• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تعلم.. كيف تصبر

هادي المدرسي

تعلم.. كيف تصبر

◄ليست هنالك صفة أخلاقية إلّا والصبر جزء لا يتجزأ منها، لا معنى للأخلاق الفاضلة كالشجاعة والكرم وحُسن التعامل وغيرها، إلّا إذا كان صاحبها يستديم عليها، ويصبر على نتائجها.

الصبر منبعه في القلب، ونتيجته تكون في القلب أيضاً. فمَن يمتلك صفة الصبر فهو يمتلك قلباً أكثر سكينة، وطمأنينة..

فكلّما زاد صبر المرء كلّما زاد قبوله للأُمور، ومن ثمّ سعادته في الحياة.

فالحياة بدون الصبر تكون محبطة للغاية. ومَن قلَّ صبره قلَّ تقبّله لما هو عليه، ومَن زاد صبره أضاف بُعداً إضافياً من السكينة والرضا على نفسه، ومن ثمّ يُحسن تعامله مع نفسه ومع الناس.

والصبر من الصفات التي يمكن الحصول عليها وزيادتها، وذلك عن طريق الأُمور التالية:

أوّلاً: أن تفتح قلبك للزمن الذي تعيش وإن لم تكن راغباً له

إنّ علينا أن نعرف أنّ درجة السكينة القلبية تتوقف على مدى قدرتنا للعيش في الوقت الحاضر بصرف النظر عمّا حدث في الماضي البعيد، أو بالأمس القريب، وبصرف النظر عمّا يمكن أن يحدث لنا في الغد البعيد أو القريