• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحواس الذكية

أنس شكشك

الحواس الذكية
 ◄يولد كلّ بني الإنسان أصحاء ولهم نفس الدماغ المعقد، ونفس الحواس التي يرون من خلالها العالم ويسمعون الأصوات ويلمسون الأشياء والأجسام ويجدون متعة في الروائح ومذاق الطعام، ومع ذلك فإنّ الطرق التي ينفعل بها أفراد مختلفون بنفس الأشياء أو الحوادث أو ما شبه ذلك تكن مختلفة؛ فالناس يختلفون في قدرتهم على الفهم والتعلم وفي قوة ذاكرتهم وسديد تفكيرهم وإمكاناتهم الإبداعية الخلاقة.

ونتيجة لكلّ هذه الاختلافات تتولد عن الناس آراء مختلفة عن العالم الذي يعيشون فيه، فمثلاً يكون الرعد عند بعض الناس ظاهرة معقدة لقوى طبيعية وجوية، ويكون بالنسبة للآخرين رسالة من عند الآلهة، بينما يذكر الرعد قلة من الناس بمقطوعة تلتهب حماساً من موسيقا. وكذلك عندما ينظر الناس إلى كهف، فإنّ المفهوم الذي ينجم عن ذلك يختلف باختلاف المجموعات الإنسانية؛ فقد يعتبره بعضهم مكاناً للسكن، وآخرون ملاذاً تقام فيه الطقوس والشعائر الدينية، وآخرون غيرهم موطناً خطراً وغموضاً أو رمزاً جنسياً، أو كما في جمهورية أفلاطون تشبيهاً مجازياً للحقيقة الواقعة.

ويتميز بعض الناس بحاسة قوية جدّاً كحدة البصر وشدة حساسية براعم الذوق، وقد لوحظ أنّ الذكور يستطيعون بشكل أفضل من الإناث التمييز باللمس بين مختلف قطع النقود المعدنية. وقد قيل في تفسير ذلك أنّ الذكور يحملون قطع النقود المعدنية في جيوبهم ولذلك تتدرب حاسة اللمس عندهم على التعرف على تلك القطع، واختيار اللازم منها دون حاجة النظر، أما الإناث فيحملن قطع النقود المعدنية في حافظة نقود فيميزن القطع النقدية المناسبة بالنظر لا باللمس.

وبنو الإنسان يسكنون عالماً مليئاً بالأجسام والأشياء والحوادث التي يتعيّن عليهم فهمها والتعرف عليها وتصنيفها والحكم عليها، ومع ذلك يميلون إلى اعتبار قدراتهم الحسية أقل قدر من حواس الأنواع الحيوانية المتعددة. وصحيح أنّ الصقور ترى لأبعد مما يراه الإنسان، والكلاب تشم الرائحة بشكل أحد منه، إلا أنّ أعضاء الحس عند الإنسان بشكل عام تقوم بعمل ممتاز في تنبيهنا لما يحدث حولنا. فالإنسان يستطيع رؤية ضوء شمعة من مسافة بعيدة في ليلة ظلماء صافية، ويمكنه أن يشم قطرة عطر منتشرة في بيت فسيح، ويسمع دقة ساعة جيب ويميزها، ويتذوق حلاوة السكر أو الحامض والمالح وغيرها دون أن يتناولها لمجرد ذكرها.

ومنذ القديم عرف بنو الإنسان بأنّ لديهم خمس حواس هي البصر والسمع والشم والذوق واللمس، ولكنهم مع ذلك يملكون حواس أخرى منها حاسة وعي الجاذبية الأرضية والتوازن التي تعتمد على خلايا حسية في أعماق الأذن الداخلية، وبالإضافة لحاسة اللمس توجد في الجلد ثلاث حواس أخرى على الأقل هي حاسة الألم والحرارة والبرودة. فالحواس الإنسانية لا توفر سوى دلالات قليلة في عالم الأجسام، ومع ذلك لا نجد الناس يتصرفون في ضوء هذا القليل من المعلومات الحسية كما أنّ الناس لا يرون دوماً بالعيون، إذ يرون رؤى واضحة ومعقدة في الأحلام والهلوسات عن طريق تبلور الصور في الدماغ دون واسطة العيون والأعصاب.

وهكذا يتضح أنّ بني الإنسان لا يمكنهم اعتبار الحواس بأنها دوماً مرآة دقيقة تعكس صورة العالم. ويزيد الوضع تعقيداً أنّ كلّ إنسان يخلط مع الأحداث الحسية خبراته الخاصة وشخصيته واحتياجاته وحوافزه وتوقعاته الثقافية. ومن الواضح أنّ الطرق المتعددة التي يفسر بها البشر الانطباعات التي تنهال عليهم من حواسهم تتطابق وتنسجم مع توقعاتهم الثقافية وشخصيات الأفراد الخاصة.

ويكوّن بنو الإنسان فكرة عن الأشياء من خلال المعلومات التي يحصلون عليها من حواسهم، ولكن هذه المعلومات تتأثر تأثراً عميقاً بما يعرفونه أو يظنون أنّهم يعرفونه عن تلك الأشياء. وهناك بون شاسع بين العالم الحقيقي كما تحدده وتقيسه أجهزة علم الطبيعة والعالم كما يعرفه الناس باستخدام حواسهم المجردة في فهمه. وهذا الفرق الهائل يستند إلى ثلاث حقائق واقعية واضحة:

الأولى: أنّه يمكن للحوادث أن تؤثر في الحواس دون أن تُلاحظ لسبب أو لآخر.

والثانية: أنّ حوادث عديدة تقع خارج نطاق الحواس المجردة.

والثالثة: أنّ الناس لا يعقلون بشكل كامل الحادثة التي تتجلى للحواس وبذلك يتولد خداع بصري.

ويميز علماء النفس بين الإحساس والإدراك؛ فالأحاسيس تكون نسبياً بسيطة، أما المدركات فهي نتاج ترابط وتداعٍ معقد بين أحاسيس عديدة، فالإدراك عملية نفسية ينظم بها الإنسان ويفسر الأدلة التي جمعتها الحواس عن البيئة. ويعتقد كثيرون بأنّ الإدراك يتم تلقائياً دون جهد أو تفكير متعمد إلا أنّ التجارب أثبتت أنّ المدركات يستغرق تكوُّنها وقتاً ولو قصيراً، أما بالنسبة للأمور الأكثر تعقيداً التي تكون فيها الأحاسيس غامضة أو غير كاملة فإنّ المدركات تحتاج إلى وقت طويل حتى تتشكّل.

والملفت للنظر بشأن الإدراك هو أنّ الناس بعد أن ينظموا المعلومات التي يحصلون عليها عن طريق الحواس بالسرعة التي يستطيعونها يستمرون في إعادة تفسيرها في ضوء أيّة معلومات جديدة تتوفر لهم، ويستمر الناس في إدراكهم للعالم كنظام ثابت مرتب على الرغم من أنّ المعلومات التي تجمعها الحواس عنه تدل على أنّه متغير وغير منظم. وهذا يعني أنّ العقل يهمل الدليل الواضح الذي تقدمه الحواس لأنّ التجربة والخبرة السابقة قد تركت فيه انطباعاً معاكساً.

وبالرغم من أنّ معظم الناس يميلون لتنظيم ما يصل إلى أدمغتهم من مؤثرات بصرية في عدد محدود من طرق متشابهة فإنّ بعض الإدراك يعتمد إلى حد كبير على اختلاف المدركين في ميزاتهم الفردية.

وممّا يؤثر في الإدراك تأثيراً هاماً واضحاً أنّ النّاس يرون ما يتوقّعون رؤيته، وهذه التوقّعات نتيجة مباشرة لخبراتهم السابقة ومستوى تعليمهم وحوافزهم. ولا تحدث اختلافات واضحة في الإدراك بين الأفراد المختلفين فقط، بل أيضاً عند الشخص نفسه عندما يحدث الإدراك عنده في أوقات مختلفة. والاعتقاد الشائع أنّ الناس يدركون العالم بشكل مختلف في كلّ طور من أطوار حياتهم فكلما زاد الأطفال عمراً ونضجاً زاد اعتمادهم على الثوابت الإدراكية، ومع ازدياد التعلم والخبرة في تكوين المدركات يعتدل التفكير ويستقيم.►

 

المصدر: كتاب التفكير/ خصائصه وميزاته

ارسال التعليق

Top