• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأخلاق في خطّ التوازن

عمار كاظم

الأخلاق في خطّ التوازن

من مميزات الأخلاق الإسلامية أنّها أخلاق واقعية تخاطب الإنسان في مشاعره وأحاسيسه، وفي أوضاعه الطبيعية في الحياة، ثم تحاول الارتفاع به إلى الأعلى من موقع إرادته واختياره، فمن ذلك أنّ الناس عندما يختلفون في حياتهم، ويتنازعون ويتقاتلون فيسيء إنسان إلى إنسان بحيث يكون هناك إنسان يسيء، وآخر يُساء إليه، إمّا بكلمة غير مسؤولة، وإمّا بحركة غير مسؤولة كما يضرب إنسان إنساناً، أو يجرحه، أو يشرّده من بلده، أو يعطّل مصالحه، ففي مثل هذه الحالة جعل الله للإنسان الحقّ – في الخط الأخلاقي الحقوقي الإسلامي – بأن يرد العدوان بمثله (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة/ 194)، (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (النحل/ 126)، (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى/ 40). فالخط الإسلامي هو أنّ لك أن تأخذ حقّك ممن اعتدى عليك بالعدل، أي بشرط أن لا تتجازوه قيد شعرة، فإذا سبّك إنسان فليس لك أن تضربه، وإذا ضربك فليس لك أن تجرحه، وهكذا إذا اغتابك فليس لك أن تبادره بطريقة عنيفة. ففي القصاص لو قتل إنسان إنساناً، فإنّ القرآن يحدّد الموقف في ذلك في قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء/ 33)، فإذا أردت أن تقتل أُقتل قاتل ولدك أو قاتل أخيك، وليس لك أن تقتل أباه أو عمّه أو ولده أو مَن يحيط به، بل ليس لك أن تضرب القاتل ولا أن تجرحه، وليس لك أن تمثّل به. وهذا ما طبقه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) على نفسه، فعندما ضربه (ابن ملجم) جمع الإمام (ع) أهل بيته وعائلته وبني عبدالمطلب وتحدّث معهم في الخطوط العامة، ثمّ تحدّث بعد ذلك في القضية الخاصّة، قال لهم فيما روي عنه: (يا بني عبدالمطلب لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قُتِلَ أمير المؤمنين قُتِلَ أمير المؤمنين ألا لا يقتلن بي إلّا قاتلي، أُنظروا إذ أنا متُّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، ولا يمثّل بالرجل. فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول: "إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور"). لا تقطعوا يديه ورجليه أو تشوهوا صورته، بل ليس لكم أن تبصقوا بوجهه، ليس لكم أن تشتموه، وليس لكم أن تذلّوه، أو أن تجيعوه، فهذه ليست من الحقوق التي جعلها الله لكم، إنما جعل أن تقتلوه فقط بالحقّ. وقد مارس أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) هذا الأمر في حادثة أُخرى، حيث كان جالساً مع أصحابه وهو يومئذ أمير المؤمنين أي (الخليفة)، فمرّت امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فالتفت إليهم الإمام عليّ (ع) معلماً وموجهاً، لم يتحدّث معهم بأسلوب عنيف، قال لهم "إنّ أبصار هذه الفحول طوامح، وإنّ ذلك سببُ هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنّما هي امرأة كامرأته" وسكت الإمام. وكان هناك شخص من الخوارج الذين كفّروا عليّاً (ع) لقبوله بالتحكيم قد أعجب بكلام الإمام، ولكنه يعتقد بأنّ الإمام كافر، فقال: "قاتله الله كافراً ما أفقهه!!" يعني كم يفهم هذا الكافر قاتله الله، فتصوّر أنّ خليفةً وبيده السلطة وأصحابه حوله، وهذا الخارجي يشتمه وهو بمفرده، ماذا يكون الموقف؟ لقد وثب إليه القوم ليقتلوه، فأومأ إليهم أمير المؤمنين وقال: "رويداً إنّما هو سبٌّ بسبٍّ أو عفو عن ذنب" إنّ الرجل سبّني، فليس ردّ فعل السب هو القتل (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) فإمّا أن أسبّه لآخذ حقِّي، وإمّا أن أترك ذلك فأعفو عنه. هذا هو الخط الإسلامي الواقعي وهو أن يكون لك الحقّ ولكن بعدلٍ، لأنّك عندما تمنع إنساناً من أن يثأر لنفسه، فإنّك تخلق مشكلة اجتماعية لأنّ المسألة عند ذلك سوف تتحوّل إلى عقدة نفسية تتفجّر بأشياء أُخرى، لأنّ طبيعة ثأر الإنسان لذاته هي طبيعة إنسانية ذاتية يتحرّك نحوها الإنسان بشكل طبيعي، ولكنّ الله سبحانه وتعالى بعد أن أعطاك هذا الحقّ قال لك إنّك صاحب حقّ الآن، ولكن إذا عفوت عن هذا الإنسان وأنت قادر أن تقتص منه فإنّ الله يعطيك ثوابه وأجره، وإنّ ذلك يمكن أن يمثل وسيلة هي الأقرب في خط الانضباط في خط الله والالتزام بمواقع حجة الله ورضاه، ولذلك قال (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (البقرة/ 237). وفي آية أُخرى يريد الله لك أن تتخلّق بأخلاقه. فقد أعطاك القدرة على أخذ حقّك وقال لك اعفُ وهو القادر على أن يأخذ حقّه منك ومن كلّ العاصين وقد عفا عنك (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) (النساء/ 149). فالله هو العفوّ القدير، فكن أنت العفوّ من موقع القدرة، ففي الحديث "تخلّقوا بأخلاق الله". وهكذا ركّز الله سبحانه وتعالى الأخلاق الإسلامية على خطّ التوازن، فلا يعني كونك صاحب حقّ أن تأخذ بحقّك كيفما تشاء، فالله أراد لك أن تعفو عمّن أساء إليك، هذا في القرآن الكريم. أمّا في السنّة الشريف، فهناك حديث يقول: "ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة، العفو عمّن ظلمك، وأن تصل مَن قطعك، والإحسان إلى مَن أساء إليك، وإعطاء مَن حرمك". وهذه الخصال تمثل عمق الأخلاق الإسلامية، فإنّك إذا كنت تعطي مَن أعطاك، فهذه مبادلة، أو تصل من وصلك فهذه أيضاً مبادلة وعملية تجارية وليست أخلاقاً، إنّ الأخلاق تتمثل وتتجلّى عندما يكون للطرف الثاني حقّ عليك بل يكون ضدّ الحقّ، وهذا الذي عبّر عنه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) في دعاء (مكارم الأخلاق) "اللّهمّ وسدِّدني لأن أعارض مَن غشّني بالنصح، وأُجزي مَن هجرني بالبرّ، وأُثيب مَن حرمني بالبذل، وأُكافي مَن قاطعني بالصِّلة، وأُخالف مَن اغتابني إلى حُسن الذِّكر".

ارسال التعليق

Top