومة، وتسير بهم سيراً مؤنساً، ليكون عليها معاشهم ومنامهم. وما يقرب من هذه الآية، قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/ 15).

فالذلول من الإبل والجمال يطلق لغة وعرفاً على الصنف الذي يمتاز عن غيره بنعومة الحركة، وسرعة السير، وسهولة الركوب على مناكبه. وحيث أنّ الله سبحانه أطلق اسم الذلول على الأرض نستظهر منه الحركة والسير مثل الناقة الذلول. وأيضاً نستظهر الحركة من قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت/ 11).

ـ وأمّا الأخبار:

ومما يعضد تفسير تلك الآيات الكريمة بحركة الأرض، ما ورد عن أهل بيت النبوة (ع) الذين هم ترجمان القرآن، وأعلم بتفسيره وتأويله.

فقد ورد عنهم روايات تصرّح بحركة الأرض ودورانها.

رُويَ في كتاب الاحتجاج، عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنّه قال في أجوبته للزنديق: "إنّ الأشياء تدل على حدوثها من دوران الفلك بما فيه،.. وتحرّك الأرض ومَن عليها".

ففي هذا الخبر يستدل الإمام الصادق (ع) على حدوث الكون من دوران الفلك بما فيه من كواكب ومجرات، وأيضاً من تحرك الأرض ومن عليها من المخلوقات والكائنات.

وفي نهج البلاغة: عن أمير المؤمنين (ع) بعد توصيفه خلق الأرض، وجعل الجبال أوتاداً لها قال: "فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها، وتسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها".

إنّ أمير المؤمنين (ع) يريد أن يُثبت أنّ الأرض لولا الجبال التي أعطتها الاستقرار والتوازن لمادت، وساخت وتداخل بعضها في بعض، وتدمرت ولم يكن لها أي استقرار على حالتها من الحركة والدوران حول نفسها.

ـ الخلاصة:

إذن نستطيع تلخيص ما ذكره القرآن بثلاث حركات للأرض:

الحركة الرحوية: التي يدور بها الجرم على نفسه.

والحركة الفلكية: التي يسبح فيها ولا يحيد عنها.

والحركة المسيرية: التي يسير فيها الجرم ضمن كوكبة المجرة كلّها إلى مستقر بها.

ومما يدل على الحركة الأولى قوله تعالى: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (النازعات/ 30).

إنّ الله سبحانه بعد أن فتق الأرض وفصلها عن كتلة التجمع التي كانت متصلة بها، رماها في الفضاء وأدارها على نفسها كما يدير الماء الحصى عندما يدفع به على وجه الأرض.

وذلك من حكمة الخالق الحكيم، إذ لولا هذا الدوران لما كان الليل والنهار، ولا كانت الرياح، ولا نزلت الأمطار، ولا أمكن للحياة أن توجد في زمن من الأزمان، قال الله تبارك وتعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (القصص/ 71 ـ 72).

ومما يدل على حركة الأرض، وسيرها في فلكها المحدد لها، قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس/ 38 ـ 40).

فقوله تعالى: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) صريح بأنّ كلاً من الشمس والقمر يسبح في فلك لا يسبح فيه الآخر. وإذا كان الشمس والقمر يسبحان في فلكيهما فغيرهما من الكواكب يسبح كلّ في فلكه.

اقتصر الله تعالى على ذكرهما دون غيرهما، لأنّهما أظهر الكواكب للعيان، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكلّ.

وأمّا ما يدل على سيرها الدائب إلى مستقرها الذي ينتهي فيه أجلها فقوله عزّوجلّ: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (لقمان/ 29).

إنّ كلمة (إلى) تفيد انتهاء الجري المذكور قبلها، وإذا انتهى جريان الشمس والقمر انتهت حياتهما وحياة الكواكب التابعة لهما. ولا يخفى أنّ المراد جنس الشموس والأقمار وما يتبعها. فكلّها في مسيرة كبرى دائبة إلى أجل ينتهي فيه هذا السير، وتكون النهاية الشاملة لسماء المجرة كلّها.

وجاء في سورة (يس) أنّ حلول هذا الأجل يكون عند بلوغ كواكب المسيرة المستقر النهائي، وذلك في قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) فإن (اللام) هنا تفيد معنى (إلى)، والمعنى: والشمس تجري إلى مستقرها.

تلك هي الحركات الثلاث التي أثبتها القرآن الكريم لكلّ أجرام الفضاء قبل أن يثبتها العلم بمئات السنين.

أليس ذلك من دلائل إعجازه، وأنّه وحي من لدن خبير عليم.

أمّا العلم فقد أثبت خمس حركات للأرض:

1 ـ دورتها الرحوية حول نفسها في كلّ أربع وعشرين ساعة، التي يتألف منها الليل والنهار.

