◄فطر الله تعالى الناس على حبّ الحقّ وحبّ الخير، ولهذا فإنّه لا أحد يمكن أن يفتخر بأنّه على الباطل، أو بأنّه يكره الحقّ، فالحقّ شيء عظيم، ومن عظمته أنك ترى أعداءه والمعرضين عنه يتمسحون به، ويحاولون إقناع أنفسهم بأنّهم على طرف منه، أو يحاولون إيجاد المسوغات التي تلطف من خروجهم عليه، فإذا جئنا إلى الصعيد العملي وجدنا أن شهوات الناس ورغباتهم غير المشروعة تلح عليهم إلحاحاً شديداً فيستجيبون لها، فإذا بهم قد تنكبوا جادة الحق، وصاروا من أهل الباطل. ولعلي ألقي بعض الأضواء على هذه القضية المهمة:
1- حين نكون على يقين بأننا محقّون، فإنّنا نجهر بذلك، ونحاول الوصول إلى حقوقنا عن طريق القضاء أو التحكيم أو الصلح أو التفاوض، لأننا نملك الثقة بالفوز ومؤازرة الناس لنا. إنّ المبطل يخشى مقابلة الذين ظلمهم، ووضع عينه في عيونهم ما لم يكن على درجة عالية من الوقاحة، ولهذا فإنّه يلجأ إلى الهروب من المواجهة والمفاتحة، ويلجأ إلى استخدام القوة، وهي أشكال وأنواع...
2- كلما اتسعت الفجوة أو الهوة بين الإنسان والحقّ فإنّه في الغالب لا يقف الموقف الصادق الذي يراجع فيه نفسه، ويقوِّم اعوجاجه، وإنما يلجأ إلى استخدام القوة التي تتلاءم مع تلك الفجوة، أي يستخدم القوة المفرطة، ويقدم فرعون النموذج التاريخي لاستخدام القوة الغاشمة، لأن ادعاءه الربوبية ورغبته الجامحة في استعباد الناس جعل المسافة التي تفصل بينه وبين (الحقّ) مساحة شاسعة. موسى وأخوه هارون (عليهما السلام) كانا موقنين أنهما على الحقّ ولهذا فإنّهما عرضا على فرعون البرهان تلو البرهان والحجة تلو الحجة على صدقهما ونصحهما، لكن فرعون الذي كان يجمع بين الحمق والجهل والكبر، كان دائماً يرد عليهما بالتهديد والوعيد ومحاولة البطش، لأن هذا ما يحسنه المبطلون.
3- حتى يستطيع المبطل استخدام القوة في ملء الفجوة التي تفصل بينه وبين الحقّ فإنّه يحتاج إلى الغموض، كما يفعل من يحب الصيد في الماء العكر، كما سيعني نوعاً من اللجوء إلى المنطق والشرعية، وهذا ما لا يريده القوم! إن غموض المصطلحات والمفاهيم يُستغَل اليوم في محاصرة أهل الخير عن طريق استخدام القوة المقننة وغير المقننة؛ حيث صار من السهل أن يُطلَق على فلان من الناس بأنّه أصولي أو ظلامي أو متطرف أو متخلف... وحين تطلب ممن يقول ذلك توضيح كلامه فإنك تجد أنه لا يملك القدرة على شرح ما يقوله، وإنّما يستغل غموض المصطلحات، أو تجد أنه يتهم الإسلام نفسه بالرجعية والتخلف، وليس بعض أتباعه.
4- حين تتوفر القوة الضاربة عند أي جهة، فإنّها تغريها بتجاوز الحقّ المشروع، فالقوة في حقيقة الأمر تعمي أصحابها، وتُلغي عقولهم، فيتصرفون كمن لا يملك خلقاً ولا ديناً ولا تجربة ولا رؤية، وهذا ما يمكن أن نسميه (خيانة القوة)►.
المصدر: كتاب هي.. هكذا (كيف نفهم الأشياء من حولنا)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق