الإنتاج والعمل المثمر هو جوهر المفهوم الإسلامي عن عمليات التبادل والتجارة. والإسلام لا يقر أي ربح دون بذل جهد حقيقي في السعي إليه. لذا فإنّ التبادل لا ينفصل عن الإنتاج. ولكن.. كيف يتم التبادل وفق المفهوم الإسلامي؟..
تفسر نظرية التبادل طرق مبادلة السلع والخدمات وتحديد القيم في مختلف الأسواق. والتبادل جز لا ينفصل عن نظرية الإنتاج لأنّه يزيد من منافع الأشياء. ولا يمكن أن يوجد تبادل بدون تقسيم عمل، فلا حاجة للدول أن تتبادل الطيبات لو أنتجت كلّ دولة جميع ما تحتاجه منها، وكذلك لا حاجة لأي مشروع أن يتبادل مع الآخرين إذا كان ينتج جميع ما يحتاجه. ومن جهة أخرى، فإنّه حتى لو تمكن مشروع ما من إنتاج سلعة معينة في جميع مراحلها، فإنّ أصحاب المشروع وعماله يحتاجون لمختلف السلع والخدمات التي أنتجها آخرون في النظام الاقتصادي.
والتبادل يأتي متأخراً عن الإنتاج والتوزيع من الناحية التاريخية. ذلك أنّه من الضروري أن يوجد الإنتاج والتوزيع في حياة المجتمع الإنساني منذ البدء. فالمجتمع لكي يواصل حياته ويكسب معيشته عليه أن يمارس لوناً من ألوان الإنتاج وأن يوزع الثروة المنتجة بأي شكل من أشكال التوزيع المتفق عليها. أما التبادل فلا يوجد في بداية تكوين المجتمعات، ذلك أنّها تعيش في الأغلب على الاكتفاء الذاتي. ففي المجتمع البدائي كانت كلّ عائلة تنتج كلّ ما تحتاج إليه دون الاستعانة بجهود الآخرين. ولكن التبادل يبدأ دوره الفعال من الناحية الاقتصادية حين تتنوع حاجات الإنسان وتتعدد السلع التي يحتاجها ويصبح عاجزاً عن إنتاج كلّ ما يريده فيضطر المجتمع إلى تقسيم العمل بين الأفراد ويتخصص كلّ منتج في إنتاج سلعة معينة ويشبع حاجاته من السلع الأخرى بمبادلة الفائض من إنتاجه بما يحتاج إليه من سلع ينتجها غيره. ومن هنا يبدأ التبادل بوصفه وسيلة لإشباع حاجات المنتجين بدلاً من قيام كلّ منتج بإشباع حاجاته كلها بإنتاجه المباشر. ثم تطور التبادل بعد ذلك فوجد الوسيط بين المنتج والمستهلك. وعليه نشأت عمليات التجارة، وأصبح الوسيط يوفر كثيراً من الوقت والجهد بين المنتجين والمستهلكين. وسواء اتخذ التبادل دور التقاء المنتجين مباشرة أو دور الوسيط التاجر، فقد كان يسبقه جهد وعمل ممن ينقل ملكية المال إلى غيره ويحصل على ثمنه. ففي الدور الأول يمارس منتج السلعة بنفسه عملية بيعها ونقل ملكيتها إلى غيره بعوض. وفي الدور الثاني يمارس الوسيط عملية نقل السلعة إلى السوق والمحافظة عليها وإعدادها في متناول يد المستهلك متى أراد. وهذا لون من ألوان الإنتاج.
التبادل نوع من العمل المثمر
المفهوم الإسلامي عن التبادل أنّه نوع من الإنتاج والعمل المثمر. ومكاسب وأرباح عملية التبادل تأتي أساساً نتيجة لذلك، وليست نتيجة لعملية نقل الملكية نفسها. ففي رأي الفقهاء أن التاجر إذا اشترى قمحاً مثلاً ولم يتسلمه، لا يسمح له أن يربح فيه عن طريق بيعه بثمن أكبر وإنّما يجوز له ذلك بعد تسلمه، رغم أن عملية النقل القانونية تتم في الفقه الإسلامي بالعقد نفسه ولا تتوقف على أي عمل إيجابي بعده. فالتاجر يملك القمح بعد العقد وإن لم يتسلمه، ومع ذلك فلا يسمح له بالاتجار فيه والحصول على ربح ما لم يتسلم المال حرصاً على ربط الأرباح التجارية بجهد مبذول، وإخراج التبادل عن كونه مجرد عمل قانوني يدر ربحاً.
أما في ظل الرأسمالية فقد انفصل التبادل في كثير من الأحيان عن الإنتاج، وأصبح نقل الملكية عملية تقصد لذاتها دون أن يسبقها أي عمل إنتاجي من الناقل وتمارس لأجل الحصول على الأرباح والفوائد. وبالتالي تعددت العمليات القانونية لنقل الملكية على مال واحد تبعا لتعدد الوسطاء بين المنتج والمستهلك. ومن الطبيعي أن يرفض الإسلام هذا الانحراف الرأسمالي في عمليات التبادل لأنّه يتعارض مع مفهومه عن المبادلة ونظرته إليها بوصفها جزءاً من الإنتاج والعمل المثمر.
التبادل على أساس المقايضة
التبادل على أساس المقايضة أسبق أشكال المبادلة تاريخياً، حيث لجأت المجتمعات البدائية إلى نظام المقايضة الذي يعني استبدال سلع بسلع أخرى مباشرة وفي المبادلة القائمة على أساس المقايضة لم يكن. هناك حد فاصل بين البائع والمشتري، فقد كان كلّ من الطرفين المتبادلين بائعاً ومشترياً في الوقت نفسه. فالفرد في ظل المقايضة لم يكن يتاح له أن يتقمص شخصية البائع دون أن يكون مشترياً في آن واحد، فلا بيع بدون شراء. فالبيع والشراء مزدوجان في عملية واحدة. كذلك فإنّ العرض والطلب كانا يميلان إلى التساوي في ظل المقايضة لأنّ كلّ منتج كان ينتج لإشباع حاجته واستبدال الفائض عن حاجته بسلع أخرى يحتاج إليها من غير النوع الذي ينتجه. فالسلع التي ينتجها المنتج كانت توازي حاجته، أي أن العرض يجد طلباً مساوياً له، وبذلك تتجه أثمان السوق إلى وجهتها الطبيعية التي تعبر عن القيم الحقيقية للسلع وأهميتها الواقعية في حياة المستهلكين. ولكن المقايضة لم تؤد إلى تسهيل عمليات التبادل، بل كانت هناك صعوبات منها ضرورة وجود اتفاق مزدوج للحاجات بين الطرفين المتبادلين، وضرورة وجود معدل للاستبدال مقبول من الطرفين. وإذا أمكن تذليل هذه الصعوبات، فإنّ الأمر يقتضي في نظام المقايضة إيجاد وحدة مصطلح عليها لحساب قيم مختلف السلع، حتى في غيبة مقياس للاستبدال متفق عليه.
التبادل على أساس النقود
نظراً لصعوبات المقايضة نشأت فكرة استخدام النقود بوصفها أداة للمبادلة بدلاً من السلعة نفسها. وظهر على هذا الأساس النوع الثاني للمبادلة أي المبادلة على أساس النقود. وأصبح من السهل تقدير قيم السلع والخدمات إذ اعتبرت النقود مقياسا للقيمة. كذلك فإنّ النقود أدت وظيفتها وهي تيسير عمليات التبادل. وهذا هو الجانب المشرق الذي قامت به النقود.
ولكن استخدام النقود أدى إلى وجود مشاكل عديدة لا تقل عن مشاكل المقايضة وصعوباتها. ذلك أن التبادل على أساس النقود قد وضع حداً فاصلاً بين البائع والمشتري، فالبائع هو صاحب السلعة والمشتري هو الذي يدفع النقود. والبائع الذي يبيع القمح ليحصل على قطن يصبح مضطراً في ظل هذا النوع من التبادل إلى القيام بمبادلتين ليحصل على طلبه، يقوم في إحداهما بدور البائع فيبيع قمحه بنقد معين، ويقوم في الأخرى بدور المشتري فيشتري قطنا بذلك النقد. وهذا يعني فصل البيع عن الشراء، بينما كانا مزدوجين في ظل المقايضة. وقد أدى فصل البيع عن الشراء في عمليات التبادل القائمة على أساس النقود إلى فسح المجال لتأخير الشراء عن البيع. فالبائع لم يعد مضطراً لكي يبيع قمحه أن يشتري من الآخر ما ينتجه من القطن، بل يمكنه أن يبيع قمحه نظير نقد معين ويحتفظ بالنقود لنفسه ويؤجل شراء القطن إلى وقت آخر. وهكذا تحول البيع للشراء إلى البيع لامتصاص النقود وظهرت نتيجة ذلك ظاهرة اكتناز المال وتجميده مجمداً في تلك النقود. ولهذا منع الإسلام اكتناز النقود وذلك عن طريق فرض ضريبة على النقد المجمد بصورة متكررة كلّ عام حتى تستوعبه إذا طال اكتنازه عدة سنوات. كذلك فإنّ القرآن يعتبر اكتناز الذهب والفضة جريمة يعاقب عليها بالنار، لأنّ الاكتناز يعني التخلف عن أداء الضريبة الواجبة شرعاً. وبهذا يضمن الإسلام بقاء المال في مجالات الإنتاج والاستهلاك ويحول دون اكتنازه.
حكمة تحريم الربا
ذكر علماء الإسلام في حكمة تحريم الربا وجوها معقولة وأسباباً متعددة، كشفت الدراسات الحديثة وجاهتها وأكدت وزادت عليها. والذين دخلوا عالم الربا دخلوا أيضا عالم الخمر وعالم الدعارة والميسر لأنّ أبواب الشر أوان مستطرقة. وأبسط مظاهر ذلك أنك تجد جميع أولئك الذين جمعوا الأموال من غير وجهها في أيامنا هذه ينشؤون في بيوتهم البارات ويقيمون حفلات الرقص ويطلقون الحبل على الغارب لزوجاتهم وبناتهم. والله سبحانه وتعالى عندما حرم الربا رسم للمسلمين شرعة تعامل مالي سليم من شأنه أن يبارك كلّ مال لهم، ويجعل مكاسبهم حلالاً تطيب بإخراج الزكاة، والله جل جلاله يمحق الربا ويربي الصدقات.
وهناك من يبرر الفائدة الربوية بوصفها تعبيراً عن عنصر المخاطرة الذي يشتمل عليه القرض، لأنّ في إقراض الدائن لماله نوعاً من المغامرة التي تفقده ماله إذا عجز المدين عن السداد عند حلول أجل الدين. ولذا فإنّ من حقه أن يحصل على أجر ومكافأة له على مخاطرته بماله من أجل المدين. وهذه المكافأة هي الفائدة. ولكن تبرير الفائدة بعنصر المخاطرة أمر لا يقره الإسلام لأنه لا يعتبر المخاطرة أساساً مشروعاً للكسب، وإنّما يربط الكسب بالعمل المباشر أو المختزن. ونضيف إلى ذلك أن حرمة القمار والكسب الناتج عنه إنّما جاءت لأنّه يرتكز على أساس المخاطرة وحدها ولا يقوم على أساس عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار. كذلك فإنّ الإسلام حرم بيع الغرر لأنّه بيع المخاطرة وهو الجهل بالثمن أو المثمن أو سلامته أو أجله. والمعروف أن بيوع الغرر هي المعاملات التي تتوقف نتائجها على المستقبل المجهول. مثال ذلك بيع الثمار قبل نضجها وبيع حمل الحيوان قبل ولادته. وهذا نوع من المغامرة لا تنتهي في الغالب إلّا بخلاف بين المتعاملين.
وتفسر النظرية التقليدية الفائدة على أنّها جزءاً الانتظار حيث ينتظر الدائن طيلة المدة المتفق عليها. ولكن هذا القول لا يستقيم وطريقة التفكير الإسلامي في التوزيع. ذلك أنّه ليس للمقرض عمل مباشر أو مختزن ينفقه ويمتصه المقترض ليدفع له جزاء ذلك، ما دام المال المقترض سوف يعود إلى المقرض دون أن يتفتت أو يستهلك منه شيء. وعليه فإنّه لا مبرر من الوجهة الإسلامية للاعتراف بالفائدة، لأنّ الكسب بدون عمل منفق يتعارض مع تصورات الإسلام عن العدالة.
وقد اعتاد بعض الاقتصاديين على تبرير وتفسير الفائدة باعتبار أنّها تعبر عن الفرق بين قيمة السلع في الوقت الحاضر وقيمتها في المستقبل، وذلك على أساس أن للزمن دوراً إيجابياً في تحديد القيمة. فقيمة النقود اليوم أكبر من قيمتها في الغد. وهكذا كلما بعد ميعاد الوفاء ازدادت الفائدة التي يستحقها المقرض تبعاً لازدياد الفرق بين القيمة في الحاضر والقيمة في المستقبل. ولكن هذا التبرير يقوم على أساس خاطئ وهو ربط توزيع الثروة المنتجة بنظرية القيمة. ذلك أن نظرية توزيع ما بعد الإنتاج تكون منفصلة عن نظرية القيمة في الإسلام. فالقاعدة الأساسية هي أن العمل سبب لتملك العامل للمادة وليس سببا لقيمتها. بل إن قيمة كلّ مادة هي حصيلة الرغبة الاجتماعية العامة في الحصول عليها. ومن ناحية أخرى فإنّ الفائدة وفقاً لهذا الرأي الأخير نتيجة لعامل الزمن وحده دون عمل منفق. وقد عرفنا سابقاً أن الإسلام لا يقر كسباً لا يبرره اتفاق عمل مباشر أو مختزن.
البديل الإسلامي لأعمال البنوك
يبرر بعض الناس الفائدة بأنّها تعبر عن حق المقرض في شيء من الأرباح التي جناها المقترض عن طريق ما قدم إليه من مال. ولكن هذا الرأي لا موضع له في حالة القروض التي ينفقها المدين على حاجاته الاستهلاكية ولا يربح بسببها شيئاً. وإنّما يجوز للمقرض أن يحصل على شيء من الربح عندما يدفع المال إلى من يتاجر به ويستثمره. وهذا هو معنى المضاربة في الإسلام. ولعقد المضاربة أهمية خاصة إذ إن كثيرين من الفقهاء المعاصرين يعتبرونه أساساً شرعياً لبعض عمليات الائتمان المعاصرة. من ذلك ما يرى البعض من أن عقد المضاربة يصلح بديلاً إسلامياً لأعمال البنوك، فيرى تعديل أعمال البنوك لتتطابق مع أحكام عقد المضاربة في الإسلام. ويرى البعض الآخر أن قواعد الشركة هي التي يجب أن تسري وليست قواعد المضاربة. ذلك أن البنك يخلط أمواله بأموال مودعيه ليقوم بالاستثمار أصيلاً عن نفسه ونائباً عن شركائه. فالبنك ليس مضارباً، والمودعون ليسوا أصحاب أموال وإنّما هم شركاء جميعاً. وعلى ذلك فإنّ الاستثمار بالمشاركة هو الأسلوب الأفضل والأصلح للبنك حيث يتحمل الطرفان - البنك والمودعون - نتيجة الأعمال إن غنما أو غرما. يضاف إلى ذلك أن صافي الربح لا يوزع بالنصف أو الثلث حسب ما يتفق عليه، وإنّما يوزع بنسبة كلّ من أموال البنك وأموال المودعين في الاستثمار كما تقضى بذلك قواعد الشركة.
والخلاصة أن الإسلام لا يعترف بالطرق الربوية حيث إنّها كسب غير مشروع. ذلك أن الفائدة التي يحصل عليها المقرض لا تأتي نتيجة عمل إنتاجي. كما أن انتشار التعامل بالربا يدعو إلى الكسل وإلى البطالة وإلى خلق طائفة من المتقاعدين يكسبون الأموال عن طريق الانتظار وحده دون عمل. وهذا مناف لقيم الإسلام التي تدعو إلى العمل وتقدسه ولا تقبل أن تكون النقود أداة لتنمية المال. كذلك فإنّ المجتمع لا يستفيد شيئاً من العمليات الربوية لأنّها لا تضيف شيئاً إلى ثروته ولا تزيد من قدرته وإمكاناته، بل على العكس فإنها تؤدي إلى رفع الأسعار وإلى حدوث التضخم. وأخيراً فإنّ النقود رغم أهميتها للاقتصاد ليست عنصر إنتاج بعكس عناصر الإنتاج المعروفة وهي الأرض والعمل ورأس المال العيني. وبما أن النقود ليست عنصر إنتاج فهي لا تستحق الفائدة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق