أوّلاً: الصلاة رياضة روحية للفرد، فلا تقر عينه ولا ينشرح له فؤاد وهو يشبع الجسد دون الروح، والحضارة المادية الحديثة ذلك للجسد كلّ شيء، ووفرت له أسباب الراحة والمتعة والزينة، ولكنها خلّفت وراءها قوماً ضيقي الصدور، عليلي النفوس، أفئدتهم هواء، هاجت أرواحهم؛ وضاقت عليهم أنفسهم بسبب هذا الاختلال بين إشباع الجسد وإهمال الروح، ولذا انتشرت الأمراض العصبية والعقد النفسية، فاندفع الكثير إلى الانتحار الفردي والجماعي وبقى مَن عاش بلا قلب ولا هدف ولا معنى، لكن الصلاة تجعل للمسلم قلباً مطمئناً، وروحاً ذكية، ونفساً سوية، تمسح الصلاة على علل النفوس فتبرأ بفضل الله تعالى.
ثانياً: إذا حافظ المسلم على صلواته تعلق قلبه بالوقوف بين يدي ربه، وتصير الصلاة له ملاذاً حقيقياً تجعله يقيم الفرائض ويديم على النوافل، ويظل خشوعه وقنوته وتذوقه لحلاوة الإيمان، حتى يتحول حب القنوت والقيام في الليل، وهو نافلة إلى قوة دافعة إلى تجافي المضاجع، وكراهية للغفلة عن التهجد بالليل وهي أرقى صورة لحياة القلب، وصفاء الروح، وفيها يقول سبحانه: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة/ 16-17)، ومن هذا المحراب في الصلاة تطيب النفس، وتستجلب سعادة الدنيا ونعيم الآخرة.
ثالثاً: تحفظ الصلاة النفس من التشتت، والقلب من التمزق بين نوازع الأرض وقيم السماء، فهو يخلص في الصلاة نيته، ويحدد في دعاء الافتتاح وجهته بقوله: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين. فإذا ركع ذكر من دعاء النبي (ص): "اللّهمّ لك ركعتُ وبك آمنتُ ولك أسلمتُ، خَشَعَ لك سمعي وبصري ومخي وعظمي ودمي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين"، وإذا سجد كان دعاؤه "سجد وجهي للذي خلقه وصوّره وشقّ فيه سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين". هذه كلمات لو تفاعل بها القلب، وانشغل بها العقل لكانت أجمع شيء للنفس من الأهواء والفتن التي تعتري القلوب فيصير صاحبها كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أهداف سفلية، ومآرب أرضية، إن وصلَ إلى بعضها فقد جنى السراب، وإن فاته حظ منها فهو في ضيق واضطراب، وذلك هو التمزق النفسي وفيه يقول سبحانه: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال/ 24)، وهي تحكى واقعاً مراً لملايين البشر ولن تجمع نفوسهم إلّا الصلاة بين يدي ربهم سبحانه.
رابعاً: تتحول الصلاة بعد تذوق معانيها، ومعايشة آثارها إلى منهج حياة فمن حزبه أمر صلى، ومن احتار في قضية حسمها بصلاة الاستخارة ليمضي واثق اليقين من حسن اختيار الله له، ومن اشتد به كربٌ هرع إلى صلاة الحاجة.
الصلاة إذن مطهرة للقلب، تضمن إعادة الفطرة إلى نقائها، والنفس إلى صفائها، فإن أصابها كدر المعصية، أو ثقل الهموم، أو حيرة التردد كانت الصلاة هي المقوم لهذا الإعوجاج، والمصلح لهذا الفساد.
هذه القوة الخفية للصلاة دفعت بالطبيب الدكتور: "الكسيس كاريل" إلى أن يقول: لعل الصلاة هي أعظم طاقة مولدة لنشاط عرفت إلى يومنا هذا، وقد رأيت بوصفي طبيباً كثيراً من المرضى فشلت العقاقير في علاجهم، فلمّا رفع الطب يديه عجزاً وتسليماً، تدخلت الصلاة فأبرأتهم من عللهم، إنّ الصلاة كمعدن "الراديوم" مصدر الإشعاع، ومولد ذاتي للنشاط، وبالصلاة يسعى الناس إلى استزادة نشاطهم المحدود، حين يخاطبون القوّة التي لا يفنى نشاطها، إننا نربط أنفسنا حين نصلي بالقوة العظمى التي تهيمن على الكون، نسألها ضارعين أن تمنحنا قبساً منها نستعين به على معاناة الحياة، بل إنّ الضراعة وحدها كفيلة بأن تزيد قوتنا ونشاطنا، ولن نجد أحداً ضرع إلى الله مرّة إلا عادت عليه الضراعة بأحسن النتائج.►
المصدر: كتاب للعبادة أثر في الفرد روحياً وأخلاقياً وعقلياً وبدنياً
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق