• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أهلاً بالجراثيم الحميدة

أهلاً بالجراثيم الحميدة

◄إذا كان لابدّ من القضاء على الجراثيم الضارة التي تُهاجمنا وتسبّب لنا الأمراض، فعلينا في المقابل أن نسهر على صحة ملايين الجراثيم الحميدة التي تسكن أمعاءنا. كيف تفيدنا هذه الجراثيم؟ ولماذا علينا أن ندللها؟

جسم الإنسان مليء بمليارات الجراثيم، بينها نحو 500 فصيلة تعيش في ظلمة الجهاز الهضمي، وتلعب دوراً مهماً في تعزيز حالتنا الصحية. وجراثيم الجهاز الهضمي تقسم إلى مجموعتين، الأولى حميدة والثانية ضارة. وتقضي الأولى وقتها في تدمير الأنواع الضارة، لكنها قد تضعف وتموت لتحل الجراثيم الضارة محلها، وذلك عندما نتعرض للتوتر والضغوط النفسية، أو نتناول الأدوية، وعلى رأسها المضادات الحيوية، أو نتيجة اتّباعنا نظاماً غذائياً غير صحي. ويقول الخبراء، إنّ اختلال التوازن بين نوعي الجراثيم لمصلحة الجراثيم الضارة، يمكن أن يؤدي على المدى القصير إلى الإسهال، النفخة والغازات. أما على المدى الطويل، فيمكن أن يسبب مشكلات أكثر خطورة مثل الالتهابات، وأمراض الأمعاء مثل متلازمة الأمعاء المتهيّجة.

وفي سبيل إعادة التوازن الجرثومي، يلجأ بعض المتخصصين في التغذية إلى وصف الـ"بروبايوتيكس"، وهي جراثيم حميدة موجودة في بعض الأطعمة مثل الألبان، إضافةً إلى توافرها على شكل أقراص مُكمّلة. لكنهم يؤكدون أنّه لا يمكننا الاعتماد على هذه الأقراص فقط، لإحداث تغيير إيجابي سريع في بيئة الجهاز الهضمي، التي ألحق بها نظام غذائي ونمط حياة سيئان، أضراراً    كبيرة لفترة طويلة.

وكي نتمكن من قلب الموازين لمصلحة الجراثيم الحميدة والإبقاء عليها صحيحة وسعيدة، علينا أن نتعرف إلى هذه الجراثيم عن كثب.

 

ما هي هذه الجراثيم التي تعيش في أمعائنا؟

تُشكّل الجراثيم التي تعيش في الجهاز الهضمي، جزءاً كبيراً من أصل 100 تريليون جرثومة تنتشر في مختلف أنحاء الجسم. وهي تنمو وتتكاثر في الأمعاء وتقتات على الأطعمة التي نأكلها، ما يعني أنّ العلاقة بين هذه الجراثيم والأمعاء ذات فوائد ومصالح متبادلة. فالجراثيم الحميدة تلعب دور الحارس للأمعاء، فتسمح بدخول العناصر المغذية المرغوب فيها إلى داخل الأمعاء، وتُوصد الباب في وجه الفيروسات الخطيرة والجراثيم القاتلة. قد تبدو هذه المهمة بسيطة وسهلة، لكن إذا عرفنا أن أمعاء الشخص العادي تتلقّى وتعالج أكثر من 60 طناً من الأطعمة في حياته، أدركنا حجم وصعوبة المهمة الملقاة على كاهل هذه الجراثيم. فالأطعمة التي نأكلها لا تنقل إلينا العناصر المغذية فحسب، بل تكون مُحمّلة بالكثير من الرواسب الضارة، والمواد السامة الملوثة التي تقوم الجراثيم الحميدة بمساعدة الحاجز المخاطي، الذي يُغلّف جدران الأمعاء بطردها من الأمعاء. والحقيقة، أنّه من دون هذه الجراثيم لا يمكننا أن نهضم أي طعام. لكن الهضم ليس إلا واحد من الإنجازات الكبيرة التي تحققها هذه الجراثيم، وعلى رأسها دعم وتعزيز وتقوية الجهاز المناعي، ومساعدته في القضاء على المواد الخطيرة المسبّبة للأمراض، تزويدنا بالفيتامينات الضرورية، تنظيم الوزن والأيض عن طريق استخراج الطاقة والوحدات الحرارية من الطعام الذي نأكله. لذلك، عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على صحة جيدة، يجب أن تكون أولوياتنا السهر على توازن البيئة الجرثومية في الأمعاء، فنحن نحتاج إليها بالقدر نفسه لحاجتها إلينا لتعيش وتتكاثر. ويقول البروفيسور جريجور ريد، أستاذ بيولوجيا الجراثيم والمناعة في "جامعة أونتاريو" الكندية، إننا باختصار، نموت من دون هذه الجراثيم الحميدة التي تبدأ في التكاثر في جسم الطفل منذ ولادته، لتظل في أمعائه مدى الحياة، إلا إذا تدخلت عوامل تُهددها وتقضي عليها.

أما أبرز العوامل التي تهدد الجراثيم الحميدة، فهي المضادات الحيوية، وذلك لأن تناولها يقضي على أنواع الجراثيم كافة من دون تمييز. وعندما يتم التخلص من الجراثيم الحميدة، تظهر فرصة أمام الجراثيم الضارة لتتحرك وتبدأ بالاستيطان مكانها. أما مدى الضرر الناتج فيتوقف على قوة المضاد الحيوي المستخدم وتركيبته، ومدى امتصاصه في الجسم وفترة استخدامه. وكانت الدراسات الحديثة قد بيّنت أن تناول جرعة كاملة واحدة من المضادات الحيوية، يمكن أن تقضي على نشاط الجراثيم الحميدة لمدة 16 شهراً. وتُشبّه الدكتورة باتريسيا رايموند، المتخصصة الأميركية في أمراض الجهاز الهضمي، المضادات الحيوية التي تقضي على الحياة الجرثومية داخل الأمعاء، بقنبلة نووية تنفجر في الأمعاء. لكن من المعروف أن تناول المضادات الحيوية يكون في بعض الأحيان الطريقة الوحيدة التي تُنقذنا من عدوى خطيرة أو مُميتة. لذلك يقول الخبراء، إنّه إذا كان لابدّ من تناول المضادات الحيوية، فمن المهم أن نستخدمها بحكمة، وبانتباه ونتبع تعليمات الطبيب، ثمّ نُلحقها باستراتيجيات لإعادة بناء الجراثيم الحميدة، ومنع الأنواع الضارة من السيطرة على البيئة المعوية.

 

التأثيرات السلبية الناتجة عن اختلال التوازن الجرثومي في الأمعاء:

يؤكد العلماء أنّ البيئة الجرثومية غير الصحية التي يمكن أن تُهيمن في الأمعاء نتيجة الخلل الحاصل في التوازن بين الجراثيم الحميدة والضارة، تؤدي إلىزيادة كبيرة في خطر الإصابة بأمراض المعدة والأمعاء. وأبرز هذه الأخيرة مرض الأمعاء الملتهبة، وهو مصطلح يشمل مرض كرون ومرض التهاب القولون التقرحي، وهو واحد من أمراض المناعة الذاتية، يسبب التهابات في الأغلفة الداخلية لجدران الأمعاء، ويُصيب الملايين في العالم. أما أبرز أعراضه فهي آلام البطن والتشنجات، الإسهال، النزيف، فقدان الوزن، فقر الدم. وكان الأطباء في الماضي يكتفون بعلاج أعراض هذا المرض لأنّهم لم يكونوا يعرفون الكثير عنه. أما اليوم، فقد أظهرت الدراسات أن اضطراب التوازن في البيئة الجرثومية في الأمعاء هو الذي يؤدي إلى الإصابة بهذا المرض. وقد دفع ذلك الأطباء إلى اللجوء إلى الـ"بروبايوتيكس" لعلاجه، وقد أحرزوا الكثير من النتائج الإيجابية عندما جمعوا بين العقاقير والـ"بروبايوتيكس" لعلاج المرضى. والواقع أنّ الـ"بروبايوتيكس" لا تستخدم فقط لعلاج الإسهال ومُتلازمة الأمعاء المتهيّجة، فقد امتد استخدامها اليوم لعلاج أمراض، مثل: الـ"أكزيما" والتهاب المفاصل الروماتويدي، إضافةً إلى الوقاية من التهاب المسالك البولية والمهبليّة. ويُعلّق ريد قائلاً: إنّه لا يوجد في الأسواق عقار أو دواء يُمكنه أن يُضاهي الجراثيم في تأثيراتها الإيجابية في الصحة.

 

7 خطوات لمساعدة الجراثيم الحميدة على العيش والنمو والتكاثر:

الحفاظ على صحة الأمعاء والتوازن الجيِّد في بيئتها ليس بالأمر السهل، ولا يمكن أن يتم عن طريق الاكتفاء بتناول أقراص، حتى ولو كانت بالغة الفاعلية مثل الـ"بروبايوتيكس". وتعلق البروفيسورة الأميركية المتخصصة بأمراض الجهاز الهضمي، جرجينا دوناديو، على هذا الموضوع فتقول، إننا إذا كنّا سنتناول الـ"بروبايوتيكس" ثمّ نشرب الكحول وندخّن السجائر ونتبع نظاماً غذائياً سيئاً، فإنّ ذلك لن يُجدي نفعاً فالجهاز الهضمي كل متكامل تتناغم مكوناته مع بعضها بعضاً، والبيئة الجرثومية ليست إلا رأس جبل الثلج فيه. ويقدّم الخبراء نصائح عديدة لتحسين الصحة العامة للأمعاء، أبرزها:

1-    تفادي الوجبات الضخمة: يُستحسن أن نتناول وجبات صغيرة عديدة، مُوزعة على ساعات النهار عوضاً عن التهام وجبة كبيرة مساءً. وتقول المتخصصة الأميركية في علوم التغذية ليزلي بونسي، مديرة مركز التغذية والرياضة في "جامعة بيتسبيرغ" الأميركية، إن حشر كل طعامنا في نهاية النهار يُعرّض الأمعاء للإجهاد، لأنّه يفرض عليها كمية كبيرة من الطعام دفعة واحدة. وإضافة إلى الوجبات الصغيرة، يجب أن نتزوّد بكمية وافرة من الماء والسوائل، للحفاظ على حركة الأمعاء نشيطة.

2-    تفضيل الأطعمة الكاملة على الأطعمة المصنَّعة: يجب أن نُركّز على تناول الخضار، الفواكه، المكسرات البقوليات، وكلما  كان الطعام الذي نضعه في أطباقنا شبيهاً بالأطعمة في الطبيعة، مثل أن نأكل حبة تين مثلاً وليس الجاتوه بالتين، نكون قد خطونا في الاتجاه الصحيح. وتقول المتخصصة الأميركية في التغذية الدكتورة باتريسيا رايموند، إنّ أفضل طريقة للحفاظ على صحة أمعائنا، هي التوقف عن مهاجمتها بالأطعمة المصنَّعة طوال الوقت. وتضيف، إنّ كل ما نأكله يُسهم في التغذية إمّا الجراثيم الحميدة أو الجراثيم الضارة. ولضمان صحة الأمعاء، يجب التركيز على الأطعمة الكاملة، خاصة النباتية منها، فالأمعاء الصحية مبرمجة طبيعياً لتتلقّى الأطعمة الغنية بالماء وبالألياف وبالعناصر المغذية.

وفي المقابل، نجد أنّ الأنظمة الغذائية الغنية بالبروتينات الحيوانية والأطعمة المصنّعة، وخاصة الدقيق الأبيض والسكريات المكررة سريعة الهضم، تُسهم في زيادة عدد الجراثيم الضارة، وربما كان ذلك مرتبطاً بالدور الذي يلعبه الإفراط في هذه الأطعمة، في التسبب باضطراب التوازن القلوي، الحمضي الطبيعي في الجسم. ويُعلق ريد قائلاً، إنّ المشكلة تكمن في أنّ الجهاز الهضمي البشري لم يتغيّر منذ آلاف السنين، لكن نظامنا الغذائي تغيّر بشكل دراماتيكي. فقد كان أسلافنا يأكلون النباتات وجذورها، وهي أطعمة تُسهم في هيمنة البيئة القلوية في الجسم، وفي تكاثر الجراثيم الحميدة في الأمعاء. أما نظامنا الغذائي الحديث، فهو مليء بالأطعمة التي تُسبّب هيمنة البيئة الحمضية في الجسم، مثل: "اللحوم والسكاكر والألبان، إضافةً إلى الملح والدهون ذات النوعيات السيئة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المواد السامة التي تَنتج عن محاولة الأمعاء تحليل الأطعمة المذكورة، تزيد من خطر إصابتنا بالأمراض.

3-    تناول الأطعمة الغنية بالـ"بروبايوتيكس": يجب أن نتناول حصة يومية واحدة على الأقل، من الأطعمة التي تحتوي على الـ"بروبايوتيكس" أو الجراثيم الحميدة الحية. يمكننا تناول أنواع الألبان، أو الكفير (نوع من الحليب المخمر) أو الميزو أو التمبة (بعض مشتقات الصويا)، ويجب أن نحرص على التدقيق بلائحة المحتويات، والتأكد من وجود عبارة "جراثيم حية" فيها.

4-    إدخال الألياف الغذائية في وجباتنا كافة: تؤكد بونسي ضرورة تناول ما بين 25 و38 غراماً من الألياف الغذائية يومياً. فكلما ازدادت كمية الألياف التي نتناولها، تنوعت الحياة الجرثومية في أمعائنا. وتشير بونسي إلى أن أغلبية الناس لا تتناول حتى نصف هذه الكمية من الألياف الغذائية الضرورية.

5-    التخفيف من السكر: يؤدي تناول السكريات إلى هيمنة البيئة الحمضية في الجسم، ويحث الجسم على إنتاج المزيد من الصفراء. ويُشير الخبراء إلى أن بعض أنواع الجراثيم الضارة تقتات على السكر وعلى أحماض الصفراء. وهذا يعني أنّ الإكثار من السكر يؤدي إلى إحداث خلل في التوازن الجرثومي لمصلحة الأنواع الضارة. وتُعلّق بونسي قائلة، إنّه مع كل كمية السكر التي نتناولها هذه الأيام، لا نتعجب من الخلل الحاصل في البيئة الجرثومية.

6-    الاسترخاء: أظهرت دراسة أميركية أجريت في عام 1999، أنّ الضغوط النفسية الشديدة تلعب دوراً رئيسياً في التسبّب بمشكلات المعدة والأمعاء. ويقول العلماء إنّ الضغوط النفسية والتوتر سبب في إلحاق الضرر بالبيئة المعويّة بطريقتين. فالتوتر يُسهم أوّلاً في تراجُع قدرة الجسم وسرعته في شفاء التشققات الصغيرة في جدران الأمعاء الداخلية، فتتسلل الجراثيم عبر هذه التشققات وتستقر في جدران الأمعاء، حيث تسبب الالتهابات. من جهة ثانية، يؤدي التوتر إلى اضطراب الجهاز العصبي نظير السمبثاوي، الذي يتحكم في تقلصات الأمعاء، ما يؤدي بدوره إلى تغيير السرعة التي يتحرك فيها الطعام داخل الجهاز الهضمي. كذلك فإنّ التوتر يؤثر سلباً في الكيمياء الحيوية للجسم على العديد من المستويات، ويُضعف الجهاز المناعي. فكلما ازدادت توتراتنا وضغوطنا النفسية، تراجعت قُدرات أجهزتنا المناعية، ما يمنح الجراثيم الضارّة فرصة للنمو والتاثر.

7-    الحصول على 7 أو 8 ساعات من النوم ليلاً لا يُسهم النوم في تنظيم مستويات هرمونات الجهاز الهضمي التي تطلق الإحساس بالشبع والجوع، بل ويُساعد على دعم وتقوية الجهاز المناعي. وتؤكد بونسي، أنّ الافتقار إلى النوم، حتى لليلة واحدة، يؤثر سلباً في الجهاز المناعي.►

ارسال التعليق

Top