• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«دقات قلب المرء» ثواني عمره

أمال الخياط

«دقات قلب المرء» ثواني عمره

◄أولى الشارع المقدس الحركة الزمنية – المصاحبة لدوران الشمس ومنازل القمر وتعاقب الليل والنهار – أهمية كبيرة جدّاً لا يمكن لأحد أن يتجاهلها أو يتغافلها بوجه من الوجوه.

ففي طيات هذه الحركة يكمن تاريخ الشعوب والبشرية، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس/ 5).

فقد جعل الباري من هذه الحركة الزمنية التي نعبر عنها بمفردة "الوقت" أو "الزمن" أمراً بالغ الأهمية لنظم الحياة، وتأصيلاً لذلك فقد جعلها – أي حركة الزمن – مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ودقيقاً بالطقوس التعبدية المقدسة التي يؤديها العبد بشكل دوري ومستمر، كالصلاة والصيام والحج وتلاوة القرآن وغيرها، قال عزّ من قائل: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء/ 78-79). وقال: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة/ 187).

وتتجلّى أهمية الوقت وقداسته على أكمل الوجوه عندما نجد الباري جلّ وعلا يقسم بساعات الليل والنهار في أقدس الكتب في كثير من آياته الشريفة، ويقسم بالفجر تارة وبالضحى أخرى، ثمّ يقسم بالعصر وبالليل.

قال سبحانه وتعالى: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (الفجر/ 1-2).

وقال: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) (الضحى/ 1-3).

وقال: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر/ 1-2).

فهذه الآيات الشريفة – سواء التي تقرن بين حركة الزمن وبين أعظم العبادات كالصلاة والصيام، أو تلك التي يقسم فيها الباري بساعات الأيّام – كلها تضفي على الزمن شيئاً من القداسة وتحرك عند الإنسان الإحساس بأهمية الوقت وضرورة الانتباه لحركة عقارب الساعة – الذي يعبر في كل دورة من دوراته عن مقدار ما من النقص الذي يعتري عمر الإنسان – من أجل أن يغتنم ما تبقى له في الحياة من ساعات وأيام، وأن يتعامل مع وحدات الزمن بحرص وموضوعية لئلا يمر عليه يوم من دون ان يستثمر في نشاط إيجابي يقدم فيه الخير لنفسه أو لمجتمعه.

ومن الكلمات الجميلة التي تنسب إلى الحسن البصري قوله: "ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي منادٍ من السماء من قبل الرحمن وبلسان ذلك اليوم فيقول: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني بعمل صالح، فإني لا أعود إلى يوم القيامة".

فمع هذه الكلمات المضيئة لابدّ لنا أن نتساءل: أين موقعنا نحن من الاستثمار الأمثل لساعات الليل والنهار؟ وما مدى إدراكنا لأهمية دوران الشمس وتعاقب الليل والنهار؟ فنحن نسمع ونقرأ عبر التاريخ عن الكثير ممن ضيعوا الفرص وقضوا حياتهم هباء وختموا عمرهم بلا قيمة، فلم يحسنوا ملئ وقتهم أو استثماره بما يحقق لهم الأثر الحسن – سواء في الدنيا أو الآخرة –، ولكن ماذا بعد السماع؟

يحدثنا القرآن الكريم عن البعض ممن تحضرهم الوفاة (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون/ 10)، أو يقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (المؤمنون/ 99-100)، كما يحدثنا عن آخر يرى العذاب فيصيح: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (الفجر/ 24).

بالطبع نحن لا نريد أن نكون مثلهم!

ولا نريد أن نكون على هامش الحياة، لا هدف ولا معنى.

لا نريد لوجودنا أن يكون كالعدم لا تأثير له.

ولا نريد أن تأتي علينا لحظة نشعر فيها بالندم والحسرة.

وأكيد أكيداً لا نريد لمثل هذه الجملة أو تلك أن تعرف طريقها إلى شفاهنا، ولا نحب أن نكون يوماً ضمن هذه الجماعة المتحسرة والعياذ بالله.

ولكن ما هو السبيل؟ وما هو العمل من أجل حياة لا ندم بعدها ولا حسرة تعقبها، حياة توصلنا إلى برّ الأمان ومجاورة الأطهار من سادات الأنام؟ وكيف نوفق لاكتساب مهارة استغلال الوقت والابتعاد عن كلّ ما من شأنه أن يفسد هذه المهارة؟

لنبدأ أوّلاً بالتعرف على العوامل التي تساهم في اتلاف أوقاتنا وفناء أعمارنا:

 

الفوضى والافتقار إلى النظام والتخطيط:

حيث ينعدم فيها النظام ويغيب عنها التخطيط، لذلك كان مما أوصى به إمامنا أمير المؤمنين وسيد الوصيين (ع) بعد التقوى هو التحلي بالنظام، حيث قال: "أوصيكما – أي الحسن والحسين – وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم".

يقول د. ريك: "إنّ الفشل في التخطيط يعني في الغالب التخطيط للفشل، وقد وجدنا أن معظم الأهداف التي تكون بدون تخطيط لا تسمن ولا تغني من جوع، فإذا لم يكن لدى الشخص فكرة عما سيفعله فهو كالبالونة التي انفلتت من صاحبها قبل أن يحكم ربطها، فتجدها تتطاير يميناً ويساراً في الحجرة إلى أن تستقر بشكل عشوائي في أي مكان بالحجرة، حيث يهملها الجميع ولا يلقون لها بالاً.

فعلينا أن نعلم بأنّ التخطيط وإن كان لا يضمن لنا التحكم في الواقع الاّ انّه يضمن لنا التحرك والمضي قدماً في تحقيق بعض أهدافنا".

وعليه فإنّ التنظيم يعد من أهم العوامل المؤدية لإنجاح وإنجاز أي عمل في وقت قياسي مع تفادي أي نتائج سلبية من شأنها أن تضيع الجهد والوقت.

 

التسويف والتواني:

هكذا هي أوقاتنا وأعمارنا تنقضي بتأخير عمل اليوم إلى الغد، وعمل الغد لما بعده فتذهب الأيام والسنون ضياعاً، بل لربما جر التسويف إلى ما هو أخطر من اضاعة الوقت وتبديده كالوقوع في حبائل الشيطان، والنزول إلى دناءة الهوى والنفس، والابحار في لجج المعاصي.

 

الكسل والنوم الزائدان:

النوم من أكثر الأمور المستنزفة لساعات العمر، لأنّه ضرورة من ضرورات الحياة، والإنسان يتعاطاه بشكل يومي لذا ينبغي لنا التعامل معه بشكل جاد وصارم فعلينا التحكم في أوقاته وساعاته والا نطلق العنان لسلطان النوم كيما يأخذ بغيته منا فمن المهم بمكان معرفة الوقت الذي يجب أن يبدأ النوم فيه والذي يجب أن ينتهي عنده، كما انّ من المهم معرفة الوقت الأنسب الذي يجب الخلود فيه للنوم من الناحية العلمية فإنّ الملفت في هذا المجال انّ الإنسان كثيراً ما يسترسل في نومه الكاذب اذ حاجة بدنه الحقيقية للنوم أقل من نومه الفعلي في الغالب الأعم، ولو انّ الإنسان صارع الخمول وجاهد نفسه بطرد الكسل عنها وهجران الفراش، فإنّه لا شك سيوفر على نفسه ساعات كثيرة فيما هو خير له وابقى ولقد نعت الله عزّ وجلّ المؤمنين في كتابه بقلة النوم فقال: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (السجدة/ 16).

 

المواعيد غير المنتظمة والدقيقة:

كأن نواعد أحد معارفنا في الساعة الخامسة فلا نأتيه الا في الساعة السادسة عن الموعد، أو أن نتفق على ندوة فكرية في ساعة معينة فلا نجتمع الا بعد الموعد المحدد بوقت متأخر، وهذه الظاهرة في تضييع الوقت تنتهي بالاضرار بكل الأطراف، في حين انّ القرآن يؤكد علينا في ان نكون دقيقين ومنضبطين في مواعيدنا، وقد قال الله سبحانه وتعالى بشأن النبيّ إسماعيل (ع): (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) (مريم/ 54)، وعن سبب نزول هذه الأية يقول المفسرون: إنّ هذا النبيّ العظيم انتظر رجلاً سنة كاملة في نفس المكان الذي وعده فيه لكي يثبت للآخرين أهمية وقدسية الوعد الذي يقطعه الإنسان على نفسه بالنسبة إلى الآخرين.

 

انشغال القلب بأمور الدنيا:

لا شكّ انّ الإنسان إذا ما شغل قلبه وصرف اهتمامه بأمر من أمر هذه الدنيا من هم أو غم أو فشل أو غرام أو مرض أو ضياع مال أو فقد عزيز، فإنّه سوف يقضي جلّ وقته منشغلاً فيه عما يستقبله، إذ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

يقول أمير المؤمنين (ع): "لا تشعر قلبك الهم على ما فات فيشغلك عن الاستعداد لما هو آت".

وبعد هذا العرض المختصر لأشهر الأعمال التي نمارسها في حياتنا والتي تستنزف منا وقتاً وعمراً دون أن نشعر، علينا أن نقف مع أنفسنا وقفة تأمل ومحاسبة، فقد أصبح لزاماً علينا إعادة النظر في ممارستنا وأوقاتنا المهدورة، وتقدير الكم الهائل من الوقت الذي يذهب منا سدى في كلّ يوم ولو اننا قرأنا شيئاً من حياة العظماء من الأنبياء والفلاسفة والحكماء والمخترعين والمبتكرين الذين ساهموا في بناء واثراء الحضارة الإنسانية لتعلمنا منهم درساً مهماً في كيفية الاستفادة من كلّ دقيقة في حياتنا.

علينا أن نعي جيداً بأنّ هذا العمر القصير إنّما هو محدود بعدد من الحركات والدقات اللطيفة التي تحاول أنْ تذكرنا في كلّ ثانية بأنّها تقترب من الدقّة الأخيرة، فأمّا أنْ تكون ظاهرة نراها في عقارب الساعة وأمّا أنْ تكون دقات باطنة قد نشعر بها في نبض قلوبنا..►

ولنعم ما قاله شوقي في ذلك:

دقــات قـلب الـمـــرء قـائلـة له *** انّ الحيـاة دقـائـق وثوان

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها *** فالذكر للإنسان عمر ثان

 

المصدر: مجلة حياء.. ثقافية إجتماعية/ العدد الأوّل

ارسال التعليق

Top