• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الربا في القرض كما حرمه القرآن

مركز نون للتأليف والترجمة

الربا في القرض كما حرمه القرآن

يقول الله تعالى في محكم كتابه:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (آل عمران/ 130-131).

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة/ 175).

 

تمهيد:

إنّ الربا من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب في الشريعة المحمّدية. ومن يتدبّر في الآيات والروايات يجد أنّه قد شدّد القرآن الكريم في تحريم الربا ما لم يُشدّد في أيّ ذنب من الذنوب "ما خلا تولّي أعداء الله"، وهذا ما يستظهره العلامة الطباطبائي في تفسيره.

يقول: ".. وأمّا سائر الكبائر فإنّ القرآن وإن أعلن مخالفتها وشدّد القول فيها، فإنّ لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين، حتى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم وما هو أعظم من ذلك كقتل النفس التي حرّم الله... فجميع ذلك دون الربا...".

وطبعاً عندما تسمع بهذا التشديد والتغليظ بشأن الربا لابدّ لك أن تتساءل: ما السبب في ذلك؟! لماذا يكون الربا أعظم من الزنا، بل حتى الزنا بالمَحرم، وأعظم من القتل؟!

نقول لابدّ أن تعرف أنّ التشديد في شيء أو الدفع نحو شيء في الشريعة ليس أمراً انتقائياً ومن دون خلفيات واقعية قد تُعلم لدينا وقد لا تكون معروفة. هذه الخلفيات تُسمّى ملاكات الأحكام؛ فكلّ حكم له مصلحة ينشأ عنها إن كان وجوبيّاً أو ندبياً استحبابياً، وله مفسدة إن كان تحريمياً أو فيه كراهة.

وعليه فشدّة الحرمة للربا لها خلفيتها التي يمكن إدراكها من خلال الروايات أو الاستنباط والتجربة والتحليل الذي يخضع إلى كليّات الشريعة المقدّسة.

نقول إنّ الكبائر الأخرى كالسرقة والزنا.. تلحق بالفرد وقد تتعدّى لأفراد محدّدين إلا أنّ الربا قد تعمّ بلواه فتصل إلى محق الدِّين وطمس الفطرة الإنسانية ويفسد نظام النوع الإنساني ككلّ، وقد يؤدّي إلى الحروب العالمية كما قد ذكر بعض المفكرين. ولنذكر بعض ما يترتّب على الربا ويلازمه من آثار خطيرة على المجتمع الإنساني وعلى الدِّين.

 

الربا في القرض:

الربا في القرض هو أن أُقرضك مالاً إلى أجل فتُعيده إليّ بشرط الزيادة.

فإذاً هو يفترض إنساناً مستغنياً يُعطي ويقرض وآخر محتاجاً، وصاحب المال يضمن من المستقرِض على أيّ حال ربحاً وفائدة سواء عمل أم لم يعمل وربح المستقرِض أم لم يربح بل حتى لو فَقَد كلّ المال.

فهناك طرف ضامن للفائدة على ماله وطرف محتاج تترتّب الفائدة عليه على كلِّ الأحوال، وكلّما طال أجل القرض تراكمت الفوائد على المدين المحتاج. وطبعاً هذا يترتّب عليه:

أوّلاً: انقسام الناس إلى غنيّ ثريّ، ومعدم فقير. وهذا خلاف العدالة الاجتماعية، فالكلّ له الحقّ بالحياة الكريمة، ولذلك يقول تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (الحشر/ 7).

وهذا يلزم منه:

أ‌)       الربح من غير عمل يُقابله، أي تكون الثروة هي التي تدرّ على أصحابها الأرباح وهم عطّالون بطّالون، يعبثون ويلهون ويلعبون، وفي المقابل يكون الطرف الآخر في جدٍّ وتعب وجهد وضنك، وهذا يزداد يوماً بعد يوم، وتتّسع الهوّة بين الشريحتين.

ب‌) عند اتّساع الشرخ بين أصحاب الأموال وبين شريحة الفقراء تنبعث مشاعر: الحقد، والكراهية، وحبّ الانتقام، والبغض الشديد من الفقراء للأثرياء.

ت‌) هذا يؤدّي إلى الانتقام الفعلي وتتفشّى ظواهر هذا الانتقام بصور مختلفة، من السرقة، والاختلاس، والخيانة، والاحتيال... وقد تصل إلى القتل..

وطبعاً هذا يُساهم في تفشّي الرذيلة والابتعاد عن الفضيلة.

وهذا ما ألمحنا إليه من أنّه قد يكون الربا من الأسباب لحصول الحروب العالمية كما قاله بعض المفكّرين، فإنّ إفساده يعمّ ويتّسع ويكبر.

ثانياً: في البيع والتجارات تكون احتمالات الربح والخسارة، والربح القليل والربح الكثير، كلّها، موجودة وواردة، ويكون التعلّق بالله تعالى ودعاؤه لنيل البركة والتوفيق للأسباب المؤدّية للنموّ والربح موجوداً وفعّالاً، بخلافه في المعاملة الربوية؛ فالاعتماد عند المرابي على الفائدة، ولا حاجة عنده للالتجاء إلى الله والدعاء بنظر المرابي؛ لأنّ الفائدة متحقِّقة على أيّ حال.

ثالثاً: تنتفي العاطفة الإنسانية بين بني البشر؛ لأنّ المرابي همّه تحصيل المال الربويّ أبقيَ الطرف الآخر المسكين على قيد الحياة أم مات، فليس هذا من شأنه، ولا يعني له الأمر شيئاً، لذلك يَنقل التاريخ أنّ الذي كان يعجز في الجاهلية عن الالتزام بمقتضى المعاقدة الربوية كان يضطر إلى أن يدفع لصاحب المال ابنه فيكون عبداً ورقّاً له مقابل الربا المتراكم.

وعليه فأين التوادّ والتراحم وعاطفة الإنسان على أخيه الإنسان، هذا الذي أراده الإسلام أن ينمو ويكبر ويعظم من خلال الصدقات والهبات والهدايا والإقراض بلا مقابل؟

رابعاً: ينتفي الثواب المترتّب على القرض حيث إنّ عليه ثواباً عظيماً أعظم من ثواب الصدقة، فالصدقة بعشرة والقرض كما ورد في الرواية بثمانية عشر، فإنّ الإنسان سيُحرم من هذا الثواب الكبير إذا استبدل القرض الحسن بالقرض الربويّ، وبالتالي سينقطع طريق المعروف...

عن سماعة قال: قلت لأبي عبدالله (ع): إنّي رأيت الله عزّ وجلّ قد ذكر الربا في غير آية وكرّره، فقال (ع): "أوَ تدري لم ذاك؟ قلت: لا. قال (ع): "لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف".

وكذلك الثواب على الإمهال للمقترض، فقد ورد أنّه إذا أمهل صاحب المال المدين كان له بكلِّ يوم يُمهله ويصبر عليه ثواب الصدقة بذلك المال.

هذه بعض اللوازم الشنيعة للربا.

-         وتجدر الإشارة إلى أنّ الربا يكون في القرض ويكون في معاملة البيع، وباختصار شديد لأنّ بحثنا ليس بحثاً فقهياً نقول:

الربا في القرض: هو أن يحصل الاقتراض إلى أجل مع اشتراط الفائدة عليه عند إرجاعه إلى المقرِض، سواء كانت الفائدة عينية أو منفعة أو غير ذلك.

الربا في المعاملة: أي في البيع يُشترط أن يكون الثمن والمثمّن من جنس واحد، وأن يكون ذلك الجنس من المكيل أو الموزون دون المعدود ودون المقدّر بالمتر أو الهكتار "كالقماش والعقار" فإذا كان المبيع والثمن من جنس واحد وكانا من المكيل أو الموزون وكان أحدهما أزيد من الآخر كان البيع ربوياً، دونما إذا كان معدوداً كالبيض "كما في بعض البلدان" فإنّه لا ربا مع الزيادة، وكذلك مع اختلاف الثمن والمثمّن في الجنس ولو مع الزيادة كبيع الحنطة بالأرز.

 

الفرق بين الربا والمضاربة:

الإسلام لم يقفل باب الحلال في جني الأموال، فكما أنّه حرّم الربا فإنّه في المقابل حلّل كثيراً من المعاملات ومنها معاملة المضاربة.

فبعض الناس لا يُفرِّق بين الربا وبين المضاربة بالمال، فالمضاربة أن يكون هناك صاحب مال يضع ماله عند عامل يتّجر ويضارب به، فهو يُقدِّم العمل ويبذل نفسه وصاحب المال يُقدِّم المال، ويُفرّق هذا عن الربا:

أوّلاً في المضاربة يجب تحديد نسبة الربح لصاحب المال أي النسبة المئوية، 20% أو 30% من الربح، بينما في المعاملة الربوية لا يوجد تحديد نسبة للربح، بل تُحدد مقطوعية لصاحب المال يأخذها سواء حصل ربح كثير أم قليل بل حتى لو لم يحصل ربح.

ثانياً: الخسارة في المضاربة تكون على الطرفين "صاحب المال والعامل" بينما في الربا تكون الخسارة على المقترِض العامل بالمال.

فإذاً لكي ننقل المعاملة من الربا الحرام إلى المضاربة الحلال يجب تحديد نسبة الربح، ويكون التباني على أنّ الخسارة على الطرفين معاً.

 

المصدر: كتاب مواعظٌ قرآنيّة/ سلسلة الدروس الثقافية (33)

ارسال التعليق

Top