• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ماذا يحتاج أبناؤنا؟

ماذا يحتاج أبناؤنا؟

يبذل كلّ أب/ أم أقصى جهده لتوفير كلّ احتياجات ابنه/ ابنته ومتطلباته، وغالباً يلجأ إلى أسلوب واحد معين يطبقه على جميع أطفاله، دون أن يأخذ بعين الاعتبار نوع كلّ طفل وما له من ميزات خاصة به، ظناً منه أنّه يعدل بينهم، ولذلك فإنّ أسلوبه هذا قد ينجح مع طفل بينما يفشل مع آخر.

ومن أهم الأشياء التي يحتاج إليها كلّ طفل معرفة وإدراك أهمية وجوده عند الأبوين، وهذا يتضح له من خلال تصرف الأب/ الأُم نحوه، فالأبناء يعتمدون بالدرجة الأولى على مَن يربيهم لكي يقيموا أنفسهم. لذلك فحاجة جميع الأطفال الأساسية هي: الاستماع إليهم وأخذ وجودهم بعين الاعتبار، وتوفير العناية والحب لهم.

عندما يرفض الابن/ الابنة أمراً ما كالذهاب إلى المدرسة أو تغيير ملابسه مثلاً، فهو وعن غير قصد ينبهك إلى أنّ لديه حاجة لم تسدها له، فالطبيعة تجعله يتصرف بذلك الأسلوب، كي يجذب انتباهك إليه ولتضع إصبعك على السبب الحقيقي وتعالجه. فالطفل عندئذ لا يدرك السبب الحقيقي الذي يدفعه للتمرد والرفض، وهو يحتاج إليك كي تجد سبب هذه الدوافع وراء تصرفاته، وعندما تنجح في ذلك، فإنّك تستطيع عندئذ أن تقرر وتحدد ما يجب اتخاذه من خطوات.

فالرفض والعناد والتمرد إنما هي عوارض يجب أن نجد أسبابها لمعالجتها، ولن ينفع أن نحد من هذه العوارض دون تحديد ما وراءها من أسباب، مثلما يعالج الطبيب مريضاً مصاباً بالحمى، فلن يكفي حقن المريض بأدوية تخفض الحرارة، بل عليه إجراء الفحوصات المختلفة لمعرفة سبب هذه الحمى، وبعدها يصف له الدواء المناسب، وإلّا فالحمى قد تستمر بعد انتهاء مفعول المخفضات الحرارية، وينتشر المرض في الجسم وتسوء حالة المريض.

وستلاحظ أنّ مجرد استماعك، للابن/ الابنة وإبداء تفهمك مشاعره، يفي بالغرض ويزيل أكثر المشاعر السلبية منه، وبالتالي تخف حدة معارضته أو تتوقف ويبدأ بالتعاون معك. ولكن للأسف، الأمر ليس بهذه السهولة دائماً، فقد تواجهك حالات معقدة تستلزم جهداً كبيراً، أو قد لا يكون لديك الوقت الكافي واللازم للاستماع إلى هذا الطفل المعارض ولتزويده بما يحتاجه في تلك اللحظة ذاتها، أو قد لا يكون المكان مناسباً لذلك. ولهذا أنصحك بأن تتعلم بعض المهارات التربوية، التي تساعدك على معالجة هذه الأمور بسرعة، ولكن تذكر أنّ هذه المهارات لن تقوم بتزويد الابن/ الابنة بما يحتاج من التفهم والتوجيه والنظام، وإنما تفيد فقط كحل آني وسريع في التخلص من رفض ابنك/ ابنتك ومعارضته، لذلك من الأفضل ألا تستعملها إلّا عند الضرورة القصوى.

كانت الطريقة المفضلة والشائعة في تربية الأطفال، هي إخافتهم وتهديدهم بإنزال العقاب، وللأسف ما زالت هذه الطريقة متبعة في العديد من العائلات التي تلجأ لاستعمال عبارات مثل: "يجب أن تفعل ذلك وإلّا!"، أو "إذا لم تتوقف عن ذلك فستندم"، بل إنّ هناك مَن يهدد أولاده بكسر اليد أو الرجل أو الرأس! أو غيرها من أنواع الأذى المخيف والرهيب! وكان ذلك كفيلاً بجعل الابن/ الابنة يرتجف خوفاً ولا يجرؤ على العصيان، وخاصة عندما يقوم الأب/ الأم بضرب الابن/ الابنة فعلاً. وكان هذا الأسلوب الإرهابي سريع المفعول ونجح في فرض الطاعة على الأولاد.

يجب التمييز بين الطاعة المفروضة بالإكراه، وبين الطاعة التلقائية النابعة من رغبة الابن/ الابنة بالتعاون والتجاوب مع الأهل، فهناك فرق شاسع بينهما، لأنّ فرض الطاعة بالإكراه، وإجبار الابن/ الابنة على القيام بشيء ما تحت تأثير التهديد والعقاب، لن يعطينا علاقة سليمة معه، بل سيشوهها ويخربها، ويكسر إرادته، ويمسخ شخصيته، فالعقاب ليس الطريق الصحيح أبداً. وأكبر دليل على تأثيره السلبي على شخصية الطفل هو ما يسمعه المعالج النفسي من مرضاه البالغين، حيث تُرد أسباب أكثر العقد النفسية إلى ما حدث خلال فترة الطفولة، لذا فإنّ أول شيء يفعله المعالج النفسي هو سبر أغوار هذا المريض وإعادته إلى فترة طفولته، ومناقشة علاقته مع أبويه بدءاً من تلك الفترة.

وإذا ما تساءلنا: كيف يمكن للآباء أو الأُمّهات، وبعد ما ضحوا في سبيل أولادهم، وأغدقوا عليهم كلّ ما يمكنهم من الحب والمال، أن يقوموا بتهديدهم وأن يضغطوا عليهم لإجبارهم على عمل أشياء يكرهونها، مما يتسبب في إصابتهم بعقد نفسية مختلفة؟ نجد أنّ ذلك ينتج بسبب عاملين أساسيين:

1- عدم إدراك الآباء والأُمّهات مدى الأذى النفسي والمعنوي والعاطفي الذي يصيب الابن/ الابنة نتيجة استخدام أسلوب العقاب أو التهديد، فالطفل يصبح حائراً ومرتبكاً وخائفاً، فالتهديد يأتي من الشخص الذي يعتمد عليه ليكون مصدر أمانه وحمايته ورعايته، ويعدُّه ملجأه الوحيد!

2- جهل الآباء والأُمّهات أنّ هناك طرقاً أفضل وخاصة على المدى البعيد، ولكن عادة، وللأسف، نقيّم فعالية أي أسلوب حسب سرعة نتيجته، فالعقاب والقمع يعطيان نتيجة سريعة وآنية، مما يجعلنا نهمل الأساليب الأخرى والتي تحتاج إلى كثير من الصبر والحلم.

عندما يرفض الآباء والأُمّهات استعمال أي نوع من أساليب التهديد أو العقوبات، ويحرصون على توفير طفولة سعيدة لأبنائهم، فيغمرون الطفل بكلّ ما يريد أو يطلب، ويتركونه حراً دون وضع قوانين تزعجه، أو حدود واضحة له تنظم حركاته ونشاطاته، فإنّ الطفل يتحول عندئذ إلى إنسان مدلل إلى حد مبالغ به قد لا يُحتمَمل، أو إلى طفل متطلب أو مشاكس لا يحترم الآخرين، وما أسرع صعوبة سيطرة الأهل عليه. ولتجنب ذلك ما على الأهل إلّا أن يتذكروا، أنّ إلغاء العقوبة لا يعني أبداً إلغاء القوانين أو التخلي عن الحدود.

المربون اليوم بحاجة ماسة إلى اتباع الأسلوب الإيجابي في التربية، فتصرف الأب/ الأُم أو المدرس بدافع الحب وبالحكمة مع الطفل، يساعد على نمو شخصيته ويقويها، ويشجع على ظهور مواهبه وتطورها، مما يساهم في خلق روح التعاون في داخله، فيصبح طفلاً مطيعاً بإرادته ورغبته، لا خوفاً من العقاب أو الضرب.

يستطيع الأبوان الاستغناء عن العقاب، والاعتماد على طبيعة الطفل الطيبة، حيث أنّ الطبيعة قد غرست بذرة التعاون في أعماق كلّ طفل، وما على الأبوين إلّا توفير العناية الصحيحة والمناخ المناسب لمساعدة هذه البذرة على النمو والازدهار، وإلّا ضمرت هذه البذرة وتمرّد الابن وخرج عن طاعتهما، أو على عكس ذلك تماماً، خضع لضغوط الأبوين، واستسلم لأوامرهما ورغباتهما، متجاهلاً رغباته الخاصة المخنوقة، وهذا ما يفعله العقاب، الذي قد يكون وسيلة ناجحة أحياناً، ولكن لوقت قصير وآنيّ فقط.

لكلّ طفل أحلامه الخاصة وأمانيه، ولذلك من إحدى مهمات الأبوين الأساسية شحن هذا الطفل بالطاقة اللازمة لتحقيق هذه الأحلام وما يصبو إليه. نجد أنّ الطفل الموهوب ذا الخيال الإبداعي لن تثنيه العقبات أو الصعوبات عن الاتجاه نحو هدفه، وسينجح في إيجاد طريقة ما لتجاوزها، فهو لا يستسلم بسهولة. لذلك إذا تنبه الأبوان إلى هذه الطاقة الإبداعية، وعملا على توفير المجال المناسب لتطويرها، فإنّ ذلك سيشجع الطفل بالتعاون مع والديه، وسيوفر له أفضل سلاح لشق طريق النجاح. أما إذا فرض الأبوان عليه الطاعة وحسب، فكأنهما يقتلان ما لديه من مواهب، ويغلقان أبواب النجاح في وجهه.

إنّ النجاح والإنجاز الحقيقي لأي إنسان لا يكون باتباع قوانين معينة وضعها له شخص آخر، بل ينتج عن الإرادة الشخصية الذاتية وما يعتقد به ذلك الإنسان.

فرض الطاعة على أولادك يشل إرادتهم، ويغلق أفكارهم، ويحدّ من اختياراتهم، ويجعلهم يهملون مواهبهم وطاقاتهم الداخلية التي أنعم الله بها عليهم، بل وفي كثير من الحالات، سيمنعهم من إدراك ما لديهم من مميزات ومواهب، وبالتالي فهم لن يحاولوا استغلالها، ولن يستفيدوا منها، فكيف يمكن أن يستفيدوا من شيء يجهلون وجوده؟

لكن عندما يشعر الطفل بالأمان ليعبر عن رفضه لطلبات أبيه/ أُمه، مع إدراكه العميق أنّ الأمور تسير حسب ما يقرره أبواه، فإنّ هذا كافٍ لتشجيعه للكشف عن حقيقة رغباته، دون حرمانه من الشعور بالاستقرار العاطفي والحماية اللازمة التي يحتاج إليها، وهذا هو المناخ المثالي لتطور الطفل بشكل سليم.

عندما يحافظ الأبوان على هدوئهما وحلمهما عند مواجهة رفض وعناد الابن بدل تأنيبه وزجره وتهديده بالعقاب، فإنما يضربان له مثلاً في كيفية مواجهة مشاكل ومصاعب الحياة، وفي كيفية التعامل مع رفض الآخرين وعنادهم. وهو سيتعلم من هذه المواقف، ما يلزم من المهارة للحوار والمناقشة والمفاوضة عند التعاطي مع مَن يعارضه من الناس، دون أن يؤدي ذلك إلى تنازلات غير مقبولة من جانبه، أو إلى فرض تنازلات على غيره.

إنّ الاستماع إلى معارضة أولادك سلاح فعّال في تخفيف حدة معارضتهم، ووسيلة ناجحة في بث وإحياء رغبتهم في التعاون معك. كذلك فإنّك وفي استماعك لهم، تعلمهم آداب الاستماع لآراء الآخرين.

 

الكاتب: فريال تسير أيوب آغا

المصدر: كتاب نجاح أولادك (الأساليب التربوية، مناقشة مشاكلها وشرح حلولها)

ارسال التعليق

Top