• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الاتعاظ بالعبر في القرآن

أسرة البلاغ

الاتعاظ بالعبر في القرآن

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ) (آل عمران/ 13).

إنّ المتأمّل في أحداث زمانه وما يحيط به من سُنن يرى بعين البصيرة ما تزخر به صروف الحياة من دروسٍ وعِبَر، وهو بذلك يزيد إلى عمره أعمار الآخرين وإلى ثقافته ثقافتهم وإلى تجاربه تجاربهم، فيكون كمن عاش برصيدٍ من الوعي والغنى والقناعة يمكّنه من مواجهة التحديات مهما قست والابتلاءات مهما اشتدّت وقست، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين (ع) بقوله: "مَن تبيّنت له الحكمة عرف العبرة، ومَن عرف العبرة فكأنّما كان في الأوّلين".

 

سبل الاعتبار:

1- التأمّل: فلا يكون مغمض العينين فيما يجري حوله كمن يسير في جنازةٍ ولا يستحضر أهوال الموت أو يستمع إلى موعظةٍ فلا يجريها على نفسه فيحاسبها على أعمالها، فقد قال عليّ (ع): "مَن تأمّل اعتبر، مَن اعتبر حذر".

2- التفكّر: أي إعمال العقل في صروف الحياة وربط الأسباب بمسبَّباتها والنتائج بمقدِّماتها بطريقة علمية دينية، فعن الإمام عليّ (ع): "رحم الله امرءاً تفكّر فاعتبر، واعتبر فأبصر".

وعنه (ع): "أفضل العقل الاعتبار، وأفضل الحزم الاستظهار، وأكبر الحمق الاغترار".

وعلى العكس من ذلك فمن لم يُعمل عقله ورضي بجهله حُرم بركات الاعتبار، كما ورد عن أمير المؤمنين (ع): "مَن جهل قلّ اعتباره".

3- الاستبصار: أي التبصّر لعواقب الأمور وتبعاتها ومختلف الآثار والنتائج المترتّبة عليها، فقد ورد عن الإمام عليّ (ع): "بالاستبصار يحصل الاعتبار".

4- الخوف من الله: قال تعالى: (إنّ في ذلِكَ لَعِبْرةً لِمَنْ يَخْشَى) (النازعات/ 26)، فالخوف من الله يُصوّب طبيعة العلاقة بين العبد وربّه، وبالتالي فإنّ هذه العلاقة تصحّح مسار الإنسان وتجعله دائماً على النهج القويم.

5- العلم: فالعلم سبيل أهل النهى للاعتبار، لأنّ العلم ما لم يقترن بالتعقّل والتدبّر يصبح حجاباً على قلب صاحبه، فعن عليّ (ع): "كفى معتبراً لأولي النهى ما عرفوا".

6- الإسلام: عن عليّ (ع) في صفة الإسلام: "فجعله... آية لمن توسّم، وتبصرة لمن عزم، وعبرة لمن اتعظ".

 

الاعتبار بالقرآن الكريم:

عن الإمام عليّ (ع) إنّه مرّ على المدائن فلما رأى آثار كسرى وقرب خرابها، قال رجل ممّن معه:

جرَتِ الرياح على رسوم ديارهم        فكأنّهم كانوا على ميعادِ

فقال (ع) أفلا قلت: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) (الدخان/ 25-29).

عن الإمام عليّ (ع): "لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل... يصف العبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظة ولا يتّعظ".

 

ثمرة الاعتبار:

1- عدم الوقوع في المعصية: ويُشبّه رسول الله (ص) المعتبر بتشبيه غاية في الروعة إذ يقول: "المعتبر في الدنيا عيشه فيها كعيش النائم يراها ولا يمسها، وهو يزيل عن قلبه ونفسه – باستقباحه معاملة المغرورين بها – ما يورثه الحساب والعقاب". فيبتعد باعتباره عن كلّ ما يُصعّب وقوفه بين يدي الله حتى تحسبه لا يعصي كما ورد عن الإمام عليّ (ع): "الاعتبار يثمر العصمة". وعنه (ع): "اعتبر تزدجر".

بل كأنّما الذي لا يزدجر لم يعتبر أصلاً، فعن الإمام عليّ (ع): "لا فكر لمن لا اعتبار له، لا اعتبار لمن لا ازدجار له".

2- قلّة الخطأ: فيعتبر من أخطاء الآخرين وزلاتهم ما يحجزه عن تقحّم الأخطاء كما يقول عليّ (ع): "مَن كثر اعتباره قلّ عثاره".

3- العلم اليقين: لأنّ المعتبر يرى حقائق الأمور ونتائج المواقف المختلفة التي تصدر عن أنواع البشر فتورثه علماً ومعرفةً، فعن عليّ (ع): "مَن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم".

4- الوعي والبصيرة: وهما من أغنى ما يعطيه الاعتبار للإنسان، وأيّ فائدةٍ أرقى من أن يمتلك المرء بصيرةً ووعياً يواجه بهما تحدّيات الأيّام؟ فعن عليّ (ع): "دوام الاعتبار يؤدّي إلى الاستبصار، ويثمر الازدجار". وعنه (ص): "في كلّ اعتبار استبصار".

5- استبانة الرأي السليم: فالمعتبر بحوادث الأيام يقف على الموقف السليم الذي ينبغي له اتباعه فقد ورد عن عليّ (ع): "مَن اعتبر بعقله استبان". وعنه (ع): "مَن اعتبر الأمور وقف على مصادقها". وبنفس المعنى ما ورد عنه (ع): "الاعتبار يقود إلى الرشاد".

6- القناعة: لأنّ الاعتبار يُظهر العواقب الوخيمة التي يقدم عليها مَن لا يعتبر في الحياة، ولذا يقول عليّ (ع): "اعتبر تقتنع".

7- الحذر والتنبُّه: فلا ينجرف المعتبر مع الرأي السائد وما يفعله الآخرون ولا يخوض مع الخائضين، بل يبقى يقظاً لما يدور حوله، كما عبّر أمير المؤمنين (ع): "مَن اعتبر بالغير لم يثق بمسالمة الزمن".

8- عدم الطمع: فيرى المعتبر هلاك من لم يعتبر وقاده طمعه إلى الخسران، فعن عليّ (ع): "مَن اعتبر بغِيَر الدنيا قلت منه الأطماع".

9- التقوى: وهي خلاصة الاعتبار، فما أروع قول عليّ (ع): "ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم، إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن تقحّم الشبهات".

ارسال التعليق

Top