• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الكلمة الخبيثة.. رغبات تائهة

أسرة البلاغ

الكلمة الخبيثة.. رغبات تائهة


1- اللّغو(1):
ولكي يوفِّر لنا القرآن وعياً علميّاً للكلمة وقيمتها، راحَ يُحذِّرنا ويتحدّث لنا عن أخطر استعمالات الكلمة الخبيثة الشاذّة وهو اللّغو. واللّغو: هو الكلام الفارغ الأجوَف الذي لا فائدة فيه ولا معنى له غير الثرثرة والتعبير المنحرف عن أحاسيس ورغبات تائهة عابثة؛ لا تعرف وجهتها ولا تعبِّر عن نفسها تعبيراً طبيعياً وسليماً، فيلجأ اللاغون – أو المصابون بمرض الكلمة هذا – إلى اللّغو والثرثرة تعويضاً عن الفشل وإشباعاً للإحساس بالفراغ، مستعيضين عن الحقيقة بالوهم، وعن الواقع والموضوع بالكلمة الفارغة الجوفاء. لذلك ترى القرآن الكريم يُنزِّه الشخصيّّة الإسلاميّة الملتزمة عن الإسفاف والسقوط في شِراك هذه الهوّة الأخلاقية المُزرية، ويصف المؤمنين بالتعالي على اللّغو والابتعاد عن هذا الحضيض، فيقول:
(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون/ 1-3).
(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان/ 72).
(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص/ 55).
فالشخصية الإسلامية الملتزمة ليس في قاموسها لغة للفراغ والثرثرة، ولا من سلوكها اللجوء إلى اللّغو والعَبث بالكلمة.
والإنسان المؤمن – كما يصفه القرآن – ليس هو الذي لا يمارس اللّغو والاستعمال العابث للكلمة وحسب، بل وهو البعيد عن اللّغو المتعالِ عليه؛ الذي لا يستمع إليه ولا يتأثّر به، لذلك يتحدّث عنه القرآن فيقول:
(عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ).
(وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).
(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ).
فعالَم الكلمة في عُرف الإنسان المؤمن عالَم يوازي بامتداده وعدد مفرداته عالَم الحقيقة ويُعبِّر عنه وينطق بلسانه؛ فلكلِّ كلمةٍ في حسابه معناها وهدفها ودلالتها، ولا مكان للكلمة الفارغة الجوفاء في تفكيره أو فمه.

2- الزُّور:
وفي موضع آخر يُحذِّر القرآن الكريم من استعمالٍ شاذٍّ ومنحرفٍ آخر للكلمة، ويقرنه برجس الوثنيّة؛ وهو قول الزُّور، قول الباطل؛ القول المائل عن الحق، المنحرف عن الحقيقة؛ فيقول: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج/ 30).
فالإسلام جاد لإحقاق الحقّ وحفظه، والمزوِّرون مُزيِّفون للحقيقة يستهدفون طمس معالمها والانتقال بالحقِّ إلى غير موضعه؛ خلافاً لمنطق الوجود وقانون الشرع والأخلاق؛ لذلك كان الزُّور قرين الشِّرك في قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)؛ لأنّ كلا العملين افتراء على الحقِّ ونصرة للباطل وتضليل للإنسانيّة، ولذلك أيضاً أثنى القرآن على المؤمنين الذين لا ينطقون بكلمة الزُّور ولا يميلون عن الحقِّ ولا يستعملون الكلمة كأداة لتزوير الحقيقة وإضاعة الحقوق: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).

3- البُهتان(2):
ويستمرّ القرآن الكريم في الدعوة إلى تنزيه الكلمة من الشذوذ والانحراف وحماية المجتمع والأفراد من أخطارها، ويؤكِّد خطورة الكلمة الشاذّة وعُمق أثرها السيِّئ الهدّام في سلوك الإنسان وعلاقاته، فتراه يحمل مرّةً أخرى على لون آخر من ألوان الانحراف والاستعمال التخريبي للكلمة، وهو البُهتان. هذه المفارقة الأخلاقية التي تختفي خلفها دوافع الكراهية والانتقام، والمحاولة التي تكمن فيها إرادة الإسقاط والتخلّص من الآخرين بإشاعة التُّهم والأضاليل ضدّهم وتلويث سمعتهم والطّعن بكرامتهم وهزّ كيانهم الاجتماعي وإسقاطهم بتلفيق الأكاذيب والطعون وتشويه صورة وجودهم في أذهان الآخرين وأوساطهم، ودسِّها على ألسنة المُغفّلين والجُهّال؛ الذين يتلقون الإشاعة ويتناقلون الأنباء بلا وعي ولا علم ولا مناقشة؛ فمن أجل الحفاظ على كرامة ضحايا البُهتان والإشاعات والأضاليل وحماية الأفراد والجماعات من ألسنِ السّوء ووقايتهم من أن يكونوا ضحايا الانحراف النفسي والأخلاقي الذي تعاني منه فئة شاذّة ومغرضة في المجتمع، ومن أجل أن يلفت القرآن نظر هذه الفئة المعقّدة من الناس ويكشف طويتها الخبيثة ويفضح مقاصدها التخريبيّة، ليعرِّيها أمام الرأي العام – المتأثِّر بها والمتفاعل مع تيار الإشاعة – راح يتحدث عن خطورة هذه الظاهرة، ويُفسِّر آثارها السيِّئة الهدّامة بقوله:
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور/ 15-19).
فالقرآن يصف لنا في هذا النص الحكيم الدوافع الإنسانية لإشاعة الفاحشة بين المؤمنين، ويؤكِّد أنّ هناك أعداء ومخرِّبين في المجتمع الإسلامي هم المبهتون الذين يحبّون أن تشيعَ الفاحشة في المؤمنين، فيخترعون التُّهم ويصنعون الأكاذيب والإشاعات الباطلة ضدّ المؤمنين؛ لتشويه سمعتهم وهدم مكانتهم؛ لذلك قامَ القرآن بالتنبيه على الخطر والتحذير من هذا الطابور المتخفِّي من المخرِّبين، ومع هذا فإنّ الإسلام لم يكتفِ بالتوعية والتوجيه والتربية والوعيد بالعقاب والمسؤولية يوم الجزاء، بل وشرّع عقوبة قانونيّة على هذه الجنابة الأخلاقيّة التي تستهدِف النّيل من كرامة الأفراد والعمل على إسقاطهم وشلّ وجودهم الاجتماعي، وألزمَ الدولة الإسلامية بتطبيقها ومعاقبة الجُناة وفقَ نصِّها.

4- السُّخرية، اللّمز، التنابز، التجسّس، الغيبة:
وهذه مجموعة أخرى من المواقف والظواهر الأخلاقية الشاذّة التي تتحمّل الكلمة مسؤولية التعبير عنها والمساهمة في تحمّل أوزارها؛ يُسجِّلها لنا القرآن بنصٍّ توجيهي يستهدف تربية النفس واللِّسان وتعريف الإنسان بقيَم الحياة ومقاييسها:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات/ 11-12).
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (الهمزة/ 1).
فالقرآن بنهيه للمؤمنين عن أن يعيب بعضهم بعضاً أو يطعن فيه أو يغتابه أو يتابع عيوبه فيكشف الخفي من أمره ليذيعه بين الناس للفضيحة والإهانة، إنّما يريد أن يُربّي الضابط الأخلاقي للكلمة ويحفظ علاقات الأفراد والجماعات بمستوى من حُسن العلاقة وقوّة الرابطة وتركيز الثِّقة والإحساس بالكرامة والأخوّة الإنسانية ما يشيِّد قواعد المجتمع الرّصين ويُربِّي الشخصية المستقيمة، ويقتلع الخلفيّات النفسية والأخلاقية المريضة للكلمة، فالمُغتاب والمتجسِّس (الذي يُتابع عيوب الآخرين ويعمل على نشرها) والذي يهمز الناس ويلمزهم – أي الذين يطعن بهم وينسب العيوب إليهم – شخصية هزيلة تعاني من مرض الإحساس بالنقص والحقد على الآخرين، وتحاول أن تهدم كيانهم ووجودهم الإجتماعي في محاولةٍ منها لإسقاط إحساسها الذاتي بالنقص عن طريق الإعلان عن عيوب الآخرين لإخفاء وتغطية عيوبها ومواضع سقوطها، وللإنتقام من الشخصيات الأخرى – وخصوصاً التي تشعر بتفوّقها عليها – وتخشى نموّها وتعاظم وجودها الإجتماعي.
والسخرية والإستهزاء والتنابز (التنابز أن يدعو بعض الناس بعضاً بقلبٍ يكرهه وينفر منه) كلّها مفارقات تستعمل فيها الكلمة للإهانة والحطِّ من قيمة الآخرين والانتقاص منهم بدافع الاستعلاء والتكبّر، أو التفاهة وعدم الاكتراث بما يُقال ويُلقى من القول.
وإنّ مجتمعاً تتحرّك فيه الكلمة هذه الحركة الهدّامة للنيل من كرامات الناس وأغراضهم وسمعتهم، لمجتمع يتآكل أفراده، وتتساقط شخصياته في هاوية التفاهة والإهانة والإحتقار.
وإنّ مجتمعاً يُربِّي وينتج مثل هذه الشخصيات الهزيلة لهُوَ مجتمع مريض ومنحلّ؛ يتداعى نحو السقوط والغياب؛ لذا نشاهد القرآن يعمد إلى اقتلاع الدوافع المرضية للكلمة الخبيثة ويعمل على هدم أبنيتها السيِّئة المخزية، لتنظيف المجتمع وصيانته من هذه الظواهر العابثة الهدّامة التي تحمل الكلمة معولها، ويطلق اللِّسان شررها.

5- زخرف القول (الكلمة الخادعة):
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (الأنعام/ 112-113).
في هاتين الآيتين يتحدث القرآن عن أخطر مُنزلقٍ تهوي به الكلمة، ويتداعى الحرف في هاويته السحيقة، وهو التضليل والخداع والتمويه وقلب الحقائق وتشويه الحقيقة؛ عن طريق تصنيع الكلمة وزخرفة القول والدخول إلى المخاطب من نقطة الضعف والاستغفال؛ لإغرائه والإيقاع به، والإحياء له بسلامة الفكرة، وصحّة المفهوم المزيّف الذي تحمله هذه الكلمة الخبيثة بين جنبيها.
ولكم تهاوت أُمم وشعوب وأجيال، وتساقطت في هاوية الضلال والإنحراف والفساد الأخلاقي والعقائدي والاجتماعي بسبب هذه الكلمة المزخرفة الخدّاعة التي يرقص السّذج والجهّال على نغم إيقاعها ويفتنون بسماعها وأناقة ظاهرها.
ولكم عانى الإنسان من أولئك الشياطين صُنّاع الكلمة الضالّة المنحرفة التي قادت البشرية إلى هاوية الضلال والانحراف؛ فلقد كان لهذه الكلمة الهدّامة في كل عصر وجيل، أثرها ودورها التخريبي في حياة الإنسان؛ إلا أنّ البشرية لم تشهد في مرحلة من مراحل حياتها، وضعاً كان فيه للكلمة خُبراء ومتفلسفون، وأجهزة ومؤسّسات، كعصرنا الحاضر هذا..
هذا العصر الذي اتّخذت فيه الكلمة الخبيثة المُخزية صيغة الفلسفة والنظرية والمبدأ الذي يعتنقه الأتباع ويدافعون عنه ويناقدون له؛ لذا كان الإنسان مع هذه التبعيّة العمياء بحاجة إلى توعية موجّهة مخطّطة، تكشف له زيف هذه المبادئ والنظريّات والفلسفات، وتُعمِّق وعيه وحسّه النقدي قبل الإستجابة والوقوع تحت تأثير الكلمة الخدّاعة المُغرية.
ولكم كان القرآن دقيقاً وهو يحدِّثنا في الآية السابقة بترابط دقيق مُتقَن عن: (زُخرُف القَول، الغرور، الإيحاء، الإصغاء الإقتراف)، ليؤكِّد أن كل تلك المعاني تُشكِّل موضوعيّة مترابطة ومتلازمة العلاقة والتأثير في عالم الكلمة.
فالقرآن يربط هنا بين هندسة الكلمة وبناء الفكرة والنظرية والفلسفة التي يستعملها المُضِلّ فيخدع بها الذين لا يملكون وعياً ولا عقيدة ولا مبدأً سليماً في الحياة، يوحي لهم بالرِّضى والقبول والاستسلام ويخدعهم بهذه الصِّيغة البنائية المُزخرفة للنظريات والأفكار والمبادئ، فيؤمن بها المخدعون ثمّ يبنون سلوكهم وتفكيرهم وحضارتهم وكل أنشطة حياتهم على أساس هذه الأفكار والمبادئ التي خدعتم وغرّرت بهم، لذا تحدّث القرآن الكريم إلينا عن أعداء الأنبياء والرسالات والهدى وسمّاهم شياطين الأنس والجن لأنّهم يمارسون عملية إغواء الإنسان وتضليله عن طريق إقناعه بالكلمة المبطنة التي تحمل في ظاهرها الحلاوة والعذوبة وتستبطن في طويتها العميقة السمّ والمرار والألم.

6- النّجوى الآثمة:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (المجادلة/ 9).
عندما يشعر الإنسان بأنّ أفكاره التي يريد نقلها وكلمته التي يريد أن يقولها لا تلقى قبولاً لدى كل السامعين والمخاطبين بها، وعندما يحسّ بأنّه معزول ومرفوض من قِبَل الآخرين، أو عندما يشعر بأنّ الخطر يُهدِّد كيانه من جرّاء إطلاق هذه الكلمة أو التصريح بالفكرة؛ يلجأ إلى أولئك الذين يشاركونه الرأي أو يتقبّلون منه الفكرة والكلمة، بعيداً عن أنظار الآخرين وتحت ستار العُزلة والسِّرِّية، ليخصّ من يستمعون مقالته ويصدِّقون كلمته بالقول والفكرة؛ فيتناجى معهم (يُحدِّثهم سرّاً ويُحدِّثونه) حيث لا عين ترى ولا أُذن تسمع.
وهنا في مثل هذه اللقاءات والاجتماعات السرية المنفردة التي تتمّ بها النجوى؛ يتم التناجي، الحوار الخفي وتتبادل الآراء، ويحصل الاتِّفاق وتثبت الوصايا والقرارات.
والقرآن الكريم في عرضه وتحليله لطبيعة هذه الفئة المتخفِّية التي تخشى الإعلان عن نفسها والتعبير عن أفكارها؛ يحاول أن يرشد هذه الفئة من الناس إلى أنّ هذه العزلة والإختفاء والتناجي والتلاقي بين الأفكار والاتفاق على القرارات والوصايا، فرصة ثمينة في حياة الإنسان، يجب أن لا تذهب هدراً أو تضيع سدىً، فيصرف الإنسان جهوده ويضيِّع وقته وإمكاناته البشرية والمادية من أجل الهَدْم والتخريب والعدوان، بل يجب أن يستغلّ كل ذلك ويستثمره في مجالات الخير والبناء. فإن استطاع أن يؤثِّر بكلمته على أحد أو يوجِّهه، فليكن ذلك التأثير والتوجيه ذا طبيعة إيجابيّة بنّاءة تزرع في نفسه الهُدى وتضع قدمه على طريق الخير والأمان، لذلك جاء النهي عن التناجي بالإثم والعدوان والمعصية والتخريب، وثبت الأمر بالتناجي بالبرِّ والتقوى والطاعة وفعل الخير، ليكون الإنسان أداة خير وبناء في سرِّه وعَلَنِه وفي خَلوَتِه وأمام مجتمعه بعيداً عن النِّفاق والتلوّن والرِّياء.

7- الأراجيف والإشاعات:
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا) (الأحزاب/ 60).
الإشاعات والأراجيف والدعايات المضادّة، أخطر أسلحة العدوّ وأكثر ها فتكاً وتخريباً في حياة الفرد والأُمّة. ففي وقت الأزمات السياسية والإقتصادية أو عند الحروب وحالات التوتّر الاجتماعي، ينشط الخصوم والجواسيس وأجهزة الدعاية المضادّة لبثِّ الإشاعات والأراجيف التي تستهدف تحطيم معنويّة الأُمّة وإثارة الخوف والقلق والشك والبلبلة. وقد حدثت مثل هذه الحرب الكلاميّة المخرِّبة بشكل حاد ومتكالب في مجتمع المدينة المنوّرة في بداية تكوين المجتمع والدولة الإسلامية في عهد الرسول الهادي محمد (ص)، إذ كان المنافقون بالإضافة إلى اليهود – كما هو شأنهم دوماً – يقومون بهذا الدور التخريبي في مجتمع المدينة المنوّرة الإسلامي.
ولقد كانت هذه الحرب الكلامية ضدّ الإسلام ورسوله العظيم، والتشكيك بقدرة المسلمين وإمكان انتصارهم، ومحاولة النيل من معنوياتهم، وإشاعة القلق والفوضى في صفوفهم، خطّة خبيثة معادية دأب اليهود والمنافقون على التركيز عليها والاعتماد على مفعولها؛ لذلك هدّد القرآن الكريم طابور المخرِّبين من مروِّجي الإشاعات والأباطيل والأراجيف بالعقاب والطرد وتطهير المجتمع من وجودهم؛ لأنّهم أداة تخريب وإرباك في صفوف الأُمّة الإسلامية.
ومن الآية الآنفة الذِّكر، ومن آية أخرى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات/ 6).
يكتسب المجتمع الإسلامي وعياً وتحصيناً فكريّاً ونفسيّاً ضدّ الكلمة المخرِّبة والنّبأ الكاذب الذي يقصد التضليل والتمويه على الرأي العام الإسلامي ومخادعته.
لذلك دعا المسلم إلى محاربة الإشعاعات والأباطيل التي ينشرها خصوم الإسلام ضد رجالاته وقادته وضد كيانه السياسي والإقتصادي والعسكري والعقائدي، وأمرَ بالتروِّي والفحص عن كلِّ شائعة والتأكّد من صحة كل نبأ يُذاع أو يُنشَر قبل تصديقه وقبوله، وعدم التأثّر والرضوخ النفسي للشائعات والأراجيف.
ويُساهم هذان التحصينان – النفسي والفكري – مساهمة فعّالة في حماية المجتمع من التضليل والفوضى والإنكسار المعنوي، والحفاظ على الروح المعنوية وقوّة الإرادة والعزيمة لدى الأُمّة الإسلامية وقت الأزمات والأحداث والطوارئ، كما يساهمان في حماية العقيدة والمبادئ من التضليل والتشويه والدّس الذي يتعمّده كثير من أعداء الإسلام وخصومه.

8- الكذب:
والكذب أخطر أمراض الكلمة وأكثر استعمالاتها المنحرفة خطراً وتخريباً في نفسية الفرد وحياة المجتمع.
فالكذب الذي تحمله الكلمة هو الإخبار المزيّف عن الواقع، وإعطاء صورة للسّامع تُخالف الحقيقة والواقع الموضوعي، لذلك فهي عمليّة هدم للحقيقة، ومحاولة تجهيل للسّامع ومخادعته بتصوير الواقع بصورة تخالف الحقيقة، فالكاذب يريد أن يصنع عالماً في ذهن السامع يُخالف عالَم الحقيقة والواقع، ولا شيء أخطر على الحياة من أن يبتعد الإنسان عن فهم الحقيقة أو يتعامل مع غير الأمر الواقع.
ويشتدّ خطر هذه الكلمة كلّما كان موقعها الاجتماعي أبعد أثراً وأكثر تأثيراً في حياة الأفراد والجماعة، فالصحفي والعالِم والسياسي مثلاً هم أكثر تأثيراً في حياة الناس. لذا فإنّ السياسي عندما يكذب يخدع نفسه وأُمّته ويخونها ويضلِّلها ويقودها نحو هاوية مدمِّرة سحيقة، والصحفي وناقل الأنباء الذي يتلقّى الناس منه عن طريق الصحافة ووكالات الأنباء وأجهزة بثّ الكلمة وتوزيعها يُضلِّل الناس عندما يحاول طمسِ الحقيقة أو اصطناع كذبة لقاء أجر معيّن وثمن سُحت حرام.
والعالِم الذي يُحدِّث ويروي الأحاديث والروايات عن رسول الله (ص) وعن أئمة المسلمين (ع)، فيدسّ ويكذب أو يفتي فيضلِّل الناس ويحرفهم عن وجهتهم الصحيحة؛ خدمة لحاكم جائر أو طمعاً في مالٍ زائل، إنّما يعمل على هدم الحياة وتكريس الظّلم والفساد وحماية الباطل والضلال. فكل هؤلاء وأمثالهم يُشكِّلون خطراً على تفكير الناس وحياتهم أكثر من غيرهم، ويعملون على إبعاد الآخرين عن الأمر الواقع، ويعملون على تزييف الحقيقة وتضليل الناس. لذلك حاربَ الإسلام الكلمة الكاذبة وحمل على الكذب والافتراء ومَن لا يتورّعون عنه، وحثّ المسلمين على التأكد من شخصية القائل وفحص مقالته قبل التصديق والوثوق بوعده أو كلمته.
(إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات/ 6).
(.. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام/ 144).
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المجادلة/ 18-19).
(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (الأنعام/ 24).
(وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (الأعراف/ 52-53).
فالقرآن الكريم باستعراضه هذا للكذب وأخطاره، يُنبِّه على أخطر المردودات والآثار السلبية السيِّئة على شخصية الكاذب وعلى الأفراد والجماعة المكذوب عليهم، فيصفُ الكاذب: (بالظّلم والتضليل وادِّعاء الحُسنى والتفريط والفسوق وأنّه حلّاف؛ كثير الحلف لإقناع الآخرين بصدق مقالته ورفع الشك الذي يتردّد عن نفسه وأنّه مخادع لنفسه يكذب عليها كما يكذب على غيره، ويقنعها بالكذب فهو خاسر لنفسه، بعيدٌ عن الله).
فكلّ تلك الأخطار النفسية والاجتماعية، هي مردودات طبيعية للكذب وحصيلة حتميّة للكلمة الكاذبة.
لذلك وصف الكذّاب بالمنافق والظالم والضّال المُضِلَ، وأضيفَ إلى حزب الشيطان. وقد تحدّثت السنة النبوية عن الكذب وأخطاره وحذّرت من وجوده وانتشاره، فقد جاء فيها:
"أيُّها الناس ألا فاصدِقوا إنّ الله مع الصادقين، وجانِبوا الكذب فإنّه مجانب للإيمان"(3).
"إنّ الكذب هو خَرابُ الإيمان"(4).
"لا يجدُ عبدٌ طَعْمَ الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجدّه"(5).
"ثلاث خِصال من علامات المُنافق: إذا حدَّث كذب، وإذا ائتُمن خان، وإذا وَعَدَ أخلَفَ"(6).

مسؤوليّة الكلمة
(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق/ 17-18).
(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يس/ 12).
المسؤولية والجزاء مبدأ أساسي في كل ما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل أو قصد.
والكلمة هي أحد الآثار السلوكية التي تترتّب عليها المسؤولية وتخضع للرقابة والحساب والجزاء، لأنّ الإسلام يريد من الإنسان المسلم أن يكون إنساناً ملتزماً يخضع قصده وقوله وفعله للالتزام والانضباط. فلا يطلق الكلمة إلا بعد أن يفكِّر في معناها وآثارها ونتائجها، فهو مسؤولٌ عنها ومحاسَبٌ عليها، ولا شيء في عالم الوجود يذهب هدراً أو يضيع هباءً، فعلّام الغيوب يحصي على الإنسان قوله وفعله وقصده. والقضاء العادل يضع يوم الجزاء كلمته في ميزان الحساب، لذا فإنّ الإنسان المؤمن الذي يشعر بالمسؤولية ويؤمن بالحساب والجزاء المرتِّب على الكلمة التي يُطلقها، يحاول بكلِّ جهوده وقدراته الإرادية أن ينقذ كلمته ويحمي نفسه من المسؤوليات والتبعات المترتِّبة عليها، وهو وحده قادر على أن يكتشف قيمة الكلمة ويُدرك أهميّتها ويحترم دلالتها؛ فليست الكلمة في عُرفه لغواً ولا هو يُطلقها جزافاً، بل الكلمة عنده ذات أهميّة ومسؤولية ودلالة، لذلك فهو إذا حَدّث صدق، وإذا وَعَد وفى، وإذا قال شيئاً عمل، وإذا تكلّم قصد؛ فليست الكلمة عنده بعد ذلك إلا الصيغة اللّفظية المعبِّرة عن القصد، والإعلان المخلص عن قرار عمل داخلي. فلا كلمة عنده إلا بقصد، ولا قيمة للكلمة بلا عمل، فهو يقصد ما يقول، ويعمل أكثر ممّا يتكلّم، والكلمة إن لم تُترجَم إلى عمل تفقد هيبتها، ويفقد صاحبها معها هيبته وقيمته، ويتعرّض لغضب الله ومقته.
ولكَم كان تشديد القرآن عظيماً واستنكاره كبيراً لهذه الصفة المرذولة في الإنسان؛ صفة الثرثرة واللّغو والهذيان، حينما خاطب المسلمين بلهجة الاستنكار والتوبيخ بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2-3).
كلّ ذلك لئلّا تفقد الكلمة معناها، ولئلّا يفصل المسلم بين القول والقصد والعمل، وكي لا يسمح لكلمته أن تنطلق بلا قصد أو هدف أو قرار صادق، فتكون عبارة ميِّتة جوفاء وألفاظ عائمةً، لا واقع لها ولا عمل يُجسِّدها؛ ليتحوّل الإنسان المسلم إلى إنسان عمل وعطاء وتأثير في هذه الحياة، وليظِّف كلمته دوماً في مجال الخير والبناء، لتكون شجرة طيِّبة تُجنى ثمارها ويُستظلّ بظلالها وينتفع الآخرون بخيرها وعطائها.
والحمد لله ربّ العالمين.

-الهامش:

1- اللّغو من الكلام: ما لا يُعتدٌ به، وهو الذي يورَد لا عن رؤية وفكر، فيجري مجرى اللّغا، وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور، الراغب الاصفهاني/ معجم مفردات ألفاظ القرآن/ مادّة لغا.
2- البُهتان: الكذب الذي يُحيِّر ويُدهِش سامعه لفظاعته.
3- النوري/ مستدرك الوسائل/ ج2/ ص84.
4- الكليني/ الكافي/ ج2/ ص239 عن الإمام الباقر (ع).
5- المصدر السابق/ ص340 عن الإمام عليّ (ع).
6- النوري/ مستدرك الوسائل/ ج2/ ص100.

ارسال التعليق

Top