• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الأُم المحفزة للنجاح

الأُم المحفزة للنجاح

◄حديثنا في هذا المقال إلى الأُم حيث أنّ هناك دور كبير منوط بها، فباستطاعتك أيّتها الأُم أن تصعني نهضة لهذه الأُمّة. المطلوب منكِ أدوار عدة في تعاملكِ مع ابنكِ، ومن خلال هذه الأدوار سيخرج لنا رجل عظيم، وستخرج لنا فتاة عظيمة.

ونحن اليوم مع قاعدة جديدة وهي "الأُم المحفزة للنجاح". سنحكي دور الأُم في نقاط عدة، ونتوقف عند كلّ نقطة لنقول: الأُم المحفزة للنجاح، أي التي تدفع ابنها لينجح. وتخيلوا لو كان لدينا عشرة آلاف أُم، أو عشرون ألف أُم، أو حتى ثلاثون ألف أُم من هذه النوعية.

الأُم هي العاطفة كلّها، ونقول لها اليوم: إنّكِ العاطفة والرحمة كلّها، إنّكِ أنتِ القادرة على تحفيز الشباب للنجاح حتى لو لم تكن لديه تلك الإمكانات، إلّا أنّه بتحفيزك يستطيع أن ينجح.

يمر ابنك معك بأربعة مراحل هي:

- المرحلة الأولى: منذ ولادته وحتى يبلغ الثالثة من عمره، في هذه المرحلة امنحيه الحنان قدر استطاعتكِ. المطلوب منك في هذه المرحلة هو الحنان والعطف والرقة واللطف والحبّ والاهتمام، وإياك أن تتركيه، وكوني معه ليل نهار.

جاءت امرأة إلى السيِّدة عائشة، ومعها صبيان صغيران وجلست عندها قليلاً ثمّ قالت: "يا أُم المؤمنين أنا جائعة، وليس معي نقود فبحثت السيِّدة عائشة فلم ترَ سوى ثلاث تمرات، فأعطتها إياها. أعطت المرأة ابنها الأوّل تمرة، والآخر كذلك، وأخذت هي تمرة. فإذا بالطفلين قد التهما تمرتيهما بسرعة من شدة الجوع، ثمّ أخذا ينظران إلى الأُم التي معها تمرتها، ففعلت الأُم ما كانت ستفعله أي أُمّ، حيث قسمت تمرتها بين طفليها نصفين، وظلت هي على جوعها. تأثّرت السيِّدة عائشة بالموقف، ولما جاء النبيّ أخبرته خبرها، فقال النبيّ (ص): "أمّا أخبرتها بأنّ الله قد رحمها برحمتها لصبييها؟".

كم من مرة كان ابنك جائعاً ففضلته على نفسك؟ كثيراً.. أليس كذلك؟ أي أنّه تصرّف عادي تفعله كلّ أُم بشكل طبيعي. أتخيلت هذا الحديث؟ إنّ الله قد رحمها، أي أنّه إن شاء الله قد رحمكِ وغمرتكِ رحمته. أرأيت كم أنتِ غالية؟ هذه هي المرحلة الأولى.

- المرحلة الثانية: من سن الثالثة إلى سن السادسة. انتبهي إلى أنّ ابنك في هذه المرحلة شغوف بالتعرّف والتقرّب إلى أبيه، يريد أن يراه ويتعرّف إلى عالم الرجولة، خاصّة إن كان ذكراً، والكثير من النساء في هذه المرحلة يتملكهنّ شعور بالغيرة ويشتطن غضباً لأنّهنّ يقمن يومياً بأعباء الغسل والكي والنظافة... إلخ، وإذا بالابن مصاحب لأبيه ويطيعه ويتقرّب إليه. فأقول للأُم: إنّ هذا أمر طبيعي وفطري في هذه المرحلة، وليس خاصاً بابنك وأبيه، لأنّه يريد استكشاف الرجل، وذلك بحكم المرحلة، حتى وإن كانت بنتاً. فذكاء المرأة أن تترك المجال للابن ليتعرّف إلى أبيه ولا تغضب، لأنّ هذا هو المطلوب. خير مَن تستقين منه هذا الفن السيِّدة هاجر. فقد كان إبراهيم (ع)، يقطن في فلسطين، ويغيب طويلاً، بينما هي وإسماعيل في مكّة. ولكن، حينما يعود يجد أنّ إسماعيل يحبّه ويطيعه، على الرغم من أنّه لم يعش معه كثيراً. وهنا يظهر دورها في ربط الابن بأبيه، ولذلك لما قال له: "يا بني إنّي أرى كذا وكذا"، قال: "يا أبتِ افعل ما تؤمر". ولما قال له: "يا بني إنّ الله أمرني أن أبني الكعبة، أتعينني؟" قال: "أعينك". وما ذلك إلّا لأنّه تربى على أنّه هو وأباه متلاحمان، كما أنّ الأُم ساعدت على ربط الابن بأبيه.

- المرحلة الثالثة: من سن السادسة إلى سن العاشرة، هذه المرحلة هي مرحلة القيم، ضعي قيماً قدر استطاعتك وربيه على كلّ الخصال الجميلة، إلى جانب العطف والحنان، من صدق وأمانة وإخلاص ورحمة وأدب وفن تعامل مع الناس وصلاة وحبّ الله. وكلّ ما تريدين غرسه تغرسين جزءاً منه في حكاية ما قبل النوم، وجزءاً في موقف معيّن، وهكذا. لو جاء أحد لهذا الابن ليصلحه بينما هو في الثلاثين أو الأربعين من عمره، فقد يتمكّن وقد لا يتمكّن. فما غرسته في هذه السنين الخمس هو الذي سيبقى. وكما قال النبيّ (ص): "كلّ مولود يولد على الفطرة". فهذا الابن قد وهبه الله لكِ، وترك لكِ مهمّة تشكيله. وما ستغرسينه في ابنكِ هو ما ستجدينه إن شاء الله. وحتى وإن ابتعد قليلاً في سن المراهقة، وإن انحرف عن الجادة يوماً، فلا تخافي لأنّ البذرة التي غرستها في هذه المرحلة ستكبر وتؤتي أُكلها كما غرست. فانظري أي قدوة ستقدمين له؟ وكيف ستكون شخصيتكِ أمامه؟ فما ستغرسينه هو الذي سينتج. أرأيتِ مقدار حاجة ابنكِ لك؟

- المرحلة الرابعة: دخول فترة المراهقة، في هذه المرحلة يحتاج إليك ابنك كثيراً، وإن كنت تظنين أنّ الشباب لم يعد يؤيد الجلوس معكِ ويتهرب منكِ. ولكن، إذا أجريت تعديلاً بسيطاً جدّاً على طريقة حبّكِ وحنانكِ فسيلجأ إليكِ. فهو يحتاج منك إلى عاطفة جديدة إيجابية تدفعه إلى النجاح. استمري في إعطائه الحنان والعطف، ولكن امنحيه إلى جانب ذلك يداً تدفعه إلى الأمام: "أنتَ ستنجح.. أنتَ ستستطيع". فمتى قدمت له ذلك تصبحين الأُم الصديقة، وستكونين الأُم المثالية، بل أعظم أُم في عيني ابنكِ. نريد منكِ لشبابنا حناناً ممزوجاً بقوّة دفع لنصنع النهضة لهذه الأُمّة.

نريد أُمّاً كأُم موسى، واجعلي (سورة القصص)، وقصّة أُم موسى نموذجاً لكِ، يدٌ تُربّت: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (القصص/ 7). واليد الأخرى ماذا تفعل؟ (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي) (القصص/ 7). فهكذا هي الدنيا. ابنك وهو في مقتبل الخامسة عشرة والسادسة عشرة، في بداية مواجهة صعوبات الحياة ومعوقاتها ومشاكلها. فنريد من الأُم أن تدفعه: لا تخف أنا معك، والله معك، وسأدعو لك، وسأقف إلى جانبك.

عندما يتجاوز ابنك التاسعة والعاشرة من عمره وقد منحته الحبّ والحنان وربطته بأبيه وغرست فيه القيم، حفزيه وشجعيه، وابني في نفسه آمالاً يرى نفسه صغيراً أمامها، وقد يكون كذلك فعلاً، ولكن بالعاطفة والحنان اللذين يشعان قوّة من عينيك، ونظرة عينيك التي تقول له: "ستنجح يا بني. سيكون".

أود أن نعرض نموذجاً لشخص، وكيف أنّه ما زال يتخذ قراراته بناءً على رضا أُمّه حتى بعد وفاتها، فيسأل نفسه: ما الذي يرضي أُمّي؟ وما الذي تتمناه أُمّي؟ ألهذه الدرجة من الممكن أن يكون تأثير الأُم في حياة الشخص، حتى بعد وفاتها؟ تعالوا بنا نعرض شخصية عامّة مشهورة، وهيا بنا نسمعه كيف يحكي عن أُمّه؟ ونرى كيف للأُم أن تحفز حتى بعد وفاتها؟

استمع معي إليه وهو يتكلم عن أُمّه فيقول: بكلّ اعتزاز وبكلّ فخر، أقول دوماً إنّ قدوتي في الحياة هي أُمّي، رحمها الله. فقد تركها والدي منذ زمن طويل، فعكفت على أربعة من الأولاد لتربيهم، وعملت صباح مساء، فكانت تخرج من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثانية والنصف ظهراً، حسب مواعيد العمل آنذاك، ثمّ تعود لتخرج مرّة أخرى من الخامسة والنصف مساءً وحتى التاسعة ليلاً، كلّ ذلك من أجل تربية أبنائها.

أنا معجب بها لدرجة أنّه قد حدث لي معها شيء عجيب جدّاً، فعلى الرغم من أنّها توفيت، وقد مرّ على وفاتها ما يقارب سبع أو ثماني سنوات، إلّا أنّها تشاركني اتخاذ أي قرار في حياتي. فكلّما أردت اتخاذ قرار أسأل نفسي: يا تُرى إذا كانت أُمّي موجودة هل كانت ستقول لي افعل أم لا تفعل؟ فإذا أحسست بأنّها كانت ستقول: "لا تفعل"، لا أفعل. أمّا إذا أحسست بأنّها كانت ستقول: "افعل"، أفعل على الفور، وإن كان هذا القرار غير موافق لهواي تماماً، لأنّها هي مَن علمتني ذلك. علمتني أنّه (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران/ 92).

تروقني كثيراً فكرة استمرار القدوة، فقد كان مفهومي طوال عمري للقدوة أنّها عبارة عن شخص أمامي أتوسم فيه خيراً، وأتعلم منه أشياء، وأمضي على دربه فحسب. ومتى اختفى هذا الشخص فإنّني أسير في الحياة وفق رغبتي أو إرادتي، أو بطريقة تفكيري. لكن الحقيقة أنّني في قدوة أُمّي اكتشفت شيئاً غريباً جدّاً بعد مرور سبع أو ثماني سنوات على وفاتها، وهي أنّها قدوة مستمرة حتى وهي غير موجودة. فقد نقشت في صدري وفي عقلي وفي كياني أفكاراً وقيماً من المستحيل أن تزول، بدليل أنّها ما زالت هي القدوة حتى الآن.

- المرحلة الأخيرة: الأُم الصديقة. كَبُرَ ابنك وتخرّج وزاول مهنته. مبارك عليك ذلك. إذن، كوني أُمّاً صديقة، صاحبي ابنك، كوني صديقة له، بينك وبينه أسرار وأحاديث خاصّة، وافتحا قلبيكما لبعضكما. أنا أفضفض لابنتي، فنحن أصدقاء. هذه هي الأُم الصديقة التي تحدّثنا عنها.

تبقى آخر جزء، وهو شيء تقومين به في جميع تلك المراحل، وحذار أن تنسيه. فهو سلاح غير عادي. أرجوكِ لا تنسي سلاح الدعاء الذي وعدك به الله. فكما أعطاكِ سراً إلهياً استطعت من خلاله أن تتعاملي مع ابنك يوم أن كان في بطنك، فقد أعطاك سراً آخر، بل سلاحاً لك وحدكِ، وهو أنّ دعوتك لابنك مستجابة، فيقول لك: سيواجه ابنكِ أشياء كثيرة، فالحياة صعبة. وليقول لابنك: أنتَ محتاج إليها جدّاً، فبحوزتها السلاح الذي فيه نجاتك. اطلب من أُمّك أن تدعو لك، ارضها واطلب منها أن تدعو لك. وعلّمي ابنك منذ صغره أنّك تدعين له، لأنّ هذه رابطة قوية، وكأنّ الله قد جعلكِ مستجابة الدعاء لابنك حتى تظل رابطتك بابنكِ وابنتك رابطة متينة. فكما كان هناك سر إلهي وهو في بطنك، فقد أصبح هناك سر إلهي عندما كَبُرَ اسمه: دعاؤك له مستحاب، وكأن علاقتك بابنك، والسر الإلهي سر الرحمة، مستمر منذ كان في بطنك، إلى أن يمدّ الله في عمركِ وعمره، ويلقى أحدكما الله سبحانه وتعالى. ستبقى كلمة السر هي الدعاء.

أنتِ سرٌّ إلهي لله سبحانه وتعالى، أودعه فيك، فأنتِ نموذج الرحمة. ارفعي يديك وادع لابنك. إذن، لتدمع عيناك من أجل ابنك، ولتدع له، وسترين ماذا سنفعل له؟ لا تقولي: أنا متدينة، أو لست متدينة. فأنتِ في النهاية أُم، بصرف النظر مَن تكونين، فأنتِ أُم. وما دمت أُمّاً فأنتِ غالية، لأنّك تجسدين الرحمة، ودعوتك ترفع إلى السماء من دون حجاب.

لكن في الوقت ذاته أقول للشباب: لو أنّ أُمّك لم تفعل ذلك فلا تتركها. واسمع مني ولا تغضب: أُمّك بأخطائها وبعيوبها ومشاكلها، أين ستذهب؟ فالله هو مَن جعلها أُمّك، واختار فلانة الفلانية لتكون أُمّك، ألم تعجبك؟ ماذا ستفعل؟ هل ستغير أُمّك؟ أنا أريدك أن تتخيل معي وتتذكر كم تعبت هي من أجلك، كم ليلة لم تنم فيها بسبب بكائك؟ وإذا تنفس الصبح تطعمك وتغير لك ثيابك، وإذا بك تتقيأ، وتفعل وتفعل وتفعل، وهي معك تفعل لك كلّ شيء، حتى إذا جن الليل، وإذا بالإرهاق بادٍ على تقاسيم وجهها، وحالتها النفسية صعبة جدّاً وهي في منتهى التعب وتحتاج إلى النوم، إذا بكَ تبكي من جديد، فتقوم لتهتم بكَ. وفي وسط هذا التعب تأتي أنتَ وقد تركت فراشك وأتيت لتفترش حضنها وتنام على حجرها، فتنسى التعب لمجرد أنّك في حضنها. ثمّ في اليوم التالي تعود لتكمل على النهج نفسه. أهي أقوى من الرجل؟ لا. ولكن الله سبحانه وتعالى وهبها سراً اسمه رحمة وحنان وعطف منه. فارعَ أُمّك، وارعَ الرحمة التي وهبها الله إياها.

انتبهوا يا شباب، فهذه النقطة مهمّة جدّاً. لو لم تستشعر رحمة الله التي وهبها لأُمّك وأودعها فيها فكأنّك تقول: إنّك غير مقتنع بالجزء الذي وضعه الله في الأرض من رحمته. وفي المقابل، ما دمت تشكر الله على الرحمة التي وضعها في الأرض وحافظت عليها وساعدت أُمّك على إبداء عاطفتها وتمسكت بها لتضفي عليك من عطفها وحنانها، فلعلّ رحمة الله تتنزل عليك وعليها.►

ارسال التعليق

Top