• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

صراع الحقّ والباطل

عمار كاظم

صراع الحقّ والباطل

يقول تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء/ 16-18). إنّ صراع الحقّ مع الباطل سنّة إلهيّة، حكمت وتحكم مسيرة الإنسانية، ولا يخلو منها مجتمع، مهما كانت درجة تطوّره. ففي كلّ تجمّع إنساني تنشأ علاقات تنافسية، أساسها التدافع والتسابق على الموارد والخيرات والمال والقوّة والمنصب والجاه والنفوذ. إنّ أبرز مشكلة تعانيها الحياة الإنسانية، هي مشكلة تحقيق التوازن بين مصلحة الفرد أو الأنا، ومصلحة نحن أو المجتمع، وتبدأ المشكلة عندما تتسلَّط روح الأنانية على الإنسان، فتصبح مصلحته ومنفعته هما المعيار لأيِّ سلوكٍ أو موقف، أي أنّه يصبح على استعدادٍ لأن يغلِّب الظلم على العدل، أو الكره والتعصّب على الحبّ والتعاون والتسامح، ويغلِّب الباطل على الحقّ. ويبدأ الصراع عندما يستشري الفساد، ويتحكَّم الظلم والاستكبار بحياة مجتمعٍ ما ويعمّ الخراب.

هنا يكون جوهر الصراع عبارةً عن تنافس إراداتٍ باتت على طرفي نقيض: إرادات تسعى لتمكين كلِّ ما يساهم في إعمار الحياة، والخير، في مواجهة إراداتٍ همّها مصالحها ومنافعها، مهما كلَّفها ذلك من إفسادٍ في الأرض أو تخريب. إنّ كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) حين قال: «إنّي لم أخرجْ أَشِراً ولا بَطِراً ولا مُفسِداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلبِ الإصلاحِ في أُمّة جدّي، أُريد أن آمرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكرِ وأسير بسيرةِ جَدّي وأبي عليّ بن أبي طالب. فمن قَبِلَني بقبولِ الحقّ فاللهُ أولى بالحقّ، ومَن ردّ عليَّ هذا أصبر». وقال (عليه السلام) بعد ذلك أيضاً: «ألا ترون إلى الحقِّ لا يُعملُ به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه» وقال: «لا واللهُ لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليلِ ولا أُقرُّ لكم إقرارَ العبيد». تعني أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قد انطلق في حركته على أساس عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أساس إعادة الحقّ في الحياة إلى مواقعه، من أجل أن يعمل الناس بالحقّ، وإبعاد الباطل عن الواقع حتى يبتعد الناس عنه، وأن يقف المسلم على أساس أن يجسّد العزّة في كلّ مواقفه، وأن يرفض الذلّ في كلّ مواقفه، كأنّ الإمام الحسين (علیه السلام) يريد أن يقول لكلِّ الأجيال من بعده: إنّني وقفت هذا الموقف من موقع إمامتي، ومن موقع تحرّكي في خطّ الرسالة. فإذا عشتم تجربةً كتجربتي، وإذا واجهكم حكمٌ للتحرّك وللانطلاق، فإنّكم تستطيعون أن تتحرّكوا في الخطّ الذي تحركت فيه، لأنّكم بذلك تنطلقون من حيث انطلقتُ، وترتبطون بالحكم الشرعي من حيث ارتبطت.

إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) يعطينا الشرعية والقدوة للانفتاح على كلّ الواقع الذي نعيشه مع رفض حالة الحياد بين الخير والشرّ، لأنّ الظالمين يستفيدون من الأكثرية الصامتة أكثر ممّا يستفيدون من جنودهم ومن أتباعهم، لأنّ جنودهم يتحرّكون ضد المستضعفين، فيما لا يعطي المتفرّجون قوّتهم للمستضعفين، ولذلك يتغلّب المستكبرون على المستضعفين. فالأكثرية الصامتة هي التي يمكن أن ترجّح الكفّة عندما تتحوّل من صامتة إلى ناطقة، ومن ساكنة إلى متحرّكة، تلك هي المسألة. ولهذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) يهدّد كلّ الذين استنصرهم والذين فلم ينصروه، ابتعدوا عن المعركة بغضب الله (سبحانه وتعالى) وبعذابه.

حين نستعيد أجواء عاشوراء، فإنّما نستعيدها لنعتبر بها ونتعلّم منها، ونعيشها من أجل أن نكون في المرحلة التي تكمّل تلك المراحل، لأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان خطوةً متقدّمة في المسيرة الإسلامية الطويلة، التي لن تنتهي حتى يرث الله الأرض ومَن عليها. إنّه (عليه السلام) كان يتمثّل بهذه الآية الكريمة: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب/ 23)، هناك من انتهت مرحلته ولاقى وجه ربّه، وتلك هي قصّة عاشوراء.

قصّة كلّ أبطال عاشوراء أنّهم عرفوا الحقيقة، وعاهدوا الله، لقد اعتبروا أن بينهم وبين الله عهداً، وأنّ الإنسان الذي يعاهد الله لابدّ له أن يصدق مع الله عهده. ومعنى أن يصدق مع الله في عهده، أن ينظر في كلِّ مرحلة من مراحل حياته إلى كلّ ما يعمله، وإلى كلّ ما يريد أن يسير فيه، ليجد هل هو منسجمٌ مع عهده مع الله أو لا؟ والآن، كيف نفهم عهد الله هذا الذي أشارت إليه الآية، وهذا الذي تمثّل به الإمام الحسين (عليه السلام) في كلّ وقفة من وقفات الشهادة التي كان يقفها أصحابه وأهل بيته (عليهم السلام)، ما هو عهد الله؟ عهد الله هو الإسلام، وهو الإيمان. فمعنى أنّك مسلم، هو أن تعاهد الله سبحانه وتعالى، وأن تسلّم كلّ حياتك له وفي سبيله، أن تجعل كلّ خطواتك في طريقه، أن تواجه كلّ التحدّيات وكلّ الأخطار وكلّ العقبات في سبيل الله، ومن أجل الله... ذلك هو عهد الله، أن تُسلِم له أمرك وحياتك، لا أمر لك مع أمره، ولا كلمة لك مع كلمته. أن تقول في كلّ مرحلةٍ من مراحل حياتك وفي كلّ يوم تصبح فيه وتُمسي: طاقاتي كلّها لك وحياتي كلّها لك.

ارسال التعليق

Top