• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أزمة ما بعد الأربعين.. كيف نجعلها رحلة سعيدة؟

أزمة ما بعد الأربعين.. كيف نجعلها رحلة سعيدة؟

في رسالة من زوج في منتصف الأربعين قال: بدأت أشعر بالملل، وسرى في حياتنا الزوجية أنا وزوجتي الضجر والسأم، وصِرْت أنفعل لأتفه الأسباب، حتى أمسى بيتي – بالنسبة لي – مجرد فندق أبيت فيه، وأتناول فيه طعامي.. بل أشعر أحياناً بأنّ البيت صار سجناً أُخبس فيه، فأصبحت أحلم بالحرية، وبمجرد دخولي البيت يكون كلّ همِّي أن أغادره.

ويضيف الرجل: "أشعر بأنّ زوجتي هي السبب في كلِّ ما أشعر به، فكّرْتُ في الطلاق كثيراً، كما فكرت في السفر، وفي أي مجال يجذبني وينقذني من ملل البيت والشعور بالفراغ، فـ"روتين" الحياة الزوجية لم أعد أطيقه، وزوجتي لا تهتم بي ولا بنفسها، ومن ثمّ تملكتني رغبة عارمة في إيجاد علاقة جديدة مع أنثى أخرى، لأغيِّر بها "روتين" حياتي، وأملأ بها فراغي العاطفي.

نتيجة هذا الفراغ العاطفي أشهد بأنني عشت فترة طيش وهوس عاطفي، وسرتُ في الشوارع أهيم وأنظر إلى البنات والسيدات، وأعاكسهنّ وأغازلهنّ، وتجولت في الأسواق للغرض نفسه، وشعرت بأني أسلك سلوكيات معيبة لم أسلكها في شبابي، فقد كنت أقترب من الإناث في الشوارع والأسواق، وأطلب أرقام هواتفهنّ، وأعطي بعضهنّ رقم هاتفي، ورفضت الأغلبية منهنّ التجاوب معي، وكثيراً ما كُنّ يُحرِجنني، ويوجهن إليَّ عبارات التهكم والسخرية، وكنت أحياناً أتألم لذلك نفسياً، ولكن مع تكرار المواقف صرْتُ متبلد الإحساس ولا أبالي، واستطعت أن أقيم مع قليلات منهنّ علاقات، ووقعن في شباكي، ولم تستمر علاقتي بواحدة منهنّ أكثر من شهور، لأبحث عن أخرى... وهكذا.

لم أقنع بطريق واحد لإشباع فراغي العاطفي، بل سلكت طرقاً عديدة، منها: المحادثات والدردشات مع الإناث في غرف المحادثة (الشات) على الإنترنت، وكذلك من خلال "الماسنجر" بعد التعرف عليهنّ في غرف "الشات"، وكانت بيني وبين الكثيرات منهنّ (متزوجات وغير متزوجات) علاقات وعواطف وأحاسيس، وكنا نتواصل كتابياً وصوتياً، وفي أحيان كثيرة كنا نتحدث ويرى كلّ منا الآخر من خلال الكاميرا!!

ولقد تطورت علاقاتي مع كثير من هؤلاء الإناث من أجل المتعة وإشباع الفراغ، وكنت أشعر بأنهنّ يعانين مما أعاني، وكنت أصطحبهنّ وأنفق عليهنّ أموالي، وأسهر معهن وألهو!!

وكنت كلما استمررت في هذه العلاقات المشبوهة أشعر بأنني أتخلى عن مسؤولياتي – شيئاً فشيئاً – وأهملت أسرتي، وقصّرت في واجباتي، وأحسست بأنني متمرد على حياتي ومرحلتي العمرية، وراغب في النكوص والعودة إلى الوراء، وانعكس ذلك على أسرتي، حيث توترت العلاقة بيني وبين زوجتي وفتَرت، وكذلك أولادي، وانخفضت معدلاتهم الدراسية، وساءت سلوكياتهم الأخلاقية.

ويستطرد الرجل قائلاً: "والحقّ أنني عندما فكرت في مشكلتي بموضوعية أدركت أنني السبب الرئيس فيها، وأنّه من العدل ألا أُحَمِّل زوجتي كلّ المسؤولية، فقد كنت غارقاً في أعمالي والسعي وراء متطلبات الحياة لي ولزوجتي وأولادي، ولم أكن أسمح لزوجتي أن تراجعني في أسلوب حياتي، أو تعاتبني في انشغالي عنها وعن أولادي، فلا وقت عندي للجلوس معهم، ولا الخروج بصحبتهم، وكنت لا أستطيع النوم ساعات كافية، وكنت أزجر زوجتي وأعنقها إذا ما عاتبتني أو دعتني برفق إلى الاهتمام بها وبأولادي.

مررتُ بعاصفة من الأسئلة الداخلية – مع نفسي – في بدايات الأربعينيات، كلها تدور حول زوجتي وأولادي وحياتي، فكثيراً ما كنت أسأل نفسي: هل أستطيع أن أواصل حياتي مع زوجتي؟! أم أنني في حاجة إلى تغيير حياتي؟ وهل سيكون هذا التغيير بطلاق زوجتي والزواج بثانية؟ أم الإبقاء عليها مع الزواج بثانية؟

بعد ذلك كلّه سألت نفسي: لماذا أُحَمِّلُ زوجتي كلّ المسؤولية؟ لِمَ لا أعتبر نفسي المسؤول الأوّل عن "روتين" حياتي الأسرية، وفتور علاقتي الزوجية؟ لِمَ لا أحاول أن أغير نمط حياتي وعلاقتي بزوجتي وأولادي؟ لِمَ لا أعيد حساباتي في معاملتي لزوجتي وتربيتي لأولادي؟

لقد أفقْتُ بعد غفلة، وعدت إلى حياتي الطبيعية بعد رحلة الأوهام والهوس، أفقْتُ على تأخر أولادي دراسياً – وقد كانوا متفوقين سابقاً – وأيقظني صراخ أطفالي الصغار وبكاؤهم، وكأنّ لسان حالهم يقول: نحن في حاجة إلى رعايتك يا أبنانا، نحتاج إلى حضنك الدافئ، نحتاج إلى لمسات حنانك، ونظرات عطفك وحبك.

أيقظني صبر زوجتي عليَّ، وحال تلك المسكينة التي كثيراً ما حاولت إصلاحي، فبدلاً من أن أتحاور معها لإصلاح علاقتنا والارتقاء ببيتنا، كنت أنهرها وأعنفها، فكانت صابرة محتسبة!!

  فقد يتأثر بعض الأزواج في منتصف العمر، فيشعر أحد الزوجين أو كلاهما بالملل فعلاً، ويرغب في التغيير ومعايشة شخص آخر، على أمل أن يجد في الشخص الآخر ما يفقده في شريكه الحقيقي، وهذا يضعف الرباط المقدس بين الزوجين، ويجعله عبئاً ثقيلاً وقيداً مزمناً، يود أحدهما أو كلاهما الانفكاك والانعتاق منه.

 

أسباب الأزمة:

1-  ترك الخلافات الزوجية حتى تتفاقم:

يرى علماء النفس أنّ هناك عوامل تؤدي إلى الوقوع في هذه الأزمة، أهمها: ظهور خلافات زوجية، وتركها تستمر دون حوار هادئ هادف إلى حلها، ودون إيجاد حلول لها، وهذا يؤدي إلى تراجع لغة الحب بين الزوجين، وتتحول الحياة الزوجية حينئذ إلى "روتين" قاسٍ، وينسحب كلّ طرف من حياة الآخر، ويلوذ بنفسه، دون إعلان صريح عن الإخفاق، حتى لا تصدمهما الحقيقة، ويصبحان لا يجمع بينهما إلا الجدران الخاوية!! فيبتعد كلّ منهما عن الآخر، فلا حوار بينهما، بل وجود يومي لتناول الطعام أو النوم دون تواصل حقيقي، وربما يتحدثان ولكن حديثهما مفرغ من معاني الحب والمشاعر والاتصال الوجداني منقطع، فهي مشاركة حياتية ظاهرية فقط.

هنا تتفاقم الأزمة، وتزيد المشكلات وتتعقد، ويدخل الزوجان حياة لا تفاهم فيها، ويسيء كلّ منهما فهم الآخر، وتفسير سلوكياته وتصرفاته تفسيراً خاطئاً، ويسيء كلّ منهما تقدير ظروف الآخر، ويشعر كلّ منهما – بل يَشْعر الأولاد كذلك وكلّ من يحيط بالزوجين – أنهما من معركة خاسرة، تتخللها هدنة مؤقتة، ولكن سرعان ما يستأنف الزوجان الحرب بعد ذلك، وهذا يؤدي في النهاية إلى فشل الحياة الزوجية.

2-  عدم مفاتحة كلّ من الزوجين الآخر:

فقد يرى أحد الطرفين إهمالاً لدى الآخر، فيسكت عنه لسبب من الأسباب، فمثلاً قد يتوقع ألا يقبل الطرف الآخر التوجيه، وينصح علماء النفس ومستشارو الحياة الزوجية والأسرية هنا بالمصارحة والمكاشفة بلطف وذوق، على أن يظهر الناصح سبب نصحه، وأنّ الدافع إليه هو الحب وتحقيق الانسجام، كما يجب على المنصوح أن يتقبل ذلك بصدر رحب، وأن يدرك أنّ هذه المكاشفة تصب في صالح السعادة الزوجية ونجاح الحياة الأسرية.

3-  الانقلاب الزوجي نتيجة خروج الأولاد:

فقد يصبر الزوج على تقصير زوجته، أو تصبر الزوجة على تقصيره، تضحية من أجل الأولاد، ويختزن كلّ منهما عيوب الآخر، ولا يتحاوران، ومع نهاية أداء الرسالة، وخروج الأولاد من بيت العائلة ليشق كلّ منهما طريقه في الحياة، يجد الطرف الصابر، أو كلاهما، الفرصة سانحة للخلاص من الطرف الآخر، فقد تحرر من المسؤوليات بعد أن عاش على مضض ينتظر لحظة الخلاص والانفكاك من هذا القيد، فيبدأ في هدم البناء الذي أشقاه بعد أن كظم غيظه حيناً من الزمن، فيقوم بهذا الانقلاب الأسري رافضاً الواقع.

4-  التقاعد عن العمل:

عندما يتقاعد الزوج عن العمل أو يتقاعد الزوجان معاً تزيد الخلافات بينهما غالباً، وذلك لوجود فراغ في حياتهما، وقد يتدخل الزوج أحياناً – نتيجة فراغه – في شؤون البيت الخاصة بالزوجة، ومن ثمّ يكون ذلك منبعاً لخلافات بين الزوجين، مما يؤدي إلى سوء العلاقة بينهما، وخاصة عندما يشعر الزوج المتقاعد بعدم جدواه وفقدان صلاحيته وتأثيره في البيت والحياة، فيغضب لأتفه الأسباب، ويصير متوتراً، وسبباً في تفجير الخلافات.

 

علاج الأزمة:

1-  حرص الزوجين على الحوار الهاديء، والشفافية، والمكاشفة، والتسلح بثقافة "فقه العتاب"، وعدم ترك الخلافات الزوجية تتفاقم، والعمل على حلها وحسمها في بداية ظهورها، حتى لا يستعصي حلها فيما بعد، لكيلا تؤدي إلى الفراق؛ إن عاجلاً أو آجلاً، وحتى لا توقع الحياة الزوجية في أزمة منتصف العمر.

2-  عدوى الحب:

ويقصد بها أن يحرص كلّ طرف على نقل مشاعر الحب والتفاهم والسعادة إلى الآخر، وذلك بالبعد عن دواعي الغضب، والخروج من دائرة الخلافات، والقرب من شريك عمره، وإعادة العواطف إلى مكانتها في الصدارة، وزيادة مساحة الحوارات، وتقريب المسافات، وتجديد مشاعر الحب، وهناك آليات عملية كثيرة لتحقيق "عدوى الحب"، منها اصطحاب الزوجة إلى رحلة رومانسية تقتصر عليهما فقط، وتسريح الأولاد أحياناً لتجديد العواطف وللعيش معاً (الزوج مع الزوجة) لحظات الحب والإحساس الجميل، وتهيئة البيئة لذلك بالورود والشموع، والتزين الوجداني والجسدي، وتجديد الملابس، والحرص على الأناقة، وتذكر الماضي الجميل، ومن ثمّ يستطيع أحد الطرفين بذلك أن يبادر إلى نقل "عدوى الحب" منه إلى الطرف الآخر الذي ربما يكون في حالة فتور، وهذه العدوى يستطيع أن يقوم بها كلا الزوجين، والزوجة أقدر على ذلك من الزوج، وعلى الزواج أدوار كبرى في تحقيق ذلك.

3-  تحقيق شعار "كنا معاً، وسنظل معاً":

وهذا الشعار يعني أن يعيش كلا الزوجين بشعور مفاده: أنّ الزواج ليس هو المستقبل فقط، وإنما هو الماضي أيضاً، فبرغم أنّه من الطبيعي أن تكون عين الإنسان على المستقبل دائماً، فإنّ الزواج له طبيعة خاصة، تقتضي أن تكون عيون الزوجين على الماضي، وأن يهتم الزوجان بالماضي مثل اهتمامهما بالمستقبل؛ لأنّ الماضي معناه جذورهما وامتدادهما، إنّه يعني تاريخ كلّ منهما وكفاحه، كما يعني الذكريات الجميلة، فكلما مرّت الأيّام على "شجرة الزوجية" تمتد جذورها في عمق أرض الحياة السعيدة، إذا ما وجدت الصيانة والرعاية.. إنّ ماضي الزوجين يعني الأهداف والطموحات التي تحققت بعد تغلبهما وتعاونهما على تجاوز الآلام، والصعوبات المشتركة، وتلك أبدية الزواج، ودوام العلاقة الحميمة الوثيقة، إنّ الماضي هو "ربيع العمر"، الذي إن قوّيناه وعاش في وجداننا.. حصننا هذا "الربيع" في "خريف العمر" من سائر الأزمات، فإن ساءت من زوجتك خلق فتذكر محاسنها، فإنّ ذلك يعطي "شجرة الزوجية" ثباتاً لجذورها، وصلابة في ساقها وأغصانها، ونضارة في أوراقها، واستمراراً لثمارها.

4-  التريث والصبر:

فكثيراً ما يوقعنا التوتر والتهور في الأزمة، ومن ثمّ فعلى الطرف الذي يشعر بنفور من الآخر أن يصبر ويتريث، ويدرك أنّ الفتور الزوجي أو النفور إنما هو حالة عارضة يمكن علاجها، وسرعان ما تنتهي مع الصبر والتريث ومحاولة العلاج والإصلاح، والتجديد والتغيير في إيقاع الحياة الزوجية.

ومن أقوى المعينات على هذا الأمر الانتباه إلى هدي القرآن الكريم في العشرة الزوجية، والصبر، ومن ذلك قوله سبحانه: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء/ 19).

ومن ذلك اتباع التوجيهات القرآنية عند حدوث الخلاف واستحالة حله عن طريق الزوجين، يقول الله عزّ وجلّ: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) (النساء/ 35).

 

* أستاذ المناهج وأساليب التربية الإسلامية المساعد

ارسال التعليق

Top