مفهوم (العزّة) من المفاهيم القرآنية التي اهتم بها الإسلام في القرآن، فلقد جعلها الله تعالى لنفسه (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) (فاطر/ 10). إنّ الله سبحانه وتعالى يتحدّث عن العزّة لذاته المقدّسة، كما يتحدّث عن العزّة لرسوله وللمؤمنين مما يوحي بأنّ هذا المفهوم أصيلٌ في معنى القيمة في أية ذات حتى الذات الإلهية التي تختزن العزّ كلّه من حيث أنّها تختزن القوة كلّها، لأنّ قضية أن تكون عزيزاً هي قضية أن لا ينفذ الضعف إليك، لأنّ الذل إلى الإنسان من خلال الضعف الذي يستغلّه القوي ليسقط ذاته أو يحطِّم موقعه. أمّا عندما يكون الوجود كلّه قوّة، لا ضعف فيه ولو بأصغر نسبة، فإنّ من الطبيعي أن تكون العزّة له. فلقد تحدّث الله عن نفسه بقوله تعالى: (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (البقرة/ 165)، لأنّ كلّ قوي يستمد قوته منه، ومن خلال ذلك فإنّ كلّ عزيز يستمدَّ عزّته منه، من خلال هذه القوة الموهوبة له. في قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 26)، فالعزة منه والذلة منه لأنّ القوة منه والضعف منه، ولأنّه الخالق لذلك كلّه، وعلى ضوء هذا أراد الله لرسوله أن يأخذ بالعزة فلا يضعف أمام أي مخلوق، وأما أي موقع، ليبقى عزيزاً قوياً أمام الإغراء فلا يذل نفسه من أجل إغراء يجتذبه فهو أكبر من الشهوة ومن اللّذة، وبذلك يكون أقوى من الأغراء، وهذا ما تمثّلناه في كلمة الرسول (ص) عندما جاءه عمه "أبو طالب" يعرض عليه ما عرضته قريش من الملك إن شاء ملكاً، ومن المال إن شاء مالاً، ومن الجاه إن شاء جاهاً، فقال له الكلمة الخالدة "يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك"، وهكذا رأيناه يصمد أمام التخويف فقد اندفع إليه كلّ أولئك العتاة من أهل (الطائف) هذا يشتمه وهذا يرميه بحجر، وذاك يدفعه حتى أخرجوه من الطائف واستند إلى شجرة هناك وقال كلمته الخالدة التي يخاطب الله فيها: "إن لم يكن بكَ عليَّ غضبٌ فلا أُبالي". ومن هنا، كان رسول الله (ص) القوي أمام التخويف، الذي لا يجد في نفسه أيّ ضعف لأنّ نفسه اختزنت القوة من الله سبحانه وتعالى، فلم يبقَ فيها شيء من الضعف، وانعكس ذلك عندما (أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة/ 40). وهكذا أراد الله للمؤمنين أن يكونوا الأعزاء (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/ 8). لأنّ الله أراد للمؤمنين أن يكونوا أقوياء: أمام الإغراء فلا يسقطون أمام لذة تعرض عليهم، أو شهوة تجتذبهم، أو مال يمكن أن يسقط إرادتهم، لا يسقطون أمام التخويف أيضاً، وهذا ما حدّثنا الله عنه في قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (آل عمران/ 173)، وسيهجمون عليكم، وسيقتلونكم وسيسقطونكم وسيصادرون كلّ شيء فيكم (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) لأنّهم عندما خوّفهم الناس بقوة الناس انفتحت عليهم قوة الله كمثل الشمس وبدأوا يقارنون بين قوة الناس المتناثرة في إنسان يملك بعض القوة ومعها الكثير من الضعف، ويتطلّعون إلى الله القوي الذي له القوة جميعاً، ويشعرون بأنّ هؤلاء الأقوياء استمدوا القوة من الله وهو القادر على أن يسلبهم قوتهم لأنّه الذي أعطاهم الحياة وهو القادر على أن يسلبهم الحياة، كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) (فاطر/ 15-17). إنّ هناك فرقاً بين أن (تخاف) وبين أن (تحذر) فالخوف يسقطك والحذر يفتح عينيك على ما في الدرب وعلى ما حولك ومن حولك. لذلك أن تكون مؤمناً يساوي أن تكون عزيزاً. ختاماً، فكونوا الأعزاء في عقولكم، حتى يكون عقلكم عقلاً عزيزاً لا يسقط، وكونوا الأعزاء في قلوبكم، حتى تكون قلوبكم عزيزة لا تستعبد، وكونوا الأعزاء في واقعكم حتى يكون واقعكم حياً صلباً لا مجال فيه للضعف، فإذا جاءكم الضعف فحاولوا أن تستعيذوا بالله حتى تستمدوا القوة منه في كلّ مواقفكم وفي كلّ مواقعكم، فهو الذي يعطيكم العزّة والغنى والرفعة ولن يفعل ذلك غيره، كما قال الإمام زين العابدين (ع): "فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العزّ من غيرك فذلّوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتّضعوا". وهكذا جاء في الحديث: "من أراد عزّاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق