• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

محددات الممارسة الثقافية لدى الشباب العربي

الغالي أمرشاو

محددات الممارسة الثقافية لدى الشباب العربي
ما هي محددات الممارسة الثقافية لدى الشباب العربي؟ هذا سؤال عام وواسع لأن مصادر الإجابة عليه تهم الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والتوجهات التربوية والتثقيفية المعتمدة في الوطن العربي. وتجنباً لأي استطراد أو انزلاق في متاهات الاستحضار المكثف لتفاصيل هذه المصادر، نرى ضرورة التركيز على أربعة مكونات فقط، نفترض فيها إمكانية الإحاطة والإلمام بهذه المحددات، وبالتالي توضيح ما المقصود بالمسألة المطروحة:   - المحددات الاقتصادية: رغم مرور عدة عقود من الزمن على استقلالها السياسي، فإنّ الأقطار العربية ما تزال مهددة بالتبعية الاقتصادية التي تؤثر بشكل من الأشكال على ثقافة المجتمعات العربية وعلى الممارسات الثقافية لشبابها. وإذا كان من مظاهر هذا التأثير ترسيخ هيمنة قوى الإعاقة والتخلف والخضوع للأمر الواقع، فإن غياب مشاريع التنمية الاقتصادية والمخططات العلمية التي تُعنى بهموم الشباب وتطلعاتهم المستقبلية، قد ساعد على طمس وضياع طاقات وكفاءات هذه الفئة البالغة الأهمية. فرغم كل المحاولات التي تدخل في إطار العناية بمشاكل الشباب العربي وقضاياهم الأساسية، إلا أنّ الميزانيات المخصصة لتنمية مهاراتهم الفنية والثقافية لا تفي بالغرض المطلوب. فالجهات العربية الرسمية، على اختلاف خياراتها الأيديولوجية والسياسية، لم تفلح حتى الآن في خلق الظروف والشروط الملائمة لتوجيه هذه الفئة واستثمار طاقاتها ومواهبها، وهذا ما كان له أثر سلبي على أوضاعها الاجتماعية وممارساتها الثقافية. وقد كان بالإمكان التخفيف من هذا القصور لو تم التركيز على خلق مؤسسات اجتماعية وثقافية وتربوية، قوامها تحريض الشباب على الاستئناس بالأنشطة الثقافية التعويضية وحثهم على ممارسة الأفعال الثقافية الهادفة. لكن الغياب شبه التام لهذه المؤسسات أدى إلى ظهور قصور واضح في هذا النطاق، حيث أصبح الشباب العربي يفضل الممارسات الثقافية الفردية على الممارسات الثقافية الجماعية المنظمة[1].   - المحددات الاجتماعية: لا جدال في أن ممارسة الشباب للثقافة تجمعها علاقة عضوية بواقع المجتمع واختياراته الاجتماعية المختلفة؛ إذ أن أي تحول في مكونات هذا الواقع ينعكس سلباً أو إيجاباً على أبعاد هذه الممارسة وعلى توجهاتها الأساسية. فكلما نجح المجتمع في توفير الظروف الاجتماعية الملائمة لتأسيس ثقافة عضوية إلا وتولدت عن ذلك ممارسة ثقافية مطابقة، وكلما فشل في ذلك إلا وكانت السيطرة للممارسات الثقافية الهامشية المنعدمة الفائدة والجدوى. إذا نظرنا إلى خصائص هذه العلاقة من زاوية محلية، يمكن القول إنّ المجتمعات العربية لم تعد من حيث واقعها الاجتماعي تلك المجتمعات البسيطة الضيقة في احتياجاتها ومراميها والمحدودة في مطامحها وآفاقها، بل إنّ هذه المجتمعات أصبحت، وبفعل تحولاتها المرحلية وتطلعاتها إلى توظيف التقنيات العلمية الحديثة وإلى الانفتاح على المجتمعات المتقدمة، أصبحت موطناً لثقافات متنوعة أسهمت في توسيع الهوة بين المكونات الاجتماعية المحلية والممارسات الثقافية للشباب. فالأسرة التي تعتبر أوّل مؤسسة اجتماعية ينشأ فيها الشاب وينهل من تقاليدها الاجتماعية وتعاليمها الثقافية، أضحت تتعرض في السنوات الأخيرة لعدد كبير من التغيرات التي يحددها أحد الباحثين في ثلاثة مظاهر[2]: أوّلها هو أنّ الأسرة العربية لم تعد تمثل تلك المؤسسة الشمولية ذات الوظائف المتعددة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية، بل إن دورها الحالي أصبح جداً محدود بفعل ظهور مؤسسات أخرى تنافسها في هذا الدور. ثانيها هو أنّ هذه الأسرة التي كانت فيما سبق تشكل المؤسسة المركزية، أصبحت اليوم مؤسسة محيطية تتأثر بالظروف الاقتصادية والسياسية للمجتمع وتعاني من أزمة حادة في مسؤولياتها ووظائفها. وثالثها هو أنّ الأسرة العربية التي كانت في السابق تحظى بنوع من الاستقلال الذاتي، أصبحت مفتوحة على مصراعيها للتأثيرات الخارجية ولممارساتها الثقافية. تبعاً لهذا التحديد، ويبدو أنّ الأسرة العربية التي تشكل بدون منازع الصورة المصغرة والحية لمكونات المجتمع وتقاليده المختلفة، أضحت تتعرض لتغيرات عميقة في بنياتها ووظائفها الأساسية. فرغم كونها ما تزال تلعب الدور الريادي في تحمل مصاريف تعليم الشباب وتوجيههم، إلا أنّ هذا لا ينفي مطلقاً الأبعاد السلبية لوظيفتها هاته، والتي تختلف باختلاف الأوضاع الاقتصادية والثقافية. وهذه مسألة تؤكدها نتائج أغلب الأبحاث والدراسات التي تمت في هذا المجال؛ إذ أن علاقات الشباب العربي بأوساطهم الأسروية هي على العموم علاقات وصاية واضطهاد وإحباط يتعذر معها تحقيق الإشباع العاطفي والتوازن النفسي والاستقلال الذاتي[3]، وبالتالي يستحيل معها تحقيق الممارسة الثقافية المطابقة لمطامح الشباب وتطلعاتهم المستقبلية.   - المحددات الثقافية: قد نسلم بأن ارتفاع المستوى الثقافي، الذي يشكل المستوى التعليمي إحدى مؤشراته البارزة، يمثل أحد الشروط الضرورية التي تتزايد معه حاجة الشباب إلى الممارسة الثقافية المطابقة لبنيات المجتمع وثقافته العضوية. هذا تحديد نموذجي لمفهوم الثقافة ولممارستها كسلوك ثقافي هادف. لكن ما موقع الثقافية العربية من هذا التحديد وما هي مكوناتها الرئيسية؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال المركب من خلال العنصرين التاليين: الأوّل مفاده أنّ الواقع الثقافي العربي ما يزال مشوباً بالحضور القوي للثقافة الاستعمارية التي تترجمها مظاهر استمرار سيادة اللغتين الانجليزية والفرنسية في المدارس والإدارات والشوارع على حساب لغتنا القومية[4]. وهذا ما أدى إلى ظهور ثقافة منفصمة عن الواقع الاجتماعي، أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها ثقافة غير مطابقة لواقع المجتمع العربي. فمنطقها مختلف وتعبيرها مختلف وذوقها مختلف عما تعود عليه المجتمع الأصلي وعما يسير عليه عامة الناس. فعوض أن تعكس هذه الثقافة تحولات المجتمع العفوية وأن تتأثر مباشرة بتناقضاته، نجدها هي التي تحاول أن تغير السلوك والذوق والتعبير ليعود المجتمع مطابقاً لمنطقها[5]. الثاني مؤداه أنّ الثقافة العربية وبشهادة الكثير من الباحثين، تشكل نسقاً واسعاً تتعايش داخله وبشكل تقاطعي شبكة من النزعات والاتجاهات التي يعوزها الائتلاف ويسودها الاختلاف. فهناك الثقافة العربية الكلاسيكية التي تمجد الماضي وتقدسه وترى في إحدى فتراته الصورة النموذجية التي يجب أن تتجسد في الحاضر والمستقبل. وهناك الثقافة العربية الحديثة التي وبفعل ازدواجيتها، تعيش في ضياع شبه تام لأن زمنها الثقافي بعيد كل البعد عن ذاتية الفكر العربي وخصوصياته الحضارية والثقافية. إذن، على أساس ما يشبه هذه المفارقات والتلونات، أصبحت الثقافة العربية تشكل موطناً لخليط من التوجهات المتاينة، تسعى إلى تحقيق كل شيء وهي في الواقع لا تحقق أي شيء، فباسم الأصالة والمعاصرة نجدها تخلط بين أزمنة ثقافية وممارسات فكرية لا تزيدها إلا الغموض والضياع، حيث تنكص تارة إلى الماضي وتَنْشَدُّ إلى إنتاج السلف لإحياء التراث، وتتطلع تارة أخرى إلى المستقبل، حيث تتشبث بإنتاج الغرب لتحقق التقدم ولو عن طريق التقليد والتبعية[6]. وهذا ما يفسر ظاهرة افتقار الشباب العربي إلى هوية ثقافية مطابقة؛ إذ أنّ الغموض الذي يسود أوضاعهم السوسيوثقافية، وخاصة على مستوى تنوع مكوناتها وعدم تجانس عناصرها، غالباً ما ينعكس سلباً على ممارساتهم الثقافية.   - المحددات التربوية: سبقت الإشارة إلى أنّ الأسرة العربية لم تعد تمثل المؤسسة الوحيدة ذات الدور الفعال في تنشئة الشباب وتهييئهم للمستقبل، بل إن مؤسسات أخرى أصبحت تنافسها في هذا الدور، وفي مقدمتها: المؤسسات التعليمية والتثقيفية. والسؤال الذي يُطرح هنا هو إلى أي حد أفلحت هذه المؤسسات الأخيرة في تكوين الشباب وإعدادهم لممارسة ثقافية مطابقة وهادفة؟ رغم ما قد تستدعيه الإجابة عن هذا السؤال الواسع من كثافة في الوقائع والمعلومات، لأنّ الأمر يهم السياسات التعليمية العربية بأكملها، فإن اهتمامنا لن يتجاوز في هذا الإطار حدود استحضار مسألتين اثنتين، نفترض فيهما إمكانية الإحاطة النسبية بمضامين الإشكالية المطروحة: أولاهما تتعلق بكون أنّ الأنظمة التعليمية في الوطن العربي، ورغم الإصلاحات المتتالية الهادفة إلى تحسين وسائلها ومسالكها، ما تزال تشكو من نواقص وقصورات كثيرة. فبرامجها التكوينية تبدو غير ملائمة إن لم نقل متجاوزة وذلك بفعل جمودها وفشلها في تحقيق رغبات الشباب وتطلعاتهم المعرفية والثقافية والمهنية. فنتيجة افتقارها إلى المعدات والوسائل التربوية اللازمة، وبفعل البطالة التي تنتظر خريجيها، نجد المدارس والمعاهد والجامعات المطبقة لهذه الأنظمة تتخبط في مشاكل كلها تعبير وتجسيد لمحدودية وظائفها في مجال تكوين الشباب وتثقيفهم وتأهيلهم لميادين العمل والإنتاج. وثانيتهما ترتبط بازدواجية التكوين؛ إذ أنّ الأنظمة التعليمية في العالم العربي، أنظمة تنبني على منهجين مختلفين: منهج تقليدي يلقن بالعربية في جامعات دينية ومدارس الحديث ومنهج عصري متخصص يزاوج أحياناً بين اللغتين العربية والإنجليزية أو بين اللغتين العربية والفرنسية وأحياناً أخرى يقتصر على إحدى اللغات الأجنبية – فرنسية أو إنجليزية –، خاصة حينما يتعلق الأمر ببعض العلوم المستحدثة كالإعلاميات. فازدواجية التكوين هاته وما يصاحبها من مظاهر الفصل بين العلوم الموروثة والعلوم الحديثة، هي التي تركز ظاهرة الانفصام بين الثقافة والمجتمع، وبالتالي مظاهر التعارض في الأهداف بين الشباب الممارسة للثقافة التقليدية والشباب الممارس للثقافة الحديثة، حيث لا تعرف الفئة الأولى حدود العلم الحديث وتجهل الفئة الثانية حدود الآداب التقليدية[7].      الهوامش:
[1] "الشباب العربي، فريسة الحصار الخارجي والقصور الداخلي"، كلمة الوحدة، مجلة الوحدة، العدد: 39، ديسمبر 1987، ص5. [2] محمد جسوس، "التطورات العائلية والتنشئة الاجتماعية للطفل المغربي"، مجلة الدراسات النفسية والتربوية، العدد الأول، يناير 1982، ص58-60. [3] عبد اللطيف معاليقي "صراع الأجيال أو صراع الثقافات"، مجلة الوحدة العدد: 39 ديسمبر 1987، ص77. [4] محمد عابد الجابري، رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية، الدار البيضاء، دار النشر المغربية، 1981، ص58. [5] عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، بيروت، 1983، ص172-173. [6] أحرشاو الغالي، "معوقات التأسيس العلمي للعلوم الإنسانية في الوطن العربي"، مجلة شؤون عربية، العدد: 56، 1989، ص128.

[7] عبد الله العروي، مرجع سابق، ص 174-176.

  المصدر: كتاب واقع التجربة السيكولوجية

ارسال التعليق

Top