• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الشورى في سيرة الرسول (ص)

أسرة البلاغ

الشورى في سيرة الرسول (ص)

◄تشكل السيرة النبوية الصيغة التطبيقية، والمجال العملي للشريعة والقيم التي حملها الرسول إلى الناس في كل حقل من حقول الحياة.. الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، فهو (ص) المبلغ عن الله سبحانه، وهو المطبق للأحكام والمنفّذ لها..

لذا فكل سلوكه شريعة، وكل ما يصدر عنه سنّة تتّبع، سواء القول أو الفعل أو التقرير.. ثبّت القرآن هذا المبدأ بقوله: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر/ 7).

وقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب/ 21).

من خلال الدراسة والتحليل العلمي للسيرة النبوية في كل مجالاتها وأبعادها نجدها ثروة تشريعية، وهدياً سلوكياً للإنسانية على مدى العصور.. ويبرز مبدأ الشورى في حياة الرسول (ص) السياسية والعسكرية والاجتماعية مبدأ أساسياً من مبادئ تنظيم المجتمع والدولة والأسرة والمؤسسات.. وبعد التشاور واستطلاع الآراء يكون القرار لصاحب القرار، الذي يحوّل الشورى إلى قرار وموقف بصلاحياته المخول بها..

إنّ الرسول (ص) هو الإنسان الأكمل برأيه وعلمه ووعيه، وهو المسدد بالوحي.. ومع كلّ ذلك فإنّ الله سبحانه قد ثبّت له مبدأ الشورى، وأمره أن يشاور أصحابه، ليدربهم على هذا المبدأ، وليبعدهم عن روح الاستبداد والتسلط والفردية، وليربي فيهم روح الشعور بالمسؤولية، واحترام الرأي الآخر، والتفاهم مع الآخرين، لصنع القرار المتعلق بالمصير الشخصي أو الجماعي..

ثبّت القرآن هذا المبدأ للرسول الكريم (ص) بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159).

ولقد طبق الرسول (ص) هذا المبدأ في حياته العملية، ليكون هذا التطبيق سنة ومنهجاً في حياة الإنسان المسلم بصورة عامة، وفي مجال السياسة والحقول الاختصاصية بصورة خاصة..

وللمزيد من الاستضاءة بهدي السنّة فلنلتقط من سيرة الرسول (ص) موقفين فعليين يعبران عن احترام الرأي الآخر، والتنازل عن اقتراحه والأخذ برأي الآخرين.. حدث الموقف الأوّل في معركة أُحُد، أمّا الموقف الثاني فقد حدث في معركة الخندق، معركة الأحزاب، لكي تتضح لدينا تفاصيل تلك المواقف فلنستمع إلى تقارير المؤرخين وكتّاب السير، وهم يتحدّثون عن ذلك:

قال اليعقوبي متحدثاً عن المشاورة التي سبقت معركة أُحُد: "وكان رأي رسول الله (ص) ألّا يخرج من المدينة لرؤيا رآها في منامه: أن في سيفه ثلمة، وأن بعيراً يذبح له، وأنّه أدخل يده في درع حصينة، وتأولها محمد (ص) أن نفراً من أصحابه يقتلون، وأن رجلاً من أهل بيته يصاب، وأنّ الدرع المدينة، فأشارت عليه الأنصار بالخروج، فلمّا لبس لباس الحرب ردت إليه الأنصار الأمر، وقالوا: لا نخرج عن المدينة، فقال: الآن وقد لبست لأمتي، والنبي إذا لبس لأمته لا ينزعها حتى يقاتل أو يفتح الله عليه، فخرج وخرج المسلمون وعدتهم ألف رجل حتى صاروا إلى أُحُد، ووافى المشركون فاقتتلوا قتالاً شديداً.."[1].

.. وههكذا يتضح أن رأي رسول الله (ص) هو أن يكون القتال داخل المدينة، لتتشتت قوى العدو، ولتتوفر الحماية لجيشه داخل المدينة وليشترك مَن يستطيع الاشتراك في إرباك جيش العدو من غير المقاتلين.. وعضَّد هذا الرأي برؤيا تأولها بأنّ المدينة ستكون هي الدرع الحصينة التي مدَّ يده فيها.. غير أن بعض أصحابه كان يرى القتال خارج المدينة أفضل من القتال داخلها.. ولحكمة ومصلحة لوحدة المقاتلين استجاب الرسول (ص) لرأيهم، وتنازل عن رأيه، وخسر المسلمون المعركة..

إنّ هذا الموقف النبوي دليل فذ على احترام الرأي الآخر، والأخذ به، وممارسة الشورى ممارسة عملية، لتكون منهجاً للمسلمين في حياتهم الاجتماعية والسياسية والعملية، كما هي درس للأخذ بالرأي الأصوب، وإن قابله رأي الأكثرية..

ويوم الأحزاب يوم معركة الخندق مارس رسول الله (ص) الشورى السياسية بأجلى صورها.. فقد كان رأي رسول الله (ص) أن يتفق مع بعض قادة الجيش المعادي بإعطائهم ثلث ثمار المدينة في ذلك العام على أن ينسحبوا من جبهة القتال، لتخفيف الضغط العسكري الموجه على المدينة، وقد تفاهم مع إثنين من قادة قبيلة غطفان، المرابطة قرب المدينة فوافقا على ذلك.. ولم يكن رسول الله (ص) وهو الرسول والقائد والحاكم ليستبد برأيه، بل شاور أصحابه في ذلك فحبذوا عدم اعطاء أي شيء من ثمار المدينة، وترك الأمور تجري على وضعها العسكري القائم، فاستجاب رسول الله (ص) لرأيهم، وترك رأيه..

نقل ابن الأثير لنا تقريراً بتلك الحادثة، فقال: ".. فلمّا اشتد البلاء بعث رسول الله (ص) إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف الري، قائدي غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله (ص) فأجابا إلى ذلك، فاستشار رسول الله (ص) سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقلا: يا رسول الله (ص) شيء تحب أن تصنعه، أم شيء أمرك الله به، أو شيء تصنعه لنا؟ قال: بل [لكم] رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم، فقال سعد بن معاذ: قد كنّا نحن معهم في الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة إلّا قِرىً أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام نعطيهم أموالنا؟ ما نعطيهم إلّا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فترك ذلك رسول الله (ص)"[2].

ثمّ بدأت المعركة وهزمت الأحزاب المجتمعة على حرب رسول الله (ص) بعد أن قتل الإمام علي بن أبي طالب (ع) أبرز أبطالهم عمرو ابن عبد ود..

من خلال تلك المواقف والسيرة العملية للرسول (ص) يتجسد مبدأ الشورى في الإسلام، والتنازل عن رأي القائد لرأي الآخرين.. إنّه الدرس والعبرة والمنهج السياسي والاجتماعي الذي أراده القرآن والرسول (ص) أن يكون مبدأً دستورياً، ومنهجاً عملياً للحياة، يلتزم بها الحاكم والأُمّة على حد سواء من خلال الاستشارة الفردية، أو المؤسسات والأجهزة الخاصة للشورى والاستشارة، أو استطلاع رأي الأُمّة في المجالات التي ينبغي أن يؤخذ فيها رأي الأُمّة.►

 


[1]- تاريخ اليعقوبي، ج2، ص47.

[2]- الكامل في التاريخ، ج2، ص180-181.

ارسال التعليق

Top