• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصبر في القرآن الكريم

أسرة البلاغ

الصبر في القرآن الكريم

الصبر من الفضائل الخلقية، وهو النفحة الروحية التي يعتصم بها المؤمن فتخفف من بأسائه وتدخل إلى قلبه السكينة والاطمئنان، وتكون بلسماً لجراحاته التي يتألم منها. "فالصابر يتلقى المكاره بالقبول ويراها من عند الله، وعند التأمل نرى العناية الإلهية تسوق إلينا الشدائد لحكمة عالية، والجاهل هو الذي يضجر ويحزن ويكتئب، أمّا العاقل فيتلمس وجوه الخير فيما يبتليه الله به من الشدائد".

ولولا الصبر لانهارت نفس الإنسان من البلايا التي تنزل عليه، ولأصبح عاجزاً عن السير في ركب الحياة، وأصبح في حالة يكفر فيها بالقيم الأخلاقية فضلاً عن أنّه يصبح عنصر شرّ لا نفع منه.

ونستطيع أن نصف الصبر بحقّ انّه الفاصل بين الحياة الروحية والمادية، ولهذا عني القرآن بالصبر ومدحه ورفع منزلته وأثنى على المتحلين به ثناء لا مزيد عليه، وذكره حوالي سبعين مرّة، ولم تذكر فضيلة أخرى بهذا المقدار، وهذا يدل على عظم أمره لأنّه أساس كثير من الفضائل، بل هو أمها لأنّه يربي ملكات الخير في النفس، فما من فضيلة إلا وهي محتاجة إليه:

فالشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد.

والعفاف هو الصبر على الشهوات.

والحلم هو الصبر على المثيرات.

والكتمان هو الصبر على إذاعة الأسرار.

لهذا كلّه أحب الله الصابرين، وأعلن في القرآن أنّهم ينالون مزيداً من الفضل والرحمة في الدنيا والآخرة.

قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر/ 10).

(وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون) (النحل/ 96).

(وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) (الإنسان/ 12).

والصابرون زيادة على هذا مؤيدون بمعونة الله، قال الله تعالى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال/ 46)، ويخولهم الله إمامة الناس إلى ما يحبه ويرضاه، وهذا ما حكاه الله عن بني إسرائيل: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة/ 24).

ويخبر الله أنّ الصبر من الخصال العظيمة التي يجب أن يتصف بها المؤمنون: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (آل عمران/ 186). أي انّ الصبر والتقوى من صواب التدبير الذي ينبغي أن يعزمه كلّ أحد. ومدح الله نبيه أيوب لاتصافه بالصبر بقوله:

(إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ) (ص/ 44).

والصبر الذي دعا إليه القرآن هو ملكة الثبات والاحتمال التي تهون على صاحبها ما يلاقيه في سبيل تأييد الحقّ، وإزالة الباطل، أو احتمال أذى النّاس، وما يلاقيه من مصاعب كالفقر والمرض وفقد عزيز.

دعا القرآن إلى الصبر في موطن الجهاد في سبيل الله فقال سبحانه:

(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 249).

ودعا إليه في موطن تحمل أذى النّاس: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل/ 126).

ودعا إليه في مواطن المثابرة على العبادة: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) (مريم/ 65). (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (طه/ 132).

ودعا إليه في مواطن البلاء الذي يمتحن الله به عباده: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمّد/ 31).

وعدد الله أنواع البلاء بقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 155-157).

في هذه الآيات يذكر الله الصابرين بأنّهم يفوزون بثلاث مزايا لا تتوفر لغيرهم وهي، أوّلاً: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي غفران الله لهم والثناء الحسن عليهم وتشريفه إياهم في الدنيا والآخرة. ثانياً: (ورحمة) وهي ما يكون لهم في نفس المصيبة من لطف الله وإحسانه. ثالثاً: (وأولئك هم المهتدون) أي إلى الحقّ والصواب فيما ينبغي عمله في أوقات الشدائد والمصائب، فلا يستحوذ الجزع على نفوسهم ولا يذهب البلاء بالأمل من قلوبهم.

هذا هو الصبر الذي ذكره القرآن، فيه العزاء للقلوب المكلومة، وفيه الشفاء للنفوس الحزينة، والنجاح في هذه الحياة، انّه من الصفات الروحية التي تجلب كثيراً من الخير للمعذبين الذين يتلمسون الخلاص مما هم فيه.

ارسال التعليق

Top