- ما معنى الحب؟
فينظُر الأشْيَب إليه ويبتسم ثمّ يضع يده على رأس الفتى ويقول: - أسمَى ما في الوجود يا بني، وأجمل ما خُلق على وجه الأرض هو الحب الصادق من القلب إلى القلب. - وهل النجوم تعشَق النجوم؟ - لِمَ لا؟ قد نرى أناساً جاءوا إلى الدنيا وذهبوا بصمت وهم يعشقون، ولكن سُجّلت وسُطّرت أسماؤهم على مدى التاريخ.. يا بُني.. الصمت والهدوء ليسا دليلاً على الابتعاد والتوحّد، والخوف من المجابهة والمواجهة. فالنجوم تعشق والكواكب تعشق، وكل ما على الأرض يعشق، وأنا أؤمن يما يُسمّى العشق الهادئ. - ما هو العشق الهادئ؟ - انظُر إلى النجوم وتَمَعَّن كيف تعشق، وكيف تهوَى، بكل صمتٍ وهدوء. - وهل للنجوم عشق النجوم من طرف واحد؟ فيتصنّع الأشيَب الابتسامة المزيّفة بعدما هيّض السؤال قريحته ومشاعره المبعثرة الهائجة داخل الصدر الحزين. - للأسف لا يا بُني، كل ما حولك يَعشَق ويُعشق إلا البشر. - يعشق ويُعشق إلا البشر؟! وبكل دهشة وتعجّب، ولماذا؟ - انظُر يا عزيزي، فالبشر حسب الأمزجة والمشاعر، والأحاسيس المتقلبة المتغيّرة من حين إلى حين، ومن وقت إلى آخر، وكل منهم يهوى بهواه، ولا يُحكم قلبه بصدقٍ وشفافية.ثمّ ينظُر الفتى إلى أبيه نظرة استفهاميّة تحمل كمّاً من الأسئلة الجامحة الشاردة الراسخة في زاوية الذهن.
- وماذا عن الذين عشقوا ثمّ هلكوا ثمّ ماتوا وهم يعشقون؟! فُتبسَّم الأشْيَب ضاحكاً بصوت لا يتعدّى حوله، بما يحمل من شعور غامض مجهول، ويقول: - ها أنتَ، تقف على المَصَبّ نفسه الذي تتشعّب منه الأسئلة وتتفرّع. وكلمة العشق وصفٌ أكبر من المفردة نفسها، ولا يفهمها ذوو القلوب الهشيشة الركيكة. وللعلم، فإنّ الذي يهلك الفرد في حياته ويتركه في حالة تذمّر، ليقضي ما تبقّى يعشق القلب قلباً كالحجر، بليد المشاعر يزيد الضجر، ها هو الطرف الآخر بعينه. نهض الفتى ليجلس معتدلاً مقابل الأشيب، وعيناهُ لا تُفارقان عينيه وقال: - وهل هناك أناس يفهمون معنى الحب الصحيح؟ - طبعاً يا بُني، فالحب هو لحياة، مثل الأوكسجين يحتاج إليه الجميع، يسري في الدم بين الشرايين وإلى القلب، ولا حياة لمَن لا يفهم معناهُ. - يا بُني.. - عُذراً أبي! ما بهما عيناك؟ - لا شيء، فقط بعض من الأتربة الخفيفة المتطايرة في الهواء، ويجب أن نسري قبل أن تزداد الرياح سوءاً ونحنُ على التَّل. فأمسك الأشيب بعصاه ليقف بها، فوجّه الفتى إليه سؤالاً يحبس المشاعر ويحرّك الأشجان الخفيّة. - كيف كانت والدتي معك؟ - خرّ الأشيب جالساً ويداهُ تعشان لا تقويان على الإمساك بالعصا، والشوق يتلاعب ويتراقص في عينه، ثمّ وضع يده على كتف ابنه وقال: رحمها الله وأسكنها فسيح جنّاته، مكثتُ معها وخضتُ أوّل وآخر قصة حُبٍّ تبقى مادمتُ حيّاً، فهي الحب ومنها الحب وإليها الحب كلها. - رحمها الله. قالها بصوت حزين تَغْلب عليه الذكرى المؤلمة. - وهل ستعشق وتحب غيرها إن وُجد؟ - لا أظنّ ولا يظن قلبي كذلك. لأن وجودها احتَلّ مساحة شاسعة في القلب، وغيابها لم يترك حيّزاً ليسكنه غيرها. وفجأة، ذات لحظة غضب لا شعوريّة، وبصوت يحمل نبرة الحزن الخاشع المتخشّع.. - وماذا عن السائق المذنب الذي أودَى بحياة والدتي، والذي كاد يهلكنا جميعاً ويُودي بحياتنا إلى الجحيم؟ - الحمد لله على كل حال، وهذا قضاء الله وقدرة ولا مَرَدّ لقضائه، والسائق نال جزاءهُ من حيث القانون. - أي قانون هذا؟ ها نحنُ نتألم كل يوم ونرضف الحزن فوق الحزن ونمسح الدمع، والسائق بمجرد اتصال الشخصية المهمة، حتى إنّه لم يمكث ثلاث ساعات في الحبس. - ولكن لا تَنْسَ، الشخصية المهمة التي تتحدث عنها، بادرت إلى الاتصال بنا، وقامت بالاعتذار نيابةً عن السائق نفسه، وقدّم لنا المال، وفوق هذا ألا يجب أن نؤمن بالقضاء والقدر.. ونُسامح؟ - نُسامح على ماذا؟ شخصٌ طائش متهوّر غير مُبالٍ بآداب الطريق، يعتمد على معارفه وشخصياته المهمة. - يا بُني، اجْعَل قلبك مسالماً ليّناً سريع العفو والمغفرة، فأنا لم أنسَ والدتك قَطْ، ولم أعشق امرأة سواها، ولن يتراوح حبك ويتجاوز حبي لها، فالاختبار صعب على مَن يجتازه ليفوز. ثمّ نهض واقفاً وهو يُشير بعصاه.. - يا بُني، انظُر إلى هذا الكون الواسع الرّحب، فلابدّ أن تمرّ عليك مواقف تحتاج فيها إلى الصبر، ويجب أن تصبر، ولو بات قلبك هشيماً.وبدأ الأشيب يتحرك في محاذاة الفتى، متّجهين إلى المنزل.
- أبي! - نعم يا بُني؟ - أخي أحمد متى سينتهي من الدراسة ليعود إلينا؟ تَبَسَّم الأشْيَب قائلاً: - اشتقتَ إليه؟ - كيف لا؟ وهو أخي الأكبر، تربّينا وعشنا في كنفٍ واحد، ثمّ قالها بأسلوب السخرية.. - صحيح أنّ أخي يتّصف بالثرثرة الزائدة، لكنّي أحبه، وهو أقرب الأصدقاء إلى قلبي. الأشيب يضحك قائلاً: - جميلٌ حين تشعر بأنّ لديك أخاً صديقاً يكون لك كالصندوق الأسود. - وما الصندوق الأسود؟ - أعني أن يحمل جميع أسرارك ويساعدك في حل مشاكلك التي تواجهك، ويُبادلك فوراً بالحلول البناءَة، ويَدْرأ عنك من دون أن يشعر أحد، لكونه أخاك الأكبر، ولا يجعلك تسعى إلى البحث عن صديق خارج المنزل، ليَشْمَت بك وينتهز لحظة ضعفك. - آآه.. فعلاً ازْدَتُ شوقاً لأرى أخي أحمد، الآن منذ ثلاثة أشهر لم أرَهُ. - وأين المشكلة يا بُني، الآن أنت في إجازة صيفيّة، وبلغتَ سن الرشد كما يُقال، بما معناهُ، يُعتَمَد عليك، فاذهب إليه لتقضي أياماً عديدة، لتراهُ من ناحية ولتَزيح على صدرك التراكمات النفسية من ناحية أخرى. فوقف الفتى مِن هول الصدمة ينظُر بصمت إلى الأشيب، ثمّ نظر الأشيب إلى الخلف. - ما بك؟ - أبي أنا أسافر، ويُشير بإصبعه السبابة إلى صدره ثمّ يضحك قائلاً: - أنا الشخص الوحيد الذي لا يعشق السفر، ولا يطيق الطائرة إطلاقاً.. باشَر الأشيب ليُكمل طريقه والفتي بدأ يتحرك خلفه. - هل تخشى الطائرة؟ - لا، ولكن أممم... - ولكن ماذا.. أكمل؟ - لا أعلم ما أقول. - ألا تَطْمَح إلى تكملة دراستك خارج الدولة، ثمّ تأتي ومعك الشهادة العليا التي تفتخر بها، وأفتخر أنا بك أيضاً؟ - أجل، ولكن لماذا خارج الدولة يا أبي؟ الآن ولله الحمد، تتوافر كل الجامعات لدينا في الدولة، وكل التخصّصات مُتاحة مع كل الوسائل العلمية المتطورة، وبشهادة عالمية، لا داعي إلى التغرُّب وزالسفر والابتعاد عن الوطن. - ما معنى كلامك؟ هل تُصرُّ على إقناعي بأنك لا تخشى الطائرة؟ تَبَسَّم الفتى لعدم قدرته على المراوغة في الأسئلة، ولدهاء والده، وليُعلن الانسحاب بطريقة غير مباشرة، من دون أن يشعر الخصم بتجنّب السؤال.. - أبي ماذا يعني لك البَحر؟ - البحر! كالصاحب اللئيم.. إن واجهتهُ حضنكَ، وإن أقفَيَت عنه طعنك، لا أمان لهُ. وبقيَت مسافة قليلة للوصول إلى المنزل. - وكيف توفّي عمي يوسف في البحر؟ - رحمة الله عليه، كان من عادته أن يرتاد البحر للصيد بسبب الفاقة. وذات يوم ذهب إلى الصيد من البُكور، حسب ما وَرَدَني من العاملين لديه، فصعد إلى قاربه الصغير ولم يشغف لأي شخص يُعاونه على غير العادة. وبعد عشر ساعات من ارتياده البحر، كأنني أحسستُ بأن أخي حَزَبَهُ أمرٌ، لأننا اعتدنا على اتصاله بشكل مباشر، أو كل ثلاث ساعات على الأقل، وحين بادردت إلى الاتصال به لم يُجب. فَرَاوَدتني أفكار جعلتني أذهب إلى منزله، لأفاجأ بأنه لم يأت منذ خروجه إلى الصيد، فتوجّهت مسرعاً إلى موقعه، حيث يكون موجوداً مع العاملين لديه، ففوجئنا بـ"كركاس" أحد العاملين لديه وعيناه ينتابهما القلق، فسألته عن أخي، فأخبرني أنّه لم يرجع منذ ارتياده البحر منذ عشر ساعات تقريباً، فتوجّهت مسرعاً إلى أقرب أصدقائه ويُدعى محمد، ليُشاركنا البحث، لامتلاكه مركب صيد. وبعد ساعة من البحث المتواصل، وجدنا قارب يوسف ولم نجد يوسف نفسه. - وإلى الآن لم تجدوه؟ - نعم، وإلى الآن لم نجده - ولا له من بحر غدّار. وقيل اقترابهما من المنزل ببضع دقائق للوصول إليه، قرّر الأشيب تلطيف الجو، بعيداً عن الآلام والمآسي وتقليب الأوجاع، وليُعيد الفتى إلى ما حاول تجنّبه والابتعاد عنه. - انظُر يا بُني الآن! لا تَخْشَ الطائرة، فحسب، بل كل ما هو موجود على الأرض، يُسبّب الأذى والمخاطر، مثل البحر والسيارات والسفر.. فاجلس في المنزل ولا تتحرك، لكي لا يصيبك أي مكروه. فضحك الفتى، ليُعلَم أنّ الأشْيَب لم يَنْسَ، ويتجاوز حيلته وتجنّبه السؤال الذي يخشاهُ. وصلا إلى المنزل، بعد أن قَضَيَا وقتاً ممتعاً في التسلّي بالأحاديث الشيّقة، كصديق يتحدث مع صديقه بكل محبّة وصدق وحنان. - هيّا يا قُرّة عيني، اذهب واسْتَحم لكي نتناول معاً بعضاً من الطعام. - حسنا يا أبي. ولكن، فعلاً، شيء جميل حين يُدرك الفرد مدى التأمّل والتفكير، ويُسارع إلى الابتعاد عن ضجيج المدينة وازدحامها، اللذين لا يثطاقان، والمكوث فكم سعِدتُ يا أبي بمصاحبتك. *كاتب من الإماراتمقالات ذات صلة
ارسال التعليق