إنّ حمد الله تعالى في كلّ الحالات التي يمرّ بها الإنسان، تعبِّر تعبيراً صادقاً عن عمق ارتباطه بالله، وإيمانه به إيماناً مرتكزاً في وجدانه وعقله، لا تهزّه الضغوطات، ولا تسقطه التحدّيات، حتى عندما يُحرَم الإنسان بعض الأشياء في دنياه، فلعلّةٍ وحكمة لا يعلمها إلّا الله تعالى، ويبقى على الإنسان أن يصبر ولا ييأس ويُصاب بالإحباط، بل أن يتوقّع حصول الفرج في كلّ آن، فالله تعالى كريم على عباده، لطيف بهم.
والدُّنيا، شئنا أم أبينا، هي دار ممرّ وعبور للآخرة، وهي فانية لا تبقى لأحد، ويظلّ الاعتبار منها هو سيِّد الموقف.. لذا علينا التعامل مع هذه الدُّنيا على هذا الأساس، وأن نعيد حساباتنا، ونفكِّر فيما نحن عليه من أوضاع وعلاقات، فننظر هل نحن منسجمون مع حدود الله تعالى فيما نقول ونفكِّر ونتصرَّف؟
فإذا كنّا منحرفين عن خطّ الله، ومستغرقين في دنيانا الفانية، فما علينا سوى التوبة النصوح، والعودة الواعية إلى الله تعالى عن قصدٍ وقناعة واختيار ووعي وفهم، إحساساً منّا بعظيم المسؤولية الملقاة على عواتقنا، وبأنّ ما ينتظرنا في عاجلتنا وآخرتنا هو حساب الله تعالى العادل، وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فماذا أعددنا ليوم الارتحال عن الدُّنيا؟
عندما يريد المرء أن يسافر إلى بلدٍ معيّن، تراه يعدّ العدَّة لذلك، فيتزوَّد بخير الطعام وأفضل الثياب، ويأخذ معه كلّ ما يشتهيه، وهو يعلم أنّه سيعود بعد فترة إلى بلده، فكيف إذا كان الارتحال إلى دار الآخرة والمقرّ والإقامة، حيث عيشٌ مقيم لا عودة فيه إلى دار الدُّنيا، فهل نحضِّر له خير الزّاد؟!
فخير ما يمكن لنا تزوّده من دنيانا، هو العمل الصالح المستند إلى تقوى متجذّرة في النفوس، هذه التقوى التي يجب أن نشتغل عليها ليل نهار، كي تصبح مَلَكة من صميم تكوين شخصيتنا، تدفعنا إلى إعادة تصويب ما نحن فيه، وكي نُحسن قراءتنا للأُمور والتعامل معها بالشكل السليم.
والفائز في الدُّنيا هو الذي تزوَّد منها للآخرة، ولم تأسره مظاهرها الزائفة، بل أخذ من عيشه ما يحتاجه من الضروريات التي تجعله قادراً على الاستمرارية في خطّ الهداية وخدمة الناس والحياة من حوله.. ويبقى أنّ الدُّنيا كما هي بمظاهرها وزينتها تعتبر مرتعاً للشيطان، فإنّها في الوقت عينه مرتع للإيمان والصِّدق والتقوى، ومساحة لفعل الخيرات ونشر الفضائل، ودار عافية لمن أراد التزام خطّ الله وسبيله القويم، ودار غنى يبني من خلالها الإنسان أخلاقياته ومَلَكاته النفسية والشعورية العالية التي من خلالها يُقبل على الله وهو في غاية العزّة والكرامة.
وحول ما تقدَّم، يقول سيِّدنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع): «الحمد لله غير مقنوطٍ من رحمته، ولا مخلوّ من نعمته، ولا مأيوسٍ من مغفرته، ولا مستنكفٍ عن عبادته، الذي لا تبرحُ منه رحمةٌ، ولا تُفقد له نعمةٌ، والدُّنيا دارٌ مُنِيَ لها الفناء، ولأهلها منها الجلاء، وهي حلوةٌ خضراء، وقد عجلت للطالب، والتبست بقلب الناظر، فارتحِلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزّاد، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف، ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ».
فما أفضل أن يرتحل المرء من الدُّنيا، وهو خفيفٌ من الذنوب، ثقيلٌ بما قدَّمت يداه من الحسنات، وسعت في فعل الخيرات، وما واظبت عليه من حُسن الخلق والورع والخشية، والتقوى التي تُورث السعادة في الدَّارين.
واليوم علينا مسؤولية كبيرة تجاه أجيالنا المشدودة إلى كثير من المظاهر المادّية، وما أكثرها! من خلال توعيتهم وتربيتهم وتحصين مناعتهم الروحية والأخلاقية، لأنّ الواقع يضجّ بالمغريات، ويحتاج إلى أجيال واعية، تمتلك بناءً روحياً وأخلاقياً يؤهّلها للوقوف في وجه التحدّيات، والثبات على الصراط المستقيم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
يعقوب يعقوب
تخففوا تلحقوا
رموز محمد
الرحيل للاخرة يستوجب خفة الروح من أثقال الدنيا وشهواتها وزينتها الفانية من عرف ما قصد هان عليه ماوجد