• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

النجاح والفشل في الدبلوماسية

النجاح والفشل في الدبلوماسية

يوجد خلاف بسيط بشأن متطلبات النجاح في الدبلوماسية، وأنّ الأُمور الأساسية في فن الدبلوماسية كانت ولا تزال معروفة جيِّداً منذ قرون كما أنّ الممارسة الفعلية (لسادة دبلوماسية الماضي) تزوّدنا ببعض الخطوط العريضة والتوجيهات الواضحة، وإنّ اللائحة التالية هي محاولة للإقلال من الحجم الكبير لما كُتِب عن الدبلوماسية واختصاره إلى أربعة مبادئ رئيسة تمثّل، ثانية، النوع المثالي منها :

1- يجب أن يكون الدبلوماسي متفهماً بوضوح للوضع

وهكذا يجب على الدبلوماسي أن يملك حساسية إزاء القوى المنخرطة في العمل في مجال المشكلة، وأن يكون لديه وضوح في الأغراض الخاصّة، وتفهم للمضامين النهائية لسياسة بلده في ما يتعلق بالأغراض الواجب تحقيقها في المدى القريب، وكذلك فإنّ الدبلوماسي المتمرس سوف يحاول أن يكون لديه تفهم واضح لوجهات النظر، والاهتمامات، والأغراض المتعلقة بالدول الأخرى، لأنّه إذا لم توجد مثل هذه الخلفية لديه، فلن يكون قادراً على التفاوض على نحو فعّال .

2- يجب أن يكون الدبلوماسي واعياً تماماً للقدرة الحقيقية للدولة

إنّ هذا الوعي يتطلب من الدبلوماسي أن يقدّر حجم قدرة القسر الذي يكون النظام مستعداً فعلياً لممارستها، ومدى التأثير الذي يمكن للدولة أن تمارسه (تملكه) في وقت ما، وفي هذه الشروط، فإنّ الدبلوماسي المتمرس لن يحاول تجربة المبادرات التي تكون خارج قدرة الدولة، ولن يرضى بأقل من الاستثمار الكامل للموارد المتاحة والمعدّة لتحقيق أهداف الدولة .

3- يجب أن يكون أسلوب الدبلوماسي مرناً

أي يجب أن يكون الدبلوماسيون مستعدين للتطوّرات غير المرئية سابقاً، أو لمقاومة (نتائج) الخطأ التحليلي، بامتلاكهم بعض السياسات أو الأوضاع البديلة التي يمكن استخدامها أو الاعتماد عليها في حالات الطوارئ.

وتعتمد هذه الخاصّة على قدرة الدبلوماسي في التمييز بين المبدأ المجرد، والاهتمام أو المصلحة المحددة، وعلى قدرته في البقاء ملتزماً، بثبات، بهذه الأخيرة وبينما يكون مرناً أزاء الأولى .

4- يجب أن يكون الدبلوماسي مستعداً غالباً للتسوية المعتمدة على الحل الوسط في الأُمور غير الأساسية

فالدبلوماسي يحتاج إلى مجموعة واضحة من الأفضليات لأنّه لا يستطيع، إلّا بهذه الطريقة، أن يحدّد القضايا الخاضعة للمساومة والقضايا الغير خاضعة لذلك، والأفضليات تساعد الدبلوماسي في ابتكار الحلول الوسطية دون التخلي عن المسائل ذات الأهمية مقابل تنازلات أقل، ومن الناحية النظرية يجب على الدبلوماسي الجيِّد أن يرغب في التخلي عن الوضع ذي الأفضلية الأقل من أجل أن يضمن وضعاً آخر ذا أفضلية أكبر.

وفي أثناء الحرب الباردة، كانت الدبلوماسية غير فعّالة غالباً في الوصول إلى حلول للأزمات السياسية، وإنّ عدم كفايتها أو فعاليتها كانت من الوضوح بحيث رأى بعض النقّاد أنّنا نشهد نهاية الدبلوماسية التقليدية، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى العام 1985م تقريباً، شهدت المبادئ الأربعة التي لخصّناها عدداً من الانتهاكات يزيد على ما شهدته من حالات التقيّد بها، وغالباً ما كانت الأوضاع تحلل من المنظور الأيديولوجي والقومي، ونادراً جدّاً من المنظور الواقعي، كذلك فغالباً ما كان صعباً أو مستحيلاً الاعتراف بأنّ الخصم يملك وجهة نظر أيضاً، ناهيك بإعطائه ماسيتحقه من اعتبار، وغالباً أيضاً ما كان يُساء تفسير عوامل القدرة، ولاسيما في المجال العسكري، وبسبب الأيديولوجيا والقومية، فقلما توفّرت المرونة، وبالتالي كانت الحلول الوسط أو التسويات مستحيلة غالباً.

وفي هذه الظروف، لم تستطع الدبلوماسية أن تزدهر، وكلّ ما حدث غالباً هو أمّا محاولات القسر المفخية على نحو سيء، أو الدعاية غير المحددة الأهداف، أمّا النقاش الحقيقي، والإقناع الصادق، وضبط الأوضاع الذي ينتهي إلى اتفاق ما، فكانت كلّها ظواهر متقطعة عوضاً عن العمليات العادية في فن السياسة، وفضلاً عن ذلك، فإنّ التورط الشعبي العميق في السياسة الخارجية من خلال رفع الشعارات العاطفية، كان أمراً مألوفاً في الدول الكبرى والصغرى على السواء، وهو الذي أدّى إلى إعاقة جدية وخطرة لقوّة الدبلوماسية بحرمانها من المرونة اللازمة للمناورة .

ومع تراجع الحرب الباردة والإعلان عن نهايتها، انتعشت الدبلوماسية واكتسبت قوّتها ثانية بوصفها أداة فعّالة في ما تقوم به الدول من فعل، وبالتالي انعكس النموذج المثالي الذي كنّا قد أتينا على ذكره على نحو كامل في المفاوضات الفعلية، وبدأت تتقدم الأوضاع المطلقة على نحو نادر جدّاً، بينما أصبحت الحكومات المسؤولة والمتنامية الحكمة ترغب في التمتع بإمكانية تحقيق الحلول الجزئية، وأصبحت كلمة السر الراهنة في الكثير من مناطق العالم هي البراغماتية أو الذرائعية (أي الفلسفة التي تتخذ من النتائج العلمية مقياساً لتحديد قيمة الأفكار الفلسفية وصدقها-المترجم)، وإذا أصبح هذا الموقف هو الأكثر انتشاراً، فإنّ آفاق عمل الدبلوماسية في ضبط تأثيرها أصبحت أكثر تألقاً، وفي ضوء هذا الاتّجاه، لا يوجد سبب للاعتقاد بأنّ المستقبل لن يشهد اعتمادا أكبر على الدبلوماسية، وقد تحقّقت فعلاً نجاحات تستحق الذكر في مجالات متنوّعة، كالتخلص من الاستعمار، والسيطرة على الأسلحة والبيئة، وليس على المرء إلّا أن يدقّق الخطوط العريضة أو العناوين الرئيسة في صحيفة رئيسية كبيرة أو يشاهد أنباء التلفيزيون المصوّرة لكي يصبح قادراً على أن يقيس، وإن على الأقل سطحياً، الخطوات المسرّعة للنشاط الدبلوماسي المعاصر.

الكاتب: د. شارلز ليرغشي ود. عبدالعزيز سعيد/ ترجمة: نافع أيوب 

ارسال التعليق

Top