2 ـ دورتها الكاملة حول الشمس في كلّ سنة، التي يتولّد منها الفصول الأربعة.

3 ـ حركتها مع الشمس، التي تسير مع مجموعتها بالنسبة إلى النجوم المجاورة لها.

4 ـ حركتها مع الشمس ضمن مجرة التبانة، أي أنّ المجرة بجميع نجومها وشموسها تتحرّك وتدور حول نفسها.

5 ـ حركتها ضمن مجرة التبانة، متباعدة عن أخواتها، كما تتباعد أخواتها عنها في حركة دائبة في الكون.

ـ القرآن يتجلّى في تكوين تربة الأرض والماء:

مما اكتشفه العلم مؤخراً، هو أنّ الأرض مهما اختلفت أنواعها لها مسام بتخللها الهواء. بل إنّ اختلاف حجم المسام وعددها هو السبب الرئيسي في اختلاف نوع الأرض. فالأرض الطينية السوداء تحبس الماء، لأنّ مسامها ضيّقة، بينما الأرض الرملية ذات المسام الواسعة لا تحفظ الماء، إذ ينصرف منها بسرعة، والأرض الصفراء وسط بين هذين النوعين من الأرض.

وقد عُرف أخيراً أنّ هذه المسام بها هواء، وأنّ نزول الماء على الأرض يدفع الهواء أمامه ويحل محله. ومع تقدم العلم والاختراع عُرف أنّ الطين يتمدد بالماء وينكمش بالجفاف. وعُرف أيضاً أنّه عند امتلاء مسام الأرض بالماء تتحرك جزئيات الطين بقوّة دفع الماء في المسام، فكأنّ الأرض، إذا ما نزل عليها الماء، تتحرّك وتزداد في الحجم. قال الله تعالى: (وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج/ 5).

ـ القرآن يتجلى في تكوين الجبال التي هي أعمدة لتثبيت الأرض:

قال تعالى: (وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (النحل/ 15).

وقال تعالى: (وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) (الحجر/ 19).

وقال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) (النبأ/ 6-7).

وقال تعالى: (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) (الغاشية/ 19).

هذا نموذج من الآيات التي تذكر أنّ الجبال هي أعمدة وأوتاد للأرض، وبها أصبحت راسية ثابتة محمية من الاضطراب.

ويتكوّن القلب الداخلي على الأرجح، من مادّتي الحديد والنيكل في حالة صلبة ودرجة حرارة عالية تصل إلى 500 درجة مئوية، ومن ثم القلب الخارجي من نفس المادّة ولكنّه أقل حرارة من الداخل وهو سائل.

ويتكوّن الرداء من الصخور المنصهرة.

وأمّا القشرة فيبلغ سمكها من (20) إلى (25) ميلاً في المتوسط تحت القارات ويزداد إلى ضعف هذا المقدار تحت الجبال العالية. والقشرة هي الجزء الهام الذي يغطي سطح الأرض.

ومن المعروف علمياً أنّ قشرة الأرض أكثر عُمقاً تحت الجبال، مما يؤكد وجود جذور لسلاسل الجبال العالية تصل إلى عمق قدره 40 ميلاً تحت سطح الأرض طبقاً لأحدث قياسات القرن العشرين، مع العلم بأنّ أعلى قمم الجبال المعروفة تصل إلى ارتفاع (8884) متر فوق سطح الأرض.

وقد شبّه سبحانه الجبال بالأوتاد، لأنّ الخيمة عند العرب لا تثبت إلّا بالأوتاد التي تُغرس في الأرض، وبقدر ما تكون الخيمة كبيرة ينبغي على الأوتاد أن تكون كذلك لتثبيتها.

فقال سبحانه: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) (النبأ/ 6 ـ 7).

فالأوتاد تغوص تحت الأرض لتمسك الخيمة بقوّة المطرقة. بينما الجبال تغوص تحت الأرض بقوّة الجاذبية، هكذا يُقرر العلم. ووظيفة الأوتاد هو تثبيت الخيمة ومنعها من الوقوع. بينما الجبال تعمل كهيكل عظمي يُمسك بالأنسجة التي تمثّل الأرض المحيطة بالجبال. هذا ما يقرره العلم أيضاً.

وقد أثبت العلم أنّ الجبال راسية في الأرض! كما ترسي السفن في البحار. لأنّ الجبال المكوّنة من مواد صلبة تطفو بعمق متوازن مع حجمها في التراب الرخو كالسفن الراسية في عرض البحار.

ومن المدهش أنّ القرآن الكريم استعمل فعل (أرسى) وكأنّه يشبه الجبال الراسية في التراب بالسفن الراسية في المياه، فقال سبحانه: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ) (المرسلات/ 25-27). ►

يتبع...

المصدر: القرآن يتجلّى في عصر العلم

ارسال التعليق

Top