◄ترتبط معرفتنا لفلسفة التأثير التكويني للذنوب بعدة مرتكزات، أُشير إلى بعضها وأتحدّث عن الأُخرى بشيء من التفصيل. والمرتكزات هي:
1- الإيمان بأنّ الخالق للنفس الإنسانية وما يعاصرها من أكوان وأحوال، وكذا الخالق لخصائص كلّ منهما، هو الله سبحانه وتعالى.
2- الاعتقاد بنظام خاضع لقوانين بالغة الدقة، معلومة أو لا تزال مجهولة ترتبط بعضها ببعض ومرتبطة بها كلّ حادثة، بحيث لم تعلم أسبابها اعتقد العلماء بأنّ لها سبباً مجهولاً لا يتعين على مَن أراد معرفته أن يبحث عنه، وأنّ هذا النظام وقوانينه الكونية الطبيعية شامل لجميع مفردات الكون دون استثناء. وليس للصدفة مجال ولا مصداق في خلق الأكوان وما يحدث من تركيب جزئياتها أو تحليلها إلى عناصرها وأُصولها قياساً إلى خالقها تعالى، وهو العالم بكلّ شيء ولكلّ تغيير في الأشياء دون استثناء لشيء أو لحالة من أحواله.
3- الاعتقاد بأنّه تعالى حكيم لم يخلق من خلق وما خلق عبثاً دون غاية.
4- الاعتقاد بأنّه سبحانه لم يخلق الخلق لحاجة منه إليه، لأنّه الغني المطلق حتى عن قيد الاتصاف والتقييد بصفة، وإنّما نصفه بما نصفه به من حكمة وغِنى وغيرهما نسبة إلى إدراكنا ومعرفتنا التي نتحدّث في إطارها. وعليه فلا تكون الغاية من الخلق إلّا من أجل الخلق، ولا يحتاج هو سبحانه إلى الخلق كي تكون الغاية عائدة إليه تعالى عن هذا علواً كبيراً.
5- إنّ الإنسان - روحاً وجسماً - هو تعين من تعينات هذا الكون وتجل من تجليات قدرة خالقة، وهو فيما نسميه بالحياة الدنيا مركّب من روح وبدن، وما موته حينما يموت إلّا تحليل هذين العنصرين وافتراقهما بعد اجتماع، وإطلاق كلّ منهما عن التقييد بالآخر، مثلما يتحلّل الماء المركّب من عنصرين، ليتحرّر كلّ منهما عن الآخر ويصبحان طليقين في الفضاء ليمتد وجودهما بعد هذا الافتراق المُسمّى بالموت.
6- إنّ الروح (النفس الإنسانية) بعد تجرّدها عن البدن لها من الشعور بالسعادة أو الشقاوة المطلقتين أو المحدودتين، مثلما لها في الحياة الدنيا من هذه الحيثية. ولكلّ من سعادتها وشقائها أسباب قد خفيت عن الإنسان في الدنيا فضلاً عن الآخرة إلّا بتعرّف مَن عرفه الله بذلك. هذه مجموعة مرتكزات يفترض فيمن كتبَ لهم هذا الكتاب أنّهم آمنوا بها وتجاوزوا مرحلة الاستدلال عليها واستناداً إليها، وتفريعاً على الثالث والرابع منها، ينبثق السؤال التالي: ما هي الغاية – بالتحديد - من خلق الله عزّوجلّ للإنسان؟
وممّا لا ريب فيه أنّ خالق الشيء أعرف بغايته من خلقه، وقد أعرب - سبحانه - عنها بقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات/ 56-58).
ولا شأن لنا فيما تعرّضت له الآية من أمر الجن والغاية من خلقهم وكيفية عبادتهم، وإنّما نريد استظهار ما تعرّضت له الآية الشريفة من بيان الغرض من خلق الإنسان موضوع البحث. فالعبادة وردت في الآية الأولى بعد لام التعليل ممّا يفيد أنّ العلة الغائية لما قبل اللام - وهو خلق الإنس - هي عبادتهم لله سبحانه، بل يفيد الحصر بـ(ما وإلّا) في الآية: أنّ خلقهم ليست له غاية إلّا عبادتهم لله. ومن المرتكز الرابع نفهم أنّ الغاية تعود للعباد لا لخالقهم الغني عنهم، ولذا عبرت الآية بـ: ليعبدون، ولم تعبر بـ: لأعبد. فالغاية أن يعبدوا الله لا أن يعبد الله. ويعزز هذا المعنى ما بعد الآية الأولى من الآيتين النافيتين لاستفادة الله من عباده، لأنّه الرزّاق ذو القوة المتين. والعبادة هي طاعة الإنسان لربّه، وهي بهذا المعنى أعمّ من العبادة بالمصطلح الفقهي فهي تشمل كلّ طاعة تقرّب من الله تعالى. وإذا ما علّمنا أنّ الدِّين هو الطاعة، علّمنا أنّ الصلاة عمود الطاعات، لما رُوِي عن أبي جعفر (ع) قال: "الصلاة عمود الدِّين، مثلها كمثل عمود الفسطاط، إذا ثبت العمود ثبتت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب".
ومن هنا ينبثق سؤال آخر هو:
هل إنّ الغاية من خلق الإنسان هي الصلاة وما دونها من طاعات؟
ظاهر الآية ذلك، ولكن يبدو من ملاحظة نصوص أُخرى أنّ الدِّين كلّه من عموده إلى أوتاده وأطنابه إنّما هو وسيلة وسبب إلى الغاية القصوى لخلق الإنسان وتشريع الدِّين له، تلك الغاية هي معرفة الربّ وتوحيده، إن لم نقل إنّما الدِّين هو التوحيد كما هو معناه لغة أيضاً.
ذلك لما رُوِي عن الإمام الرضا (ع) قوله: "إنّ علة الصلاة إنّما إقرار بالربوبية لله عزّوجلّ وخلع الأنداد وقيام بين يدي الجبار- جل جلاله - بالذل والمسكنة والخضوع والاعتراف والطلب للإقالة من سالف الذنوب، ووضع الوجه على الأرض كلّ يوم إعظاماً لله عزّوجلّ، وأن يكون ذاكراً غير ناسٍ، ولا بطرٍ، ويكون خاشعاً متذللاً طالباً للزيادة في الدِّين والدنيا، مع ما فيه من الإيجاب والمداومة على ذكر الله عزّوجلّ بالليل والنهار، لئلّا ينسى العبد سيِّده ومدبّره وخالقه فيبطر ويطغى، ويكون في ذكره لربّه وقيامه بين يديه زاجراً له عن المعاصي، ومانعاً له عن أنواع الفساد". وفي خبر آخر عنه (ع) قال: "إنّما أمروا بالصلاة، لأنّ في الصلاة الإقرار بالربوبية، وهو صلاح عام، لأنّ فيه خلع الأنداد والقيام بين يدي الجبار". فإذا كانت الصلاة - وهي عمود الدِّين - إنّما وجبت من أجل القيام بالربوبية وخلع الأنداد والمداومة على ذكر الله تعالى وتطهير النفس عن الفحشاء والمنكر، فهي إذن وسيلة لهذه الغاية وليست غاية لخلق الإنسان. وإنّما الغاية القصوى وغاية الغايات هي المعرفة ومستلزماتها من تطهير النفس والإقرار بعبوديتها وتوحيد الربّ وعدم الغفلة عنه.
ولذا ورد أنّ أبا عبدالله (ع) سُئِل عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم وأحبّ ذلك إلى الله عزّوجلّ ما هو؟
فقال (ع): "ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى ابن مريم (ع) قال: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) (مريم/ 31)". وكان موضوع المعرفة لا يحتاج إلى التدليل على أفضليته، والصلاة تحتاج لإثبات أفضليتها للاستشهاد بالآية.
وأشار صاحب الميزان إلى ما رواه القمّي في تفسير قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، وقال: "إنّ هناك أغراضاً مترتبة: التكليف والعبادة والمعرفة". ممّا يؤكّد ما انتهينا إليه من أنّ المعرفة هي الغاية القصوى للخلق باعتبار أنّ ما قبلها وسيلة لها فهي مترتبة عليه.
وقال في خلاصة ما انتهى إليه من تفسير الآية: "فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة، وهي أن ينقطع العبد عن نفسه وعن كلّ شيء ويذكر ربّه".
هذا كلّه بناء على أنّ معنى (ليعبدون)، هو ليطيعوا الله بالعبادات في امتثال أوامره ونواهية. أمّا إذا كان معناها هو: ليقرّوا بالعبودية، كما عن ابن عباس، فإنّ دلالتها على معرفة الربوبية لا يحتاج إلى ما ذكرناه من وسائط ومقدمات لإثبات أنّ المقصود بالآية هو أنّ المعرفة غاية الخلقة.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق