• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الاعتدال والوسطية في باب العبادة

عمار كاظم

الاعتدال والوسطية في باب العبادة

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (يونس/ 22). إنّ القلب الإنساني دائم الشعور بالحاجة إلى الله، وهو شعور أصيل صادق لا يملأ فراغه شيء في الوجود إلّا حُسن الصلة بربّ الوجود، وهذا ما تقوم به العبادة إذا أُديت على وجهها الصحيح.. فالقلب فقير بالذات إلى الله من جهتين: من جهة العبادة.. ومن جهة الاستعانة والتوكل.. فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر، ولا يلتذ ولا يطيب، ولا يسكن ولا يطمئن، إلّا بعبادة ربّه وحده وحبّه والإنابة إليه. ولو حصل له كلّ ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربّه - بالفطرة - من حيث هو معبوده ومحبّوبه ومطلوبه. وبذلك يحصل له الفرح والسرور، واللذة والنِّعمة، والسكون والطمأنينة. وهذا لا يحصل له إلّا بإعانة الله له؛ فإنّه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلّا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5).

إنّ الهدف الذي بُعث الإنسان له، وخُلق لأجله هو توحيد الله – تبارك وتعالى – في العبادة والطلب والتضرع، وإنّ الإسلام عندما يعلّم التوازن والقصد والاعتدال في جميع الأُمور، وسائر شعب الحياة؛ فإنّه كذلك يوجهنا إلى اتّخاذ منهج الاعتدال والوسطية في باب العبادة. إنّ الله – تبارك وتعالى – قد خلق الإنسان وركبه بجزئي الجسم والروح، كما أنّ الروح لها حاجات ومقتضيات تخصها كذلك؛ فإنّ الجسم له ضرورات وحاجات، وكما أنّه يجب تلبية المقتضيات الروحية؛ كذلك، فإنّه يجب تلبية المقتضيات الجسدية، وكما أنّ هناك حياة للبدن والجسد كذلك، فإنّ هناك حياة للروح، هذا وإنّ العبادة تفي بالمقتضيات الروحانية للإنسان.

العبودية الخالصة المتوازنة لله تعالى ليست في واقع المنهج الإسلامي سوى سلوكية هادفة وواعية، سلوكية إنسانية وعملية تبلغ أقصى درجات التحقّق فإذا نظرت إلى طاعة الله، ومداومة عبادته، والضراعة إليه، وجدتها تحيط الإنسان المؤمن بسياج من الحفظ يحميه من مقارفة المعصية، والتلوث بدنسها. قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/ 45).

وما أخذت العبادة امتدادها على هذا النحو الخالص المعتدل.. إلّا كان صاحبها مشعل إشعاع، وموئل عزّ، وموطن حفظ. تظلم الدُّنيا وهو مضئ، ويجهل الخلق وهو حليم.. رُوِي أنّه قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله تعالى: «إنّما أتقبّل الصلاة ممّن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يبت مُصرّاً على معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم المسكين، وابن السبيل، والأرملة، ورحم المصاب. ذلك نوره كنور الشمس، أكلؤه بعزتي، واستحفظه ملائكتي، اجعل له في الظلمة نوراً، وفي الجهالة حلماً.. ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنّة».

فللعبادات في الإسلام قيم تملأ العقل، وينطوي عليها الفؤاد، فالصلاة صلة بالله تمثل أسمى آيات النظام، والزكاة، صلة بالله وطهرة للنفس، وحقّ للمحتاج، والصوم عبادة لله ورياضة للنفس، وقمع للشهوات، والحجّ تجرّد لله وإخلاص وجهاد وإنفاق. ولهذا كلّه كانت آثار العبادات في جملتها تزكية النفس وتطهيرها، وتعويد الإنسان الصبر على تحمّل الشدائد وهو ما يظهر جلّياً واضحاً على النفس من إيمان بالله واستجابة له، واستقامة على هديه، إلى غير ذلك من أُمور تقود الفرد إلى رحاب العبودية الحقّة لله، وتحلق به في آفاق الطُّهر والهدى.

ارسال التعليق

Top