• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

رمضان والدرس التوحيدي

د. أسعد السحمراني

رمضان والدرس التوحيدي
يحمل شهر رمضان المبارك في كل عام إلى المؤمنين عبراً وذكريات، تحثهم على إعتبار هذا الشهر موسماً للطاعة والتوبة، موقفاً لمحاسبة الذات، واستلهاماً لرسالة الهدى التي بعث بها محمد (ص) رحمة للعالمين. وشهر الصوم، ليس كما يفعل الكثيرون في هذه الأيام، جوع وعطش في النهار، وتبذير وتفنّن في تلبية الرغائب ليلا خاصة في موضوع الطعام وملحقاته. فترى الناس مشغولين بالحسابات الإقتصادية لشهر رمضان، ومتزوّدين من كل العام مادياً للصرف غير المقنّن في رمضان، وكأني ببعض الناس يجعل من موسم الطاعة موسماً لتلبية رغبات المعدة، دونما إدراك صحيح، وفهم سليم لفضائل الصيام. إنّ صوم رمضان مناسبة في عمر الإنسان يتكرّر كل عام تحضه على الإكثار من عمل البر والإعتكاف بعيداً عن صخب المتعلقين بالدنيا ليكون دعاء المؤمن "سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير". والصيام سبيل لتعليم الإنسان كيفية الإبتعاد عن المعاصي، وإستبدالها بالطاعات، والأنابة إلى الله ربّ العالمين، وذلك يساعد الفرد على إقفال كل مسالك الشيطان إلى نفسه، فيرتاح من وساوسه، ويمتلئ قلبه بنور الإيمان والتقوى، فتطمئن نفسه وتستقيم أفعاله. ولذلك عدّ الصوم من أهم علاجات القلب والروح والبدن، ففيه حفظ لصحة البدن، وتخليص له من الفضلات، ورياضة له على التحمل والصبر. وفيه تزكية للنفس، وتعويد لها على الإنضباط المنطلق من الذات، حيث يسمو سلوك المؤمن الصائم حقا عن الشهوات إرادياً، لتتأجج فيه الحالة الروحانية، وفي ذلك تحقيق لإنسانيته في أعلى معانيها، معاني العبودية لله الواحد المترافقة مع التحرر من كل قيد ومنزلق، الملتزمة بأحكام الله وأوامره. إنّ من خصائص سلوك الصائم أن ينصرف على كل ما يحيط به من عرض الدنيا، ليتجمع قواه وقدراته في طاعة الله، ولا يكون همّه سوى مرضاته سبحانه وتعالى. فشهر رمضان هو موسم لمحاسبة النفس، والإبتعاد عن الهوى، وسعي للفهم والإدراك الصحيح لآيات الله البينات، ليأخذ الإنسان منه زادا للعالم كله. ولهذا اقترن نزول القرآن الكريم بشهر رمضان، وبليلة مباركة من هذا الشهر وكأنّ فريضة الصوم التي هي سبيل للتقوى والصلاح قد أراد لها الله تعالى ان تقترن مع البعثة الرسالية للنبي محمد (ص)، فيكون في رمضان نزول القرآن الكريم من أجل هداية البشر وخيرهم وسعادتهم. فشهر رمضان قد أنزل فيه القرآن الكريم هادياً للناس، ومرشداً لهم إلى الصراط المستقيم، وفيه آيات بيّنات تحمل الأحكام والمواعظ، وتميّز الحلال عن الحرام، حتى صحت تسمية هذا البيان والهدي بالفرقان أي الحد الفاصل بين الحق والباطل، وبين السمو الروحي والتعلق بالمادة، وبين العبودية لله وعبادة غير الله. ولعل المرء محتاج، حتى تتزكى نفسه ويصح صيامه، إلى الإرتفاع إلى مستوى الهدي القرآني الذي خاطب العقل بالإعجاز الموحى والسنّة الشريفة، وفيهما بشكل أساسي: التوحيد لله في العقيدة والعبادة، والوحدة في حفظ الجماعة والمجتمع. فدعوة الإسلام قائمة على هاتين القاعدتين الهامتين، ولكن مثل هذا التوجه لا يكون إلا للمؤمن الذي يقرأ القرآن ويتفقّه فيه ويعمل به. والوحدة الإجتماعية التي اقامها الإسلام على قاعدة التآخي في الله شكلت الركن الرئيسي في مجتمع المدينة الأوّل حيث تآخى المهاجرون والأنصار في الله أخوين أخوين. وشهر رمضان يساهم كل عام في هذا الاعداد الوحدوي حيث يشترك الناس جميعاً في أداء فريضة واحدة في وقت واحد، يمسكون عن الطعام والشراب والجماع في وقت واحد، ويباشرونهم في وقت واحد، يستقبلون أوّل أيام الصيام في وقت واحد، ويحتفلون بعيد الفطر في وقت واحد، والإعداد الوحدوي يتميّز في شهر رمضان في تلك الوحدة العائلية التي لا تحصل في غير رمضان حيث يجتمع أفراد الأسرة جميعاً حول مائدة واحدة يتناولون طعام الإفطار، في حين أن مثل هذا الإجتماع لا يتحقق في غير رمضان.

ارسال التعليق

Top