• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

دروس تربوية من خلال وصايا لقمان الحكيم

د. علي محيي الدِّين القره داغي

دروس تربوية من خلال وصايا لقمان الحكيم

يتضمّن القرآن الكريم مجموعة من الحوارات الراقية بين الآباء والأولاد، وبين الأولاد والآباء، تحمل في طياتها حِكماً عظيمة وأساليب مؤثرة في تربية الأولاد تربية صحيحة متوازنة، ومن هذه الحوارات والوصايا: وصايا لقمان الحكيم لابنه حيث تتضمّن الوسائل الصحيحة المؤثرة المفيدة في تربية الأولاد التي نحاول عرضها في هذه المقالة بصورة موجزة حيث يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان/ 12-19).

أوّلاً: إنّ الله تعالى أراد أن يبيّن أنّه قد أعطى الحكمة للقمان، ومن هنا فكلّ ما يقوله في هذا الصدد حكمة ولذلك سجّل الله تعالى تلك الوصايا وخلّدها في القرآن الكريم، فالحكمة هي العقل والفطنة والعلم مع الإصابة في القول، وقال بعض العلماء: هي وضع الشيء المناسب في المكان المناسب، ولا يختلف هذا التفسير عن التفسير السابق، فالحكمة هي العلوم النافعة، والتجارب الناجحة التي ترتب عليها الخير الكثير للإنسانية. ولقمان كما في كُتُب التفاسير هو لقمان بن ياعور ابن أخت أيوب، أو ابن خالته، كان من سودان مصر من النوبة، وعاش، حتى أدرك نبيّ الله داود فأخذ منه العلم وآتاه الله الحكمة، ولم يكن نبيّاً عند الجمهور وقال ابن عمر عنهما: سمعت النبيّ (ص) يقول: «لم يكن لقمان نبيّاً، ولكن كان عبداً كثير التفكير، وحسن اليقين، أحبّ الله فأحبه، فمنَّ عليه بالحكمة، وخيّره في أن يجعله خليفة يحكم بالحقّ، فقال: ربّ إن خيّرتني قبلت العافية وتركت البلاء، وإن عزمت عليَّ فسمعاً وطاعة فإنّك ستعصمني»، واخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأُصول عن أبي مسلم الخولاني، قال، قال رسول الله (ص): «إنّ لقمان كان عبداً كثير التفكّر، حسن الظن، كثير الصمت، أحبّ الله فأحبّه الله تعالى، فمنَّ عليه بالحكمة. نودي بالخلافة قبل داود (ع)، فقيل له يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة تحكم بين الناس بالحقّ؟ قال لقمان: إنّ أجبرني ربّي عزّوجلّ قبلت، فإنّي أعلم أنّه إن فعل ذلك أعانني وعلّمني وعصمني، وإن خيرني ربّي قبلت العافية ولا أسأل البلاء، فقالت الملائكة: يا لقمان لِمَ؟ قال: لأنّ الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه الظلم من كلّ مكان، فيخذل أو يُعان، فإن أصاب فبالحري أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة، ومَن يكون في الدُّنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً ضائعاً، ومَن يختار الدُّنيا على الآخرة فاتته الدُّنيا ولا يصير إلى ملك الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فغط بالحكمة غطاً، فانتبه فتكلّم بها»، وكان لقمان قاضياً في بني إسرائيل، نوبياً أسود مشقق الرجلين ذا مشافر، قاله سعيد ابن المسيب، ومجاهد، وابن عباس، وقال له رجل كان قد رعى معه الغنم: ما بلغك يا لقمان ما أرى؟ قال: «صدق الحديث والصمت عمّا لا يعنيني»، وقال ابن المسيب: كان من سودان مصر، من النوبة، وقال خالد بن الربيع: كان نجاراً، وقيل: كان خياطاً، وقيل: كان راعياً. وحكم لقمان كثيرة مأثورة، قيل له: أي الناس شرّ؟ قال: «الذي لا يبالي إذا رآه الناس مسيئاً» (تفسير ابن عطية 489 ـ 490/11).

والحكمة في أنّ الله تعالى قال قبل ذكر سرد الوصايا: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) هي بيان أنّ هذه الوصايا مزكاة من قبل الله تعالى وأنّها ترجع إلى مشكاة نور الله تعالى. ويستفاد من هذه الآية من الجانب التربوي ما يأتي:

أ ـ ضرورة التعريف بالمربّي قبل أن يبدأ بالتربية، وأن يكون مزكّى حتى تكون التربية مؤثرة، وحتى يكون المتربّون على علم بمرتبة مربّيهم ومعلِّمهم، لأنّ لذلك دوراً نفسياً كبيراً في نفوسهم.

ب ـ ضرورة اختيار الشخص المزكّى للتربية، وليس أي شخص، فالمهمّة صعبة وخطيرة وكبيرة، وهنا تلقى مسؤولية عظيمة على الآباء وأولياء الأُمور ولجان وزارات التربية في اختيار المربّين والمعلِّمين حيث يتحمّلون مسؤولية عظيمة أمام الله تعالى وأمام هؤلاء الأطفال والتلاميذ إذا لم يبذلوا جهوداً عظيمة للاختيار والانتقاء، بل لا ينبغي لهم الاختيار إلّا بعد البحث والتزكية من قبل الثُّقات.

ج ـ ضرورة تعظيم المربّي في نفوس المتربّين، والنظرة إليهم نظرة تقدير واحترام من خلال تقديمه من قبل الوالد، أو ولي الأمر، أو مسؤولي وزارة التربية والتعليم، وذلك بأن يقدّم المربّي إلى المتربّين بشكل يستشعر فيه المتربّون والمتعلِّمون بأنّ مربّيهم له مكانة عظيمة وأنّه كذا وكذا.

وهذه النظرة من المتربّي أو المتعلِّم إلى المربّي لها دور كبير في قبول وصاياه وتقبل نصائحه، واحترام أقواله وآرائه، وهي تقتضي أن تعطي للمربّين والمدرسين والمعلِّمين مكانة لائقة بهم أدبياً ومعنوياً ومادّياً، وأن لا ينظر إلى الجانب الاقتصادي في اختيار المربّين بحيث لا تكون النظرة قاصرة على التوفير، بل ينظر إلى أنّ المربّي أو المعلِّم الذي أعطيت له مكانته اللائقة يكون له التأثير على المتربّين أكثر من غيره.

ثانياً: قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) يدل على ضرورة أن يجلس الأب مع ابنه دائماً أو كثيراً للوعظ والتوجيه والتربية، ذلك أنّ جملة (وَهُوَ يَعِظُهُ) جملة اسمية تدل على الثبوت والدوام والاستقرار وهي جملة حالية عن «لقمان» الوالد.

ومن جانب آخر إنّ الطريق إلى التربية والتوجيه والتقويم يمرّ عبر الوعظ ووسائله المشوقة ووسائل الترغيب، والحكمة، والثواب والعقاب. والتعبير القرآني يدلّ على إعطاء أولوية كبيرة للجلوس مع الأولاد ذكوراً وإناثاً للوعظ والنُّصح والتربية، فهي مهمّة ليست سهلة، وهي تستحق كلّ العناية والاهتمام، لأنّها تتعلّق ببناء الإنسان، وبناء الجيل القادم، وبناء القيادة للأُمّة.

ثالثاً: قوله تعالى حكاية عن لقمان: (يَا بُنَيَّ) يدلّ أنّه على المربّي أن يختار الألفاظ المحبّبة والمشوقة لدى المتربّي، وأن يشعره بأنّه يحبّه، وأنّه لا ينصحه إلّا من باب حبّه الكثير، وأنّه حتى لو تشدّد معه فهو كالطبيب المعالج الذي تقتضي مصلحة مريضه أن يقوم باللازم، حيث استعمل القرآن الكريم في البداية لفظ (يَا بُنَيَّ) الذي كما يقول العلماء يدل على نداء المحبّة والإشفاق وأنّ تصغير (بني) للتحبّب ولبيان زيادة الحبّ والعطف. ومن هنا فعلى المربّين والمعلِّمين حتى ولو كانوا آباء للمتربّين أن لا يستعملوا الألفاظ الجارحة، أو حتى الألفاظ العادية، بل يتفننوا في استعمال الكلمات الجميلة الراقية التي تدلّ على الاحترام والمحبّة والإشفاق.

رابعاً: استعمال الأشياء المفهومة للأولاد، والألفاظ الواضحة، وبعبارة أُخرى أن يكون خطابهم باللغة التي يفهمونها هم وليس بلغة الكبار، وهذا ما فعله سيِّدنا لقمان في وعظه لابنه حينما تحدّث عن الأصوات المرتفعة الكريهة شبهها بأصوات الحمير، وذلك لأنّ أصوات الحمير مفهومة جدّاً للأطفال وكريهة كذلك ومزعجة، فاستعمل وسيلة التقبيح المفهومة لديهم، وكذلك حينما نصحه بأن لا يشرك بالله تعالى ذكر بأنّ الشِّرك لظلم عظيم، والظلم مفهوم بالفطرة ومستقبح لدى الجميع، ثمّ بيّن بأنّ الشِّرك ليس ظلماً عادياً بل هو ظلم عظيم، وذلك لأنّ الظلم اعتداء على الحقوق، وتجاوز عن الحدود، وصرف الحقّ عن أهله، وأنّ الشِّرك هو اعتداء على حقّ الخالق، ومساواة ظالمة بين المخلوق والخالق، وإعطاء حقّ العبادة للشريك الذي لا يستحقّها، وإخضاع للنفس الإنسانية المكرمة لعبادة الخسيس، بدل الخضوع لخالقها وباريها.

خامساً: عدم الاكتفاء بسرد الأشياء المجرّدة عن أدلتها وحكمها وأسبابها، وعن التعليل والبيان حيث لم يكتفِ لقمان الحكيم بمجرّد النهي، بل بين السبب وأوضح العلة وشرح الحكمة، فقال: (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وقال أيضاً: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ)، ثمّ علل ذلك بقوله: (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)، وقال أيضاً: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا)، ثمّ بيّن السبب بقوله: (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، وقال: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ)، ثمّ علل ذلك بقوله: (إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).

وهذا منهج تربوي رصين قوي يدل على أنّه يعطي القيمة لعقول الأولاد والمتربّين والتلاميذ حيث لا يفرض عليهم المعلومات، بل تشرح لهم مع أسبابها وحِكمها، فيكون ذلك أدعى للقبول.

سادساً: البحث الجاد عن وسائل الإقناع: ويدل ما ذكرناه في البند الخامس على أنّ سيِّدنا لقمان الحكيم استعمل وسائل الإقناع بشكل واضح حيث لم ينهِ عن الشِّرك، لأنّه شِرك، بل أوضح ما يقنع ابنه بأنّ الشِّرك أمر قبيح مكروه غير مقبول، لأنّه ظلم عظيم، والفطرة السليمة تأبى الظلم والضيم، وكذلك نهاه عن التكبر، ثمّ استعمل وسيلة الإقناع من خلال أنّ الله تعالى لا يحبّ كلّ مختال فخور، بل إنّ كلّ إنسان عاقل لا يحبّ المختالين، وكذلك حينما نهاه عن القصد والتوسط في المشي والصوت، استعمل وسيلة مقنعة واضحة وهي أنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير.

وقصدي من ذلك أنّ استعمال وسائل الإقناع ضروري للمربّين والمعلِّمين، وإنّ هذه الوسائل ليست محصورة فيما ذكر، بل هي متنوّعة تشمل الوسائل العقلية، والعاطفية والمادّية، وكلّ الوسائل المعاصرة ولكن مع ملاحظة عقول هؤلاء المتربّين.

سابعاً: أن يتدخل مَن يُطاع ويسمع له في شأن التعلّم وذلك بأن تتدخل الدولة بالتوجيهات السديدة لصالح التعليم والتربية، وهذا ما يفهم من الآيتين  اللتين أصبحتا فاصلتين بين نصائح لقمان وهما قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، حيث أمر الله تعالى الأولاد بالتزام أوامر ونواهي الوالدين في غير المعصية.

ثامناً: التربية عن طريق السؤال والجواب، وانتهاز فرصة حاجة المتربّي لذلك، حيث ورد أنّ ابن لقمان سأل أباه حينما رأى البحر المتلاطم الأمواج فقال: يا أبتاه: لو وقعت حبة في هذا البحر أيعلمها الله تعالى؟ فأجاب لقمان بقوله: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، فأجاب إجابة دقيقة فذكر بدل الحبة مثقال حبة من خردل وهي غاية في المبالغة في الصغر، كما ذكر بما يدلّ عليه بطريق أولى فقال: (يَأْتِ بِهَا اللهُ)، أي قادر على أن يأتي بها.

ومن الطبيعي جدّاً أسئلة الأولاد الكثيرة فلا ينبغي للمربّي أن ينزعج منها بل يستفيد منها، ويبني عليها، ومن الجانب النفسي فإنّ الأطفال يملّون من العرض والإلقاء فلابدّ إذن من إيصال المعلومات عن طريق الأسئلة والأجوبة وغيرها من وسائل التشويق.

