العلّامة الشيخ محمّد جواد مغنيّة
الجهد هو عنصر من عناصر الخير والفضيلة، والمراد بالجهد هنا ـ بضمّ الجيم وقد تفتح ـ أن يستخدم المرء كلّ ما يملك من طاقة لمقاومة ما يصدّه عن الاستقامة والخلق الكريم في نشاطه وسلوكه. والدُّنيا كلّها نضال وكفاح، وهل ظفر الإنسان بشيء منها إلّا بسعي وجهد، أو نجح فيها غير المجدّ الكادح والدؤوب الحاذق؟
أمّا الدِّين والإيمان، فهو فعل الواجب وترك الحرام، ومثله تماماً الأخلاق، والفرق في اللغة التسمية. فالواجب الفقهي اسمه عند الأخلاقيين خير وفضيلة، والحرام شرّ ورذيلة، والله سبحانه لا يأمر إلّا بخير، ولا ينهى إلّا عن شرّ، ولابدّ للتنفيذ والطاعة من مكافحة الشهوة العاتية الناهية عن الخير وفعله، ومقاومة الهوى المعاكس لترك الشرّ والرذيلة.
والفقهاء يُسمّون الواجبات والمحرمات بالتكاليف الشرعية، والأخلاقيون يُسمّون هذه التكاليف بالإلزام فعلاً أو تركاً، ويقول الفقهاء: يجب على المكلَّف إطاعة التكليف وامتثاله، ويقول الأخلاقيون: الإنسان مسؤول عن الإلزام، وأيضاً يشترط الفقهاء النيّة لوجه الله في العبادة، وأهل الأخلاق يوجبون فعل الخير لوجه الخير، وبهذا يلتقي الفريقان على صعيد واحد في الإلزام والمسؤولية والنيّة.
والجزاء يبحثه الأخلاقيون وعلماء الكلام دون الفقهاء، أمّا الجهد، فيُبحث في التصوّف وعلم الأخلاق.
طريق الحقّ والفضيلة:
لا شيء أكثر من العقبات في طريق الحقّ والخير والفضيلة، ولا بدع، فإنّ ثمن كلّ شيء بحسبه، وإذا عرفنا أنّ ثمن الجنّة عند الله سبحانه النهي عن الهوى، كما جاء في الآية 40 من النازعات، عرفنا أن تنفيذ هذا النهي صعب مستصعب، لأنّ كلّ شيء من هذا القبيل يكاد يتحطّم على صخرة الأهواء والأغراض. أليس هوى المرء مشدوداً بمنافعه الشخصية تلقائياً وعاطفياً؟ وإذاً فالنهي عن هواه نهي عن هذه المنافع بالذات، ومن هنا، قال رسول الله (ص) وهو عائد من بعض غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». وقال الإمام أمير المؤمنين (ع): «الحقّ ثقيل مريء، والباطل خفيف وبيء».
وأقبح القبيح، أن يجهل المرء بجهله، فيظنّ الخير شرّاً، والشرّ خيراً، وقد يُسيء بهذا الجهل إلى نفسه وهو يحسب أنّه يحسن إليها صنعاً!. قال رجل لأبي ذرّ: «اطرفني بشيء من العلم. فقال له: إن قدرت أن لا تُسيء إلى مَن تحبّ فافعل. فقال له الرجل: وهل رأيت أحداً يُسيء إلى مَن يحبّه؟ قال: نعم، نفسك أحبّ الأنفُس إليك، فاذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها».
وقسم المؤلّفون في الأخلاق الجهد إلى روحي وبدني، وأطالوا الكلام عن الثاني بلا طائل، لأنّ السعي والكدح من أجل الرزق وسدّ الخلّة من ضرورات الحياة، ولا أحد يسأل الزارع لماذا تزرع؟ والعامل لماذا تعمل؟ ومَن توكّأ على غيره لعجز فمعه عذره، على أنّ فئة من الفلاسفة قالوا: «مَن يستهلك ولا يعمل لعجزه يجب أن يُترك للموت».
ومنهم أفلاطون وبيكون ونيتشه وتومار وصاحب الإنسان هذا المجهول، وهو من أقطاب القرن العشرين، وبعض الشعوب تترك العجزة في مجاهل الصحراء (مجلة عالم الفكر الكويتية العدد الثالث من المجلد الرابع)، وشعوب أُخرى في هذا العصر تذبح الهرم العاجز وتأكله.
أمّا الجهد البدني في عبادة الله سبحانه، فقد كان منذ زمان، حيث كان لحياة الروح آثارها وثمارها، وكان الكثير من العباد يحرصون على الندب حرصهم على الواجب، وأذكر من ذلك مثالاً واحداً، لأنّه نزل من نفسي منزلته، قال رجل لأبي ميسرة العابد: «يرحمك الله يا أبا ميسرة، أتجهد نفسك في العبادة، والله ذو رحمة واسعة؟!.. فقال له أبو ميسرة: هل رأيت مني ما يدلّ على القنوط من رحمة الله؟ إنّ رحمة الله قريب من المحسنين»، فليس لأحد أن يعتمد على رحمته الواسعة إلّا أن يكون محسناً.. وهنا مكان العبرة والاعتبار لمن يرجو رحمة ربّه.
هذا ما كان، أمّا ما هو كائن الآن، فقد أنتج العدوّ الأجنبي لنا سلعاً تستنزف الدماء والأموال، وأفكاراً تضلّل العقول وتعمي القلوب، فاستهلكنا هذه وتلك بالكامل، وانسلخنا عن كلّ قيمة وتراث، ولم يبقَ فينا من العابدين والمتهجّدين إلّا مَن يؤدِّون الفريضة المكتوبة وكفى.. على أنّهم أقلّ من القليل، وإن وجد في الزوايا بقايا من السلف الصالح، فمن باب «لكلّ قاعدة شواذ».
ومن هنا، كان الجهد النفسي في هذا العصر أكثر إصراً وأشدّ عُسراً من أيّ وقت مضى، ولكن هذا لا يخفف المسؤولية، بل يؤكّد وجوب العمل للخروج من عهدتها، ولا يبرّر الجريمة، بل يستوجب المزيد من النشاط ومقاومة المنكر، والمؤمن الصادق لا يتهرّب من واجبه متعلّلاً بالأعذار الزائفة، بل يصمد ويضاعف الجهود، والله يضاعف له ويزيده من فضله. وتاريخ الإنسانية كلّه حرب وصراع بين عناصر الخير وعناصر الشرّ، وبين أنصار الحقّ والباطل. حتى دنيانا هذه التي بلغت من الإغراء والمادّة غايتها، فيها الكثير، ولله الحمد، من الشهداء والمعتقلين والمشرَّدين، لا لشيء إلّا لأّنهم رفضوا الاستسلام للبغي، وأبوا إلّا العدل والمضيّ على الحقّ.
هذا، إلى أنّ النفس الأمّارة لا تملك قنابل وصواريخ، وما لها أيّ سلطان ظاهر وقاهر، وغاية جهدها أن تدعو إلى التمرّد على الدِّين والعقل والخلق الكريم، كما جاء في الآية 22 من سورة إبراهيم على لسان الشيطان: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (إبراهيم/ 22).
وكم سمعنا وقرأنا عن أفراد تحرّروا بالعزم الصادق وقوّة الإرادة من أعمال بغيضة وعادات قبيحة بعد أن اعتادوها عشرات السنين، وصارت لهم طبيعة ثانية وثابتة: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق/ 3).
المصدر: كتاب فلسفة الأخلاق في الإسلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق