قال الله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً) (المؤمنون/ 115)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) (الأنبياء/ 16). الإسلام يعطي أهميّةً كبيرة للمبادئ الكريمة لتتغلغل في أعماق النفس لتستقر هذه التعاليم ولتصبح جزءاً من النفس الإنسانية.. فالإنسان لم يُخلق بدون معنى وفائدة، وإنّما خُلِق ليزرع الخير في كلّ مكان ويسعى دوماً لتنقية نفسه من شوائب الشرّ.
والإسلام يعتبر أنّ النفس الصالحة هي المقصود لكلّ إصلاح؛ إذ أنّ القاضي النزيه يكمل بعدله نقص القانون الذي يحكم به. أمّا القاضي الجائر فهو يستطيع الميل بالنصوص المستقيمة ويجنح بأهوائه؛ من هنا كان الإصلاح النفسي الدعامة الأُولى لتغليب الخير في هذه الحياة.. فإذا لم تصلح النفوس سادت الفتن حاضر الناس ومستقبلهم. لذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد/ 11)، ويقول تعالى معللاً أسباب هلاك الأُمم الفاسدة: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال/ 52-53).
إنّ في النفس فطرةً طيِّبة تهفو إلى الخير وتُسَرُّ بإدراكه، وتكره الشرّ وتحزن من ارتكابه، وترى في الحقّ امتداد وجودها وصحّة حياتها؛ ولكن هناك إلى جانب ذلك نزعاتٌ طائشة تشرد بها عن سواء السبيل وتزيّن لها فعل ما يعود عليها بالضرر.. هاتان النزعتان موجودتان في الإنسان تتنازعان أمره، ومصيره معلق بالنزعة التي يستسلم لها. قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10). وقد دفع الإسلام المسلم لأن يتخلّص من الوساوس التي ترادوه وتحاول السقوط به، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم/ 30)، غير أنّ كثيراً من الناس تثقل بهم أهواؤهم فتجنح بهم إلى مكان سحيق فيخسرون أنفُسهم ويخسرون حياتهم ومستقبلهم لأنّ مغريات الحياة كثيرة وجذابة.
وأوّل ما يلفت الإسلام نظر المرء إليه أنّ الجري مع الهوى والانصياع لوساوسه التي لا تنقضي لن يشبع النفس ولن يرضي الحقّ.. قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران/ 14)، ومن ثمّ حذّر القرآن من اتباع الأهواء المحرَّمة فيقول تعالى: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص/ 26).
إنّ حاجات النفس الإنسانية الحلال ليست سيِّئة، وقد لاحظ القرآن الكريم هذه الناحية فنصّ صراحةً على إباحة الرغائب السليمة للنفس، وترك لها فرصة التوسع الطيِّب، وعدّ التدخل بالحظر والتحريم والتضييق على النفس في هذه الدائرة الكريمة قريناً لعمل السوء والفحشاء. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 168-169).
أجل إن حظر الحلال الطيِّب قول على الله بلا علم وهو أخو السوء والفحشاء اللذان يأمر بهما الشيطان. فالإسلام يكره أن تعالج الغرائز بالكبت العنيف، ويشرع لها المنهاج الوسط بين الإفراط والتفريط. نعم، إنّ الإسلام يحترم الفطرة الخالصة، ويحذّر من الأهواء الجامحة الفاسدة ويقيم في وجهها السدود. والعبادات التي أمر بها الإسلام هي تدعيم للفطرة وترويض للهوى. ولن تبلغ هذه العبادات تمامها وتؤدِّي رسالتها إلّا إذا كانت كلّها روافد لتكوين الخُلُق العالي والمسلك المستقيم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق