العفو من الصفات الحميدة التي يتحلى بها الإنسان لأنّها لا تصدر إلّا من نفس كبيرة راجحة العقل صبرت على اعتداء الغير وأذاه، فمن أعظم الكمالات الإنسانية والفضائل الأخلاقية أن يتجاوز الإنسان عن الأشخاص الذين أساؤوا إليه. فصفة العفو من الصفات الجمالية للحقّ تعالى والاتّصاف بها تشبُّهٌ بالحقّ عزّوجلّ.
الإسلام أكّد كثيراً على هذه الفضيلة، لأنّها سببٌ رئيسيّ في بناء الفرد المعنوي وتكامله الإيماني، وعاملٌ رئيسي في استقرار المجتمع وثباته، وركنٌ من أركان الإصلاح وحُسن التعايش بين الناس، وذهاب الضغينة والحقد فيما بينهم، قال تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة/ 237).
وقال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النُّور/ 22)، وكما قال رسول الله (ص): «تعافوا تسقط الضغائن بينكم». لذا، صار تاج المكارم كما قال أمير المؤمنين عليّ (ع): «العفو تاج المكارم»، لأنّ جذور الصفح والعفو إنما ترتوي من ترك حبّ الدنيا والنفس، كما إنّ جذور الانتقام والغضب ترتوي من حبّ الدنيا والنفس والتعلُّق بالشهوات والمآرب الدنيوية، التي هي أُسس كلّ المفاسد والشرور.
إنّ العفو عند المقدرة أعظم منة يمنُّ بها صاحب القدرة على المعفو عنه، فصنع الجميل، والخلق الطيّب، والتخلّق بالأخلاق الفاضلة كلّ هذه الأمور وما شاكلها تجعل من الإنسان إنساناً كاملاً حاز رضا الله سبحانه، وشكر عباده ومحبّتهم. يقول رسول الله (ص): «إنّ العفو لا يزيد العبد إلّا عزّاً فاعفوا يعزّكم الله، والصدقة لا تزيد المال إلّا كثرة فتصدّقوا يرحمكم الله».
وقال (ص): «ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة: العفو عمن ظلمك، وتصل مَن قطعك، والإحسان إلى مَن أساء إليك، وإعطاء مَن حرمك». وعنه (ص) أنّه قال: «مَن عفا عن مظلمة صغيرة أو كبيرة فاجره على الله ومَن كان أجره على الله فهو من المقرّبين يوم القيامة». وعن الإمام الباقر (ع)، قال: «الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة على العقوبة». وعن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: «إذا قدرت على عدوّك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه».
إنّنا كثيراً ما نخطئ فنفتقر إلى العفو والغفران، وإن لم نغفر لمن أساء إلينا فلا يُغفر لنا، وإن أردنا الانتقام من المعتدي فلننتقم بالإحسان إليه، لأنّ مقابلة الإساءة بالإحسان تنزع من المعتدي البغضاء وتتركه مندهشاً فيرتد غالباً عن غيه وتنقلب بغضاؤه إلى مودّة. ولهذا مدح الله العفو في كثير من المواضع في القرآن كقوله: (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التغابن/ 14). ووصف الله المؤمنين الصادقين بقوله: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) (الرعد/ 22)، أي يدفعون بالعمل الصالح السيء من الأعمال.
إنّ من الأسباب التي تدعونا إلى العفو والتسامح، هو إنّ كلّ إنسان مُعرض للخطأ، وأنّنا يمكن أن نقع في ذلك الخطأ مع أحد فننظر إلى أعظم ما نتوقعه منه وأطيبه وأكرمه، ألا وهو العفو والمسامحة، فكما نحبّ أن يعاملنا غيرنا بالعفو إذا أخطأنا فكذلك ينبغي أن نتخلّق بهذا الخلق مع مَن أخطأ في حقّنا، فقد ورد عامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك به.
العفو الجميل والممدوح هو العفو مع القدرة، أي حينما يكون بمقدور الإنسان أن يأخذ حقّه من المعتدي بحيث كانت الظروف ملائمة والشروط متوفرة لكنّه آثر أن يعفو عنه رجاء عفو الله عنه ورغبةً في ثوابه والنجاة من عقابه. وقد حثّت الروايات عليه كثيراً، حيث رُوي عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: «أحسن العفو ما كان عن قدرة»، وقال (ع) أيضاً: «العفو مع القدرة جُنّة من عذاب الله سبحانه».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق