• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ماهية المثقف العربي

مجموعة كتاب

ماهية المثقف العربي
شغلت مفاهيم مثل الثقافة والحضارة، والمثقف، والانتلجنسيا، اهتمام نفر غير قليل من مثقفي العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه. ودون الخوض في اختلاف الآراء بين المفكرين والعلماء في هذا الشأن، وما طرح خلال مناقشاتهم وأعمالهم حول هذا الموضوع من إشكاليات لغوية واجتماعية وسياسية – وهو ليس هدف المقال المطروح ويمكن الرجوع إليه في مصادره التراثية – يمكن رصد حد أدنى من الاتفاق حول تحديد مفهومي الثقافة والمثقف. فالثقافة تعني ذلك "النسق من المعرفة العامة والمتخصصة". ويصبح المثقف هنا هو ذلك الشخص الذي نال قدراً من هذه المعرفة واهتم بأمورها في مجالات الفكر والعلم والأدب. وجدير بالذكر، انّ مصادر الثقافة ووسائلها تختلف من مجتمع إلى آخر، من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى. ومن هذه المصادر ما هو مكتوب ومدون، وما هو مسموع ومرئي، وهناك مصادر أخرى أهمها خبرة المعيشة ذاتها، أي تلك المعرفة التي تتشكل من خلال خبرة ممارسة الحياة اليومية. فمن المتوقع، على سبيل المثال، انّ مجتمعاً تنتشر فيه الأمية كظاهرة اجتماعية، يختلف (من حيث مصادر الثقافة والمعرفة) عن مجتمع آخر لم يخبر – في الوقت نفسه – هذه الظاهرة. ومن ثمّ، فإنّ مصادر الثقافة في هذه الحالة ليست هي فقط المؤسسات التعليمية أو عن طريق الاطلاع، وانما تعتمد على مصادر أخرى ترتبط بطبيعة المجتمع ذاته، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "ثقافة الخبرة". ولكي يمكن تبرير طرح هذه المفاهيم الجديدة والإعلان عن أهمية تطبيقها في واقع مجتمعاتنا العربية، علينا أن نتتبع أهم المناقشات التي أُثيرت في الآونة الأخيرة، خاصة في الوطن العربي حول قضايا الثقافة والمثقف. وبادئ ذي بدء، علينا أن نعترف بالجهود الجادة التي قدمها المفكرن العرب لتحديد مفهوم المثقف العربي خلال ندواتهم العلمية. إلا أن تتبع هذه المناقشات يعطينا انطباعاً بأنّ هناك أزمة من نوع جديد وهو ما يمكن وصفها بأزمة التغريب والتي ترجع أصولها – من وجهة نظري – إلى إشكالية الوحدة بين الموضوع والذات، بمعنى انّ المثقف في هذه الحالة هو الموضوع وهو الذات في آن واحد، مما يشكل عائقاً أمامه في الإبقاء على صورته المثلى أمام المجتمع، لأنّ عليه أن يحدد هويته الشخصية وتاريخه الذاتي. وبالتالي يظل أسير التفكير في تاريخه الشخصي. ومن المتوقع أن نواجه برد، ربما كان صامتاً من القارئ، على اعتبار انّ هذه القضية لا تشكل في واقع الأمر إشكالية، فالمسألة مألوفة وطبيعية، بل قد يصل إلى أبعد من ذلك برفض ما لا يريد الإفصاح عنه فيتساءل بتعجب: من الذي يملك تحديد تعريف هوية المثقف عدا تلك النخبة "الشرعية" والمعترف بها أمام المجتمع! وربما نستطيع الرد على هذا التساؤل، بتلقائية بعيدة عن الجدل السفسطائي من منظور الإيمان بأهمية هذه القضية في المجتمع العربي، والاهتمام بقيمة شعب هذه المنطقة في التحليل النهائي على النحو التالي: إذ اتفقنا على أنّ معظم شعوب البلدان العربية تعيش في مستوى فكري واجتماعي متخلف، فمن المؤكد انّ القلة من أبناء هذه البلدان يتاح لها الانضمام أو الاقتراب من صفوف النخبة المثقفة، أو الدخول في عدادهم. وحتى إذا سلمنا بأنّ النخبة المثقفة قليلة العدد – وهذا واقع لابدّ من الاعتراف به حتى لا نتهم بالمثالية – هي فقط القادرة على التنظير ووضع المفاهيم – دون إيماننا بذلك – فيجب أن نطرح على أنفسنا التساؤل التالي: هل يخطر ببال المثقفين وهم حول مائدتهم العلمية لمناقشة قضايا الثقافة والمثقف، هل يخطر ببالهم نمط متميز للمثقف يفرزه بالضرورة واقع عربي متخلف؟ بكلِّ تأكيد تكون الإجابة بالنفي، وهذه يخلق إشكالية أمام المثقف "المشروع" الذي عادة ما يعتمد في مصادره المعرفية على مصادر غربية. والثقافة الغربية بطبيعة نشأتها، ظهرت لحل مشكلات واقعية اجتازت تلك المجتمعات، فظهرت كفكر ايديولوجية تبريري لأوضاع غريبة عن مجتمعاتنا ولا تصلح للتطبيق في مجتمعات أخرى. ومن ثم نجد فجوة بين النظرية والتطبيق. والأخطر من ذلك، اللجوء إلى وضع الواقع في "حضانة" مجهزة لهذا الغرض في محاولة تغيير هويتها ومعالمها الأصلية لكي تتفق مع مقولات الثقافة الغربية التي شكلت المفكر وأفكاره الأيديولوجية. وهذا ما يدعونا إلى ضرورة "تجسير" الفجوة والبدء من تعريف المثقف العربي. ماذا نعني بالمثقف العربي؟ هل هو المفكر المتميز والمسلح بالبصيرة بمفهوم فيبر Weber؟ أم هو المفكر المتخصص في أمور الثقافة والفكر المجرد البعيد عن أمور الحياة بمفهوم بارسونز Talcoh Parsons؟ أم هو المثقف العضوي (Organic) بمفهوم غرامشي Antonio Gramsci؟ أم هو المتعلم بمفهوم الأفغاني. ولا شك انّ هذه المفاهيم تثير كثيراً من القضايا على جانب كبير من الأهمية، بعضها يتعلق بمصدر المعرفة، وأخرى تختص بنوعية الثقافة وأشكالها، وثالثة تثير العلاقة بين المثقف والنخبة السياسية، ورابعة تركز على التخصص الفني... إلى آخر ذلك. وواقع الأمر انّ المثقف ليس بالضرورة خريج التعليم العالي، أو الذي حصل على قسط "كافٍ" من التعليم، كما انّه ليس الفني المتخصص، فقد تكون هذه المحددات صالحة للتطبيق في مجتمعات أخرى غير مجتمعاتنا العربية، وبالتالي نحن في حاجة إلى تصنيفات أخرى في ضوء رؤية واقعنا العربي وظروفه الخاصة. إذ تشير الخبرة التاريخية في مجتمعاتنا العربية، إلى جانب الأنماط والشرائح المثقفة المتعلمة والمتخصصة والفنية، إلى وجود نمط آخر نشير إليه بنمط "المثقف بالخبرة"، ونعني به ذلك الشخص الذي "اوتي حظاً" من المعرفة العامة تشكّل وتطوّر خلال خبرة الممارسة اليومية أو من خلال خبرة الصراع مع الحياة المعيشية. هذا القدر المعرفي الذي يتيح له توصيف قضايا مجتمعه، يدفعه نحو إيجابية توظيف هذه المعرفة في تحليل المجتمع ونقده، وما يقابله من قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية، متخذاً "ايديولوجية خاصة أي موقفاً ملتزماً مساهماً في وضع بدائل النظام القائم أو وضع حلول عملية تنبؤية لمجتمعه. إلا اننّا مع ذلك يجب أن ننوه إلى انّ "المثقف بالخبرة" يظل – مع هذا وفي كثير من الحالات – أسير المجتمع المحلي، مبدعاً في إطاره، راغباً في نقده، مساهماً في تغييره، واعياً ليس فقط بمصالح الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وانما أيضاً بمصالح الفئات الأخرى المتناقضة مصلحياً معه. ومن أمثلة هذا النمط، نجد مثقف القرية أو ما يمكن أن نطلق عليه المزارع المثقف الذي تمثل مصادر معرفته خبرة الحياة وممارستها مما يؤهله للعب دور أساسي في التغيير الاجتماعي في داخل مجتمعه. مما سبق، تتضح لنا بعض الملاحظات الأساسية التي تلقي الضوء على فهم ماهية المثقف العربي ومن أهمها، انّه يجب النظر إلى المثقف العربي في ضوء واقع المجتمع الذي ينتمي إليه من جوانبه المادية والمعنوية. مما يلقي الضوء على أهمية قضية الانتماء العربي والالتزام الأيديولوجي والقومي. من هنا نطرح الفكرة الثانية والتي تتعلق بتصنيف المثقفين، فلا يجب اقتصار التصنيف لشرائح المثقفين على المحكمات التقليدية السائدة – مع إيماننا بأهمية بقائها في الوقت نفسه – القائمة على محكات السلفية والمعاصرة، والتقليدية والعضوية، التقليدية و"التاريخانية" أو التصنيف القائم على المقابلة بين المبدع والعادي أو المحافظ والراديكالي.. إلى آخر ذلك. وانما يمكن النظر إليه في ضوء محك الالتزام. إذا كان موضوع اهتمامنا الرئيسي هو البحث عن هوية المثقف العربي، فلا يمكن إغفال إشكالية الانتماء والتي لم تحسم على المستوى الفكري بين النخبة المثقفة بتياراتها المختلفة. فالمثقف العربي هو ذلك "المفكر الواعي بأهمية قضية الانتماء القومي، والواعي بأهمية دوره في إحداث التغيير الاجتماعي القائم على الخلق والإبداع لتنمية مجال الفكر الجدلي المستقل، الفكر الذاتي، القادر على مجابهة التبعية الخارجية بأشكالها المتعددة والمتطورة". وهنا تظهر إشكالية أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، وهي خاصة بنمط "المثقف بالخبرة". ففي كثير من الحالات نجد انّ هذا النمط يظل أسير الواقع المحلي لكنه مع ذلك يتسم بالالتزام، الالتزام بقضايا مجتمعه في الأساس، له موقف نقدي منها، ومن ثم تظل قضية الالتزام العربي غير مطروحة لديه، بعيدة عن فكره، ومن هنا نرى، انّ هذه القضية تضيف عبئاً جديداً على الشريحة الأولى من المثقفين، فإذا كنا نطالبهم بالدور الطليعي والالتحام بالجماهير وتوعيتهم ونشر الثقافة الإيجابية ومواجهة ثقافة الاستهلاك، فإنّ عليهم واجب بث الثقافة الملتزمة، وانتقاء تلك العناصر من "المثقفين بالخبرة" والعمل معهم ولهم، ومن ثمّ تنشر الثقافة الملتزمة بين أبناء هذه الشعوب مما يحل جانباً جوهرياً من أزمة التناقض بين الفكر والواقع.   المصدر: كتاب نحو علم اجتماع عربي (علم الاجتماع والمشكلات العربية الراهنة)

ارسال التعليق

Top