• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ترويض العنف

زاهي وهبي

ترويض العنف
مرةً أخرى نكتب عن أهمية الآداب والفنون في حياة الناس. هذه المرة من زاوية مختلفة، هي دور الآداب والفنون في ترويض الوحش الكامن في الكائن البشري. كلّنا نعلَم أنّ أول جريمة قتل في التاريخ الإنساني ارتكبها قابيل في حق أخيه هابيل، ومُذَّاك يُواصل الإنسان قتل أخيه الإنسان، وإن تنوعت السُّبل والأدوات. في سورة البقرة من القرآن الكريم، يقول الملائكة لخالقهم حين يُخبرهم أنّه جاعلٌ في الأرض خليفةً: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (البقرة/ 30). وفي بعض تفاسير وشُروحات هذه الآية، أنّ الإنسان خُلق للإفساد وسفك الدماء، وإلا، ما هو مَرَدّ سؤال الملائكة عن ذلك قبل أن يُكوّنه بارِئه من طين وماء؟ الرد الأمثل على أصحاب هذا المذهَب، أنّه عزّ وجلّ، ما خَلَق فينا غريزة إلا وجعل ما يُقابلها، ليس تَرادُفاً بل تضادٌّ وترويضٌ لها، تاركاً لنا الخيار بين هذا وذاك، وبذاك يكون المرء مُسَيّراً مُخَيّراً في آنٍ. معظم النَّزْعَات الحيوانية في الإنسان، وهو حيوانٌ ناطق كما تعلمنا في المدارس، يمكن ترويضها وأنسَنَتها. لولا ذلك لبقي البشر على سيرتهم وصورتهم الأولى في الكهوف والأدغال. أول ما رسمه سكان الكهوف أدوات الصيد البدائية التي كانوا يستخدمونها لأجل إشباع بطونهم الفارغة. تطورَ الأمر مع الزمن وصارت المحفورات على جدران الكهوف إشارات ذات مدلول صوتي، لتغدُوا مع مرور الأيام لغة تَخاطُب وتَحاور بين البشر أنفسهم، ومن ثم صار الإنسان يرسم الحيوانات التي يراها أو يصطادها، ثمّ اكتشف النار والإيقاع والموسيقى والرقص والغناء وبقية الفنون والعلوم، التي جعلته كائناً مختلفاً عن بقية كائنات الأرض. الجانب الروحي والروحاني يكتسب أهمية بالغة في ترويض النفس البشرية ولجم اندفاعها، لأنّها أمّارة بالسوء. لكن، إلى هذا الجانب المهم، ثمّة عوامل أخرى أساسية وضرورية. فمن يُراقب المجتمعات التي تزدهر فيها الآداب والفنون، يُلاحظ بسهولة أن منسوب العنف فيها أقل بكثير من تلك التي تحرّم وتحجب وتمنع وتضيّق الخناق على الإبداع والمبدعين. صحيح أنّه لا تزال مجتمعاتنا غارقة في الأمية والفقر والحروب والأزمات. فمن يكترث الآن لتلك "الترهات"؟ لكنها أبداً ليست ترّهات، ولا يمكن أن نظل نتذرع بمشكلة لنتجاهل مشكلة أخرى. نعم، ينبغي أن يكون في رأس أولوياتنا محاربة الأمية والفقر والبطالة والطائفية وسواها من آفات قاتلة. لكن، لا بأس، بل لابدّ من إيلاء الآداب والفنون ما تستحقه من أهمية، خصوصاً لجهة مفعولها السحري في لَجْم نزعة العنف لدى الإنسان، فضلاً عن منافعها الأخرى الكثيرة. لا أخال طفلاً ينمو ويترعرع في عالم خالٍ من الموسيقى والشعر والرسم والغناء وبقية الفنون (طبعاً لا نتحدث هنا عن الفنون الاستهلاكية الهابطة والمبتذلة)، إلا إنساناً غير مكتمل. الفنون والآداب تُكمل النفس البشرية وتُهذبها وتجعلها أكثر قابلية للخير وأكثر جنوحاً للسلم والتسامح والحوار والاعتراف بالآخر. بمعنى آخر، تجعل الإنسان أكثر إدراكاً لإنسانيّته.

ارسال التعليق

Top