تاسعاً: التربية عن طريق قاعدتي الثواب والعقاب والتخويف، والترغيب والترهيب، حيث تضمّنت الوصايا الأجزية على تلك الأفعال، وما يترتب عليها من ثواب وعقاب وجنّة ونار، ومن محبّة للناس أو بغضهم أو نحو ذلك، حيث وصف الالتزام بالقيم الأخلاقية والعبادات فإنّها من مكارم الأخلاق وعزائم أهل العزم.

عاشراً: ضرورة الإتيان بالبدائل عند النهي عن أي شيء، حيث بعدما نهى لقمان عن الخلق الذميم من التكبر ونحوه رسم له الخلق الكريم فقال: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ)، بعدما قال: (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا)، فعلى المربّين أن يوجدوا البدائل المقبولة لكلّ المنهيات المستهجنة، ومن فضل الله تعالى أنّ ديننا يقوم على ذلك.

أحد عشر: إنّ الوعظ الذي يقدّمه الوالد، أو المربّي ينبغي أن يكون شاملاً لجميع ما يحتاج إليه المتربّي من خلال خطّة زمنية ومن خلال فقه الأوليات، ولذلك شملت وصايا لقمان لابنه الجانب العقدي، والجانب الأخلاقي، والجانب العملي، كما إنّها راعت فقه الأوليات حيث بدأ الحديث والتركيز على العقيدة الصحيحة، وعلى زرع التقوى والخوف من الله في قلوب المتربّين، ثمّ التركيز على أداء الصلاة وإقامتها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر، ثمّ التركيز على الجوانب الأخلاقية القولية والسلوكية، يقول الرازي في تفسيره (25/150): والذي يظهره وجوده الأوّل هو أنّ الإنسان لما كان شريفاً تكون مطالبه شريفة فيكون فواتها خطراً فأقدر الله الإنسان على تحصيلها بالمشي فإن عجز فبإبلاغ كلامه إليه، والثاني: هو إنّ الإنسان له ثلاثة أشياء عمل بالجوارح تشاركه فيه الحيوانات، فإنّه حركة وسكون، وقول باللسان ولا يشاركه فيه غيره، وعزم بالقلب وهو لا اطلاع عليه إلّا لله، وقد أشار إليه بقوله: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، أي أصلح ضميرك فإنّ الله خبير، بقي الأمران فقال: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) إشارة إلى التوسط في الأفعال والأقوال، الثالث: هو إنّ لقمان أراد إرشاد ابنه إلى السداد في الأوصاف الإنسانية والأوصاف التي هي للملك الذي هو أعلى مرتبة منه، والأوصاف التي للحيوان الذي هو أدنى مرتبة منه، فقوله: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) إشارة إلى المكارم المختصة بالإنسان دون الملك، فإنّ الملك لا يأمر مالكاً آخر بشيء ولا ينهاه، وقوله: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا) إشارة إلى المكارم التي هي صفة الملائكة من عدم التكبر، وقوله: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) إشارة إلى المكارم التي هي صفة الحيوان، ولكن الإنسان يهذب هذه الصفات.

اثنا عشر: بدأ لقمان الحكيم وصيته لابنه بقوله: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) والسبب في البدء بهذا يعود إلى أنّ أوّل واجب على الوالد، وولي الأمر هو غرس العقيدة الصحيحة، فهي الأساس لبناء إيمان الشخص وتصوّراته وأفكاره، ثمّ إنّ لقمان الحكيم بدأ بالنهي عن الشِّرك ولم يبدأ معه بالأمر بالإيمان بالله تعالى وذلك لأنّ الإيمان بالله تعالى متحقّق لدى الأطفال بحكم الفطرة، ولكن المشكلة هي تحقيق توحيد الألوهية وهذا هو الذي ضلّ فيه كثير من الناس، وأمّا توحيد الربوبية وإثبات الخلق لله تعالى فهو محل اتفاق أكثر العالمين على مرّ التاريخ، وإنّما ضلّ الناس بسبب الشِّرك لله تعالى سواء كان من الشِّرك الأكبر أم الأصغر، قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف/ 106) ولذلك ركّز عليه لقمان.

ثلاثة عشر: التأكيد على غرس المحبّة والشوق، والترغيب والترهيب، والخوف من الله تعالى في قلوب المتربّين واستشعار رقابته على الإنسان وعلمه بكلّ الخفايا مهما خفيت فلا تخفى على الله تعالى فقال: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا) أي الخطايا والذنوب، بل خصال الشرّ والخير والأعمال كلّها (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، وهذا مثال مادّي مفهوم ضرب به حتى يثبت في قلب ابنه إنّ الذنوب مهما صغرت ومهما حاول صاحبها إخفاءها بكلّ الوسائل الممكنة فإنّها لا تخفى على الله تعالى، وحينئذ كن يا بني على علم بأنّ الله يعلم كلّ تصرُّفاتك ويرى كلّ حركاتك وسكناتك ويأتي بكلّ ذنوبك لتشهد عليك في يوم لا ينفع مال ولا بنون، وكذلك يأتي بكلّ أعمالك الصالحة فتشفع لك فتكون من الفائزين في ذلك اليوم العظيم، وقد رُوِي أنّ ابن لقمان سأل أباه عن الحبة تقع في مثل البحر، أيعلمها الله؟ فأجابه لقمان بهذا الكلام السابق.

أربعة عشر: تعليم الأطفال والمتربّين العبادات الأساسية والتأكيد على أدائها، وبالأخص على إقامة الصلاة، حيث يجسّد ذلك ربطهم بالله تعالى وحمايتهم من الانحراف.

خمسة عشر: تعويدهم في سن مبكرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تترتب عليه عدة نتائج في غاية من الأهميّة منها:

1 ـ الانطلاق من التعلّم إلى التعليم للغير.

2 ـ القدرة على المواجهة حيث يدرّب المتربّي وهو صغير على أن لا يكون سلبياً بل يكون إيجابياً يجهر بدعوته ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

3 ـ البدء بإكمال الآخرين بعد البدء بإكمال ما عليه من الواجبات، فهذه وظيفة الأنبياء والمصلحين.

4 ـ بناء الشخصية القوية القادرة على البيان والإفصاح عمّا تريد، فمن الطبيعي أن يكون الشخص الذي يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تكون له القدرة الأدبية، والفصاحة والبيان، أو يعوّد نفسه على ذلك، كما إنّ ممارسة ذلك تؤدِّي إلى تحقيق هذا الهدف المنشود، والقدرة على مواجهة الأحداث والرجال.

ستة عشر: وصية لقمان لابنه: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) تدل على ضرورة تعويد الأولاد والمتربّين على تحمّل المشاق والمشاكل والمصائب والصبر على النوائب، وعلى كلّ ما يصيب الإنسان بسبب الالتزام بدينه وفي ذلك بناء للشخصية القوية الجلدة التي تستطيع أن تبني، وأن تتحمّل النتائج، كما إنّ فيه دعوة لعدم تعويدهم على الترف والدلال الذي يقتل فيهم روح القوّة والبناء.

سبعة عشر: العناية القصوى بغرس القيم والأخلاق وبالأخص قيم السلوك وفنّ التعامل مع الناس من التواضع وعدم التكبر، والتوسط في الأصوات والمشي، فقال: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) حيث تتضمن عدّة نصائح:

1 ـ (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ)، والصعر: الميل، والمعنى: ولا تمل خدك للناس كبراً عليهم وإعجاباً، واحتقاراً لهم، قال الشاعر:

وكنّا إذا الجبّار صعَّر خده  ***  أقمنا له من ميله فتقوما

والصعر في الأصل: داء يصيب الإبل في رؤوسها حتى يلف أعناقها ويلوي رؤوسها فيسقط بعد ذلك.

وعلى ضوء ذلك، خصص لقمان وصيتين من وصاياه للنهي عن الكبر، وفي ذلك دلالة عظيمة على خطورة الكبر من حيث الجانب الديني الذي وردت فيه آيات وأحاديث كثيرة تدلّ على عظم ذنوب المتكبرين وسوء عاقبتهم وحرمانهم من الجنّة، وكذلك للكبر دور سلبي خطير في التعلّم، فالمتكبر لا يتعلّم، حيث يمنعه كبره عن العلم إضافة إلى أنّ الله تعالى لا يهدي نور العلم للمتكبرين المتجبرين، وإذا أعطاهم فإنّه استدراج، وعلم غير مبارك.

 

 المصدر: الشرق الأوسط 30 آب، 2003/ الكاتب: أُستاذ ورئيس قسم الفقه والأُصول ـ جامعة قطر.

ارسال التعليق

Top