• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرّحمة.. أداة الخير والعطاء

الرّحمة.. أداة الخير والعطاء

للرّحمة في المفهوم الربّاني بُعدان أساسيّان: بعد عملانيّ وإيجابيّ باعتبارها أداةً لإيصال الخير والعطاء إلى الآخر، والبُعد الثَّاني: عموميّتها، فالله سبحانه يُتيح رحمته لكلِّ المخلوقات، ويشمل بها البشريّة كلَّها، بصرف النّظر عن الجنس واللَّون واللّغة والدّين والإيمان والجغرافيا، ولا يحرم أيّ كائنٍ أو مخلوقٍ من هذه الرّحمة، فالتّعامل الإلهيّ مع خلقه قام ويقوم على الرّحمة، وترد آيات الرّحمة في القرآن الكريم بوصفها قيمةً مطلوبةً لكلِّ المخلوقات والنّاس، وهذا ما يكسبها عموميّتها وشموليّتها (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ).

وبدون الرّحمة، تكاد الحياة تكون جحيماً، أو أمراً مستحيلاً؛ إذ كيف سيكون العالم من دون حنان أمّهات، وبآباء لا يعرفون من الأبوّة غير الإنجاب، ومجتمعات تسودها الأنانيّة والأحقاد والعداوات، ولا تعرف أيّ نوعٍ من علاقات التراحم والتعاون.

وهذا ما يُفسِّر لماذا كانت الرّحمة في القرآن الكريم مقياساً للإيمان، ولماذا وصف الله سبحانه القرآن بأنّه (هُدًى وَرَحْمَة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، ولماذا أرسل رسوله بالإسلام هدى ورحمة للبشريّة جمعاء (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

لذلك، بُنيت قيم الإسلام على الرّحمة والرأفة والشّفقة والتّعاون والتّكافل، وكان الرّسول (ص) قدوةً وأسوةً في تجسيد الرّحمة قولاً وفعلاً حتى مع أعدائه، وبات التّراحم السِّمة الأبرز في المجتمع الإسلاميِّ الأوَّل (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ).

 

آثار الرّحمة

إنّ أساس الدِّين هو تنظيم الرّابطة بين العبد وربِّه من جهة، وبين الإنسان وأخيه الإنسان من جهةٍ ثانية، وقد اعتبر الإسلام أنّ الرّحمة هي السِّمة الأساسيّة لهذه الرّابطة (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ).

إنّ التراحم يصنع الرّحمة، يوجدها، ويؤسّس لها، والرحمة تؤلّف بين القلوب، تزيل الحواجز وتفتح سبل التّعاون والتفاهم. بعض النّاس يفضّلون قيادة العصا والسّيف على قيادة الكلمة والحوار، لكنّ الرّحمة بمنطوق القرآن تبقى الحلّ (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).

ومن عهد الإمام عليّ (ع) إلى واليه على مصر مالك الأشتر: «وأشعر قلبك الرّحمة للرعيّة والمحبّة لهم، ولا تكوننّ عليهم سَبِعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدِّين، أو نظيرٌ لك في الخلق».

إذاً الرّحمة خلقٌ ربّانيّ، والإسلام أوجبها على مستوى القيادة، وعلى مستوى القاعدة وبين النّاس في كلِّ علاقاتهم. والتراحم يبدأ في الأسرة، وفي النّواة الأولى لها (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، وفي العائلة (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).

 

أمور تولّد الرّحمة

وعن السّلوك الرّحمويّ، أكَّدت الأحاديث على تفاصيل يوميّة تولِّد هذه الرّحمة في النّفوس، فقد ورد في الحديث: «إن أردت أن يلين قلبك، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم». من هنا، ربط القرآن بين الإيمان الصّادق والحضّ على إطعام المسكين (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).

 والرّحمة عندما تتأصّل في القلب وترتقي، تتحوَّل حبّاً. وعن الرّسول (ص)، أنّ من الكمالات الربّانيّة التي وهبها الله تعالى للإمام عليّ (ع)، هو حبّه للمساكين، وورد أنّه قال: «يا عليّ، إنّ الله زيّنك بزينةٍ لم يُزيِّن العباد بزينةٍ أحبّ إلى الله منها، زيّنك بالزّهد في الدّنيا... ووهب لك حبّ المساكين».

وفي الحديث: قال أبو الطّفيل: «رأيت عليّاً يدعو اليتامى فيطعمهم العسل، حتى قال بعض أصحابه: لوددت أني كنت يتيماً».

وفي حديثٍ عن الرّسول (ص): «يقول الله تعالى: اطلبوا الفضل من الرّحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم، فإني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم، فإنّي جعلت فيهم سخطي».

ارسال التعليق

Top