أسرة
بحث الترادف هو أحد المباحث اللّغوية المهمة في فهم القرآن الكريم وتفسيره..
إنّ إحدى معاني الترادف في اللّغة هو (التتابع).. ويبحث علماء اللّغة علاقة اللفظ بالمعنى، لاكتشاف المعاني من خلال الألفاظ الموضوعة لها..
ومن هذه المباحث، نجد مبحث (الترادف) و(الاشتراك) المهتمّين باكتشاف معاني الألفاظ..
والترادف كما يعرِّفه اللّغويون هو "ترادف الكلمتين: أن تكونا بمعنى واحد وكذلك ترادف الكلمات"(1).
مثل السيف، الحسام، المهنّد، الصّارم... إلخ.
وعُرِّف الترادف في الاصطلاح بأنّه: "اشتراك الألفاظ المتعدِّدة في معنى واحد"(2).
من الواضح لدينا أنّ المشكلة الأساسية في الفقه والفكر الإسلامي المستفاد من القرآن الكريم هي مشكلة (التفسير): تفسير القرآن.. فنصّ القرآن لا نقاش فيه ولا جدال، فإنّه محفوظ ومصون من التحريف.. من الزيادة والنقصان، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/ 9).
إنّ المرتكز الأساس لتفسير القرآن وتأويله هو فهم معاني الألفاظ.
المنطلق في التفسير هو تفسير مفردات ألفاظ القرآن.. فيجب أن نفهم معاني الألفاظ لنفهم دلالات النص بجمله ومعانيه المركّبة.. وأنّ فهم الألفاظ يتوقف عليه فهم الأحكام والتشريعات ومفردات العقيدة، ومفاهيم القرآن المتعدِّدة.
ولأهميّة هذا الموضوع، قام العلماء المختصون وأئمة التفسير بوضع تفاسير خاصة بمفردات الألفاظ، يرجع إليها في فهم معاني الألفاظ الغامضة المعنى، مثل: الاستواء، التدلِّي، الكلالة، القُرء، المباهلة، واللّّمم... إلخ.
ومن المباحث التفسيريّة المهمة هو تفسير المترادفات.. وفي مجال بحث الترادف.. فإنّه فريقاً من أئمة اللّغة ينفون وجود المرادف اللغوي المساوي.. كما عُرِّف آنفاً بأنّه "اشتراك الألفاظ المتعدِّدة في معنى واحد".
إنّ الحقيقة التحليلية للألفاظ تُظهِر أن ليس في اللغة العربية لفظان أو أكثر لها معنى واحد دون فارق بينهما..
وإلى ذلك يشير أساطين العربية مثل الراغب الأصفهاني الذي عبّر عن ذلك بقوله: "وأتبع هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ننسأ في الأجل، بكتابٍ يُنبئ عن تحقيق الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، وما بينها من الفروق الغامضة، فبذلك يعرف اختصاص كل خبر بلفظ من الألفاظ المترادفة دون غيره من أخواته، نحو ذكره القلب مرّة والفؤاد مرّة والصدر مرّة. ونحو ذكره تعالى في عقب قصّة: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النحل/ 79)، وفي أخرى: (لقومٍ يَتَفكّرونَ)، وفي أخرى: (لِقوم يَعْلَمَونَ)، وفي أخرى: (لِقُومٍ يَفقَهُونَ)، وفي أخرى: (لأُولي الأبْصار)، وفي أخرى: (لِذِي حِجْر)، وفي أخرى: (لأُولي النُّهى)، ونحو ذلك ممّا يعده من لا يُحقّ الحقّ ويُبطل الباطل أنّه باب واحد، فيُقدر أنّه إذا فسّر الحمد لله بقوله الشكر لله، ولا ريب فيه بلا شك فيه، فقد فسّر القرآن ووفّاه التِّبيان"(3).
ومثل الراغب الأصفهاني في هذه النظرية أبو علي الفارسي، وهو من أساطين اللغة، قال: "كنتُ في مجلس سيف الدولة يجلس بالحضرة جماعة من أهل اللغة، ومنهم ابن خالويه، فقال ابن خالويه: أحفظ للسّيف خمسين إسماً، فتبسّم أبو علي، وقال: ما أحفظ له إلا إسماً واحداً، وهو السيف، قال ابن خالويه: فأين المهنّد والصارم، وكذا وكذا، فقال أبو عليّ: هذه صفات"(4).
وإذا تحقّق لنا أنّ الألفاظ التي نُسمِّيها بالمترادفات لا تكون مساوية بعضها لبعضها في المعنى، ولا معبِّرة تمام التعبير عن المفردة القرآنية الأخرى.. فإنّنا بتفسير المفردة بمفردة مرادفة أخرى لا نكشف عن تمام المقصود القرآني..
ولنأخذ أمثلة من التفسير القاصر عن بيان معنى المفردة القرآنية بالإعتماد على نظريّة التساوي بين معاني الألفاظ في نظرية الترادف، كما ذكرها الراغب الأصفهاني.. فهي:
"الرّيب: وفُسِّرت كلمة ريب عند الكثير من المفسِّرين بـ(الشك).. في حين أنّ كلمة (الشكّ) لا تُساوي كلمة (الرّيب) في معناها..
قال الراغب الأصفهاني: فالرّيب: تحصيل القلق وإفادة الاضطراب، والشك: وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا ترجح أحدهما على الآخر، فتقع في الاضطراب والحيرة. فاستعمال الريب في الشك مجاز من إطلاق اسم المسبِّب وإرادة السبب.
الإشفاق: الشّفق: اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس. قال تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) (الإنشقاق/ 16)، والإشفاق: عناية مختلطة بخوف؛ لأنّ المُشْفِق يحبّ المُشفَق عليه ويخاف ما يلحقه، قال تعالى: (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) (الأنبياء/ 49)، فإذا عُدِّي بـ(عن)، فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عُدِّي بـ(في) فمعنى العناية في أظهر. قال تعالى: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) (الطور/ 26)، (مُشْفِقُونَ مِنْها) (الشورى/ 18)، (مُشفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا) (الشورى/ 22)، (أأشفَقْتُم أن تُقَدِّموا) (المجادلة/ 13).
الخشية: الخشية: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها في قوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28).
الخوف: الخوف: توقّع مكروه عن أمارة مظنونة، أو معلومة، كما أنّ الرجاء والطمع توقّع محبوب عن أمارة مظنونة، أو معلومة، ويُضاد الخوف: الأمن، ويُستعمل ذلك في الأمور الدنيوية والأخروية. قال تعالى: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) (الإسراء/ 57)، وقال: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) (الأنعام/ 81).
وفُسِّرت كلمة (مسغبة) بـ(المجاعة)، في حين كلمة مسغبة مأخذوة من السغب وهو الجوع مع التعب، وقد قيل في العطش مع التعب".
ومن خلال هذه النماذج نستطيع أن نفهم قصور التفسير الذي يعتمد (المرادف) وفق هذه النظرية دون أن يذكر الفارق بين اللّفظين، أو يشرح المفردة القرآنية شرحاً مُعبِّراً عن المعنى المُراد للقرآن.. فالقرآن عندما استعمل هذا اللّفظ دون اللّفظ الآخر، إنّما لقدرة المستعمل على التعبير عن مُراده، دون المرادف المستعمل في التفسير، (فالمترادفان) يشتركان في بعض المعنى ويختلفان في بعض آخر، ولا يتساويان في المعنى.
- السياق وبيان المعنى:
ومن القرائن المساعدة على فهم المعنى المُراد من اللّفظ المشترك وتمييزه عن المعاني المحتملة الأخرى هو السِّياق، الذي يتضمّن اللّفظ المشترك..
ويُعرِّفنا السيد محمّد باقر الصدر بالسياق بقوله: "هو كلّ ما يكشف اللّفظ الذي يزيد فهمه من دوالّ أخرى سواء كانت لفظيّة كالكلمات التي تُشكِّل مع اللّفظ الذي يزيد فهمه كلاماً واحداً مترابطاً، أو حاليّة كالظروف التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالة في الموضوع"(5).
وإذاً، فالسِّياق هو أحد وسائل الفهم والتفسير واكتشاف المعاني والدلالات وتمييز المعنى المقصود عن غيره من المعاني المشتركة معه في اللّفظ المشترك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الهوامش:
(1) المعجم الوسيط.
(2) محمّدرضا المظفّر، أصول الفقه، ج1، باب الترادف والتباين.
(3) معجم مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني.
(4) يراجع د. صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة، ص296، ط9.
(5) محمّدباقر الصدر، دروس في علم الأصول، ج1، مبحث حجِّيّة الظّهور.
ارسال التعليق