• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ملامح الزهد في نهج البلاغة

عيسى سليمان حبيب

ملامح الزهد في نهج البلاغة

نقدم لكم بعض الإضاءات في ملامح الزهد:

- وسائل الزهد: لم يألُ الإمام علي (ع) جهداً في دعوة الناس إلى الزهد، وفي خطبه الشريفة أساليب متعددة لهذه الدعوة بين نصائح مباشرة أو دعوة إلى الاعتبار والتبصّر أو ذمٍ للدنيا وتهوين لشأنها في مقابل تعظيم الأخرة. فمن مواعظه المباشرة: "أيها الناس! انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها، الصادقين عنها" "عباد الله! أوصيكم برفضِ الدنيا التاركة لكم، وإن لم تحبُّوا تركَها". ولعلّ القول الثاني يوضح المقصد من القول الأوّل، إنها ستتركنا غير عابئةٍ بنا، ولن يهوّن علينا فراقها إلا الزهد فيها، ومبادرة الفراق قبل حلوله، فلنستقبلها بما تودّعه به من إعراض وقلّة احتفال. وكيف يكون الرفض؟ "إنما الدنيا دار مجازٍ، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممرِّكم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلمُ أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها اختبرتم ولغيرها خلقتم". إنّه رفض الحذر المتحرّر من سلطانها، رفض من يريدها تسلس قيادها له ولا يسلس قياده لها، لأنّ إسلاس القياد الدنيا مهلكة لأنها حافلة بألوان الغرور: "حلوة خضرةً، حُفّت بالشهوات، وتحببت بالعاجلة، وراقت بالقليل. وتحلّت بالآمال وتزيّنت بالغرور". إن في خضرتها لفتنةً، وإن في شهواتها لقوّة، تُطل على الإنسان من كل باب، وتعترض سبيله متبرّجةً، وتسنح له مع كل سانحة، حتى توقظ الغرائز وتؤلّب الأهواء، وتخدع البصيرة، فلا ينجو من غرورها إلا من أوتي صبراً عظيماً. "كمثل الحية لينٌّ مسُّها، والسمُّ النافِعُ في جوفها، يهوي إليها الغرُّ الجاهل، ويحذرُها ذو اللب العاقل". لا ينخدع بها ذو اللب لأنّه يدرك غدرها، وغدرها نتيجةٌ محتومة لسرعةِ تقلبها. "لا تدومُ حبرَتها، ولا تؤمَنُ فجعتها، غرّارة ضرّارة، حائلةٌ زائلة نافذةً بادئة"، ".. غدّارةٌ غرّارة خدوع، معطيةٌ منوعٌ، ملبسةٌ نزوعٌ، لا يدومُ رخاؤها، ولا ينقضي عناؤها، ولا يركَدُ بلاؤها". يكثر مثل هذا الوصف في خطب الإمام (ع) للدنيا، ونستطيع أن نجمل الصفات الواردة للدنيا بما يلي: الإغراء والغرور، إشرافها على الزوال، الخير فيها مشوبٌ بالشر، تربُّص دهرها بأهلها، سوء عاقبة الركون إليها، ووعورة مركبها، وصغر شأنها عند الله.. إلخ. ولكن الدنيا لا تقصر في مكاشفة الإنسان العبرة والعظة. فـ"ما أكثر العبر وأقلّ الاعتبار". وذمّ الإمام (ع) لها ليس هدفاً بل إمعاناً في التنبيه والتحذير وطلباً للعظة والاعتبار: "إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودارُ عافية لمن فهم عنها، ودارٌ غنى لمن تزوَّد منها، ودارُ مواعظَ لمن اتَّعظ بها". إنها تقدّمُ له العظة تلو العظة بما يُبتلى به غيرُهُ، أو بما يُبتلى به هو، وما عليه إلا أن يقرأها ويتّعظ بمصير السابقين، وفيهم مَن بَلَغ من الغنى أو السلطان حدّاً عالياً، وعندها يزهد في عَرَضِها، وبالزهد يزدادُ بصيرة. "ازهد في الدنيا يبصّرك الله عوراتها، ولا تغفل فلست بمغفول عنك"، وهكذا فإنّه "من اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهِم علِمَ". تسلسل رائع يحمل الإنسان على أخذ نفسه بالرياضة، بالتدرّب على الزهد، العبرة تقود إلى الزهد، والزهد إلى البصيرة الواعية، والبصيرة إلى الفهم، فهم ما فطرت عليه الدنيا، وفهم ثوابها وعقابها، ثمّ إلى العلم...! فإن لم يكفِ الإنسان كلّ هذا ليعتبر فيبصر، فإنّ أمامه من القدوة ما يفتح القلب العميّ، أتظن أيها الإنسان أن في الزهد مذلّة؟ لو كان كذلك ما رضيه الله لأنبيائه: "وقد كان (ص) يأكل على الأرض، ويجلسُ جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقعُ بيده وما سيرة الإمام (ع) إلا استمرار لسيرة النبي (ص). لذا جعل منها درساً عظيماً شاملاً في المدرسة الشاملة، حتى أن يصرّح بواجب اقتدائهم بسيرته: "ألا وإن لكلِّ مأموم إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطَمْرَيه، ومن طَعْمه بقُرصَيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفةٍ وسداد". ومن رائع سيرته في الزهد حديث (المدرعة) التي قال فيها: "والله لقد رقعت مدرعتي حتى استحيَيْتُ من راقِعها، ولقد قالَ قائل: ألا تنبذها عنك؟ فقلت: أغرُبْ عني، فعند الصباح يَحمَدُ القومُ السري". فإذا كان (ع) يرى الدنيا ممرّاً فإن السري هو الرحلة عبرها، والصباح يوم الحساب، وإنّه يرى: "الناس في الدنيا ركبٌ يُسارُ بهم وهم نيام"، وهذا ما دعا الرسول الكريم (ص) لأن يقول له: "إنّ الله – عزّ وجلّ – قد زيّنك بزينة لم يزيّن العباد بزينةٍ أحبُّ إليه منها، وهي: زينة الأبرار عند الله، الزهد في الدنيا، فجعلك لا ترزأ من الدنيا ولا ترزأ الدنيا منك شيئاً، وحَبَّبَ إليك المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعاً، ويرضون بك إماماً". فلا هو يصيب منها ولا هي تصيب منه، مَثله مَثَلُ من يعبر نهراً فلا تبتلُّ نعلاه.   - سمات تيار الزهد الثوري الإسلامي: صار لزهد الإمام (ع) والصحابة السابقين بقيادة الرسول (ص) ملامح مذهب ثوري، وتوضّحت هذه الملامح بعد التحاق الرسول (ص) بالرفيق الأعلى، بقيادة الإمام علي (ع)، فليس الزهد بأن نجوع ونهرى، ولكن بأن نروّض النفس ونربأ بها عن أن تطلب ما ليس ضرورياً لامساك الرمق. وليست الحياة مطلباً بل هي فرصةٌ للاجتهاد، وليست الدنيا نقيض الآخرة بل سبيل إليها، وقد رأينا أنهم لم يتأثروا في ثورتهم بغير القرآن الكريم. وهكذا ثار الزهاد بقيادة الإمام (ع) على من يحالوون تمييع ثورية الإسلام وروحيته وتحويلها إلى سياسةٍ وطبقات، كما ثاروا بقيادة النبي (ص) على وثنية الجاهلية وطبقاتها. وكأنهم بذلك يسنون للعصر الحديث سنّة (الثورة على الثورة). وقد جعلوا من الزهد قاعدة لثورتهم في حبّ الله ورسوله وآله، وأقاموا زهدهم على جانبين هامين من الاجتهاد: (العمل في حبّ الله، وطلب معرفته). وأمثالهم كان الإمام (ع) يصف: "طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، أولئك قومٌ اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن شعاراً، والدعاء دثاراً، ثمّ قرضوا الدنيا (أي تركوها خلفهم) على منهاج المسيح (ع)". ولعلّنا نستطيع أن نلمح في هذا القول الشريف – الذي جمع بين الزهادة والانقطاع إلى العبادة – بذرة من بذور التصوّف الإسلامي الذي ستشهده القرون التالية.   - الزهد والصوفية: فتح مثل هذا الباب الواسع في مقالنا يخرجنا من ميدانه، لكن الموقف يقتضي أن نشير إلى أهم ما يميّز زهد الإمام (ع) وأصحابه عمّا سُمِّي من بعد بالتصوّف الإسلامي، فنحن نرى أن زهد الإمام (ع) تصاعد مع التاريخ مواجهاً لأمعان القيادة السياسية في طغيانها، فإذا جمعنا إلى هذا إخفاق ثورات أهل بيت النبي (ص) استطعنا أن نميّز تراجع الجانب أو الوجه العملي الثوري من الزهد، وتساعد الوجه الروحي من مجاهدة النفس إلى تنظيم للرياضة الروحية، وإمعان فيها طلباً لمعرفة الله. وهكذا تطور مبدأ رفضٍ ما يفتن الحواس إلى رفض حياة الحواس، لأنّ كل حسي امتداد للطبيعة، وحياة الحواس ارتباط بالطبيعة، وهو بالتالي نفي للأخلاق، فالأخلاق تناضل ضد الطبيعة بقيادة العقل، ومثل هذا الكلام يشير إلى أنّ تعابير الفلسفة وأقيستها قد دخلت التصوّف من بابه الأمامي، أما زهد الإمام (ع) فقد كان مبنياً على البساطة في المبدأ والصدق في الموقف.   - الزهد والرهبانية: على الرغم من قول الحسن البصري (رحم الله علياً، كان رهباني هذه الأُمّة)، فإنّ بُعد ما بين الزهد والرهبانية يبقي وجود صلة تأثّر بينهما، إلا أن يكون رهبانيها من حيث إحاطته بالعلم الذي لم يحط به غيره، أو أن يكون التعبير لا يقصد به الدقة العلمية. ونقاط التباين واضحة يمكن اختصارها بما يلي: - الرهبانية تكبت الفطرة البشرية للنفس، والإسلام يرفض ذلك ويرفض الرهبانية، وزهد الإمام (ع) من صميم الإسلام. - الرهبانية تقوم على الانقطاع إلى التعبّد والتأمّل، وبذا تنفي الجانب العملي من العبادة. والزهد عبادة وعمل: عمل في رزقٍ يمسك الرمق، وعملٌ في حبّ الله. - ونتيجة لما سبق تبدو الرهبانية كما ابتدعوها غير ملائمةٍ لروح العصر، لسلبيتها سلوكاً وعلماً. أما زهدُ الإمام (ع) فهو صالحٌ أساساً لكل ثورات الأمم الحديثة المكافحة لتحقيق الحق والسلام، بل هو خيرُ أساس.   - غاية الزهد: إذا كان هدف كل من الصوفية والرهبانية انقاذ النفس البشرية (الذات) من مداحض الدنيا تقرّباً إلى الخالق، فإن غاية الزهد: أ- عصمة النفس: "إنما هي نفسي أروّضها بالتقوى، لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر"، وليس هذا إذلالاً لإنسانيتها بل ارتقاء بها عمّا يحولُ دونَ خلودها. ومن نافلة القول أن نذكر أنّ العصمة عن طريق الزهد غيرُ النجاة السلبية الهاربة بالرهبانية أو التصوّف. ب- العدل: العدل أسمى ما تريد الشعوبُ أن تستظلَّ به في حياتها السياسية والاجتماعية، وترويض النفس بالزهد خير وسيلةٍ لتسليح الإنسان بالقدرة على إقامة العدل وإحقاق الحق – وهذا هو الهدف العام للزهد – وقد كان الإمام (ع) خيرَ قدوةٍ في ذلك، فإنّ زهده لم يضعف قوته في القتال، وما عرف عنه أنه سكت على باطل، أو توانى في قيادة المؤمنين في سبيل الله، وما الإمارة في نظره إلا وسيلة لإقامة الحق، ودفع الباطل، فهو يقول في نعل يخصفها: "لهي إليَّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً". هذا غيضٌ من فيض ما جاء في خطب الإمام علي (ع) في الزهد، سواء ما كان تفسيراً له وبياناً لسبيله وإظهاراً لفضل أهله، أم ذمّاً لمتاع الدنيا وتمجيداً لثواب الآخرة. ولم يكن غرضنا إحصائياً بل كان تلمُّس ميزان هذا السلوك الإنساني السامي الذي صار تياراً أو مذهباً ثورياً في تاريخ المسلمين، كان له الفضل الكبير في الحفاظ على قدسية رسالة النبي محمد (ص). ولن يشقُ على دارس كتاب نهج البلاغة أن يختار مزيداً من الأقوال ذات المعنى الجليل أو التوجيه العميق إلى الزهد قد تجاوزناها لكفاية ما انتقينا منها. فما أحوجنا – اليوم – وقد مزقت رياح الأهواء شراع الرسالة، وطفا المسلمون على أمواج التاريخ كغثاء السيل، ووقف بنا العالم على شفا حفرةٍ من نار، ما أحوجنا إلى زهدٍ مثل زهد مدرسة الإمام (ع)، يعصم نفوسنا من الميل إلى الباطل، ويروّضنا على إحقاق الحق، ويقينا شرّ طول الأمل واتباع الهوى، علّنا نعيد لرسالة الحق سيرتها الظافرة، والله وليّ التوفيق.   المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 57 و58 لسنة 1995م

ارسال التعليق

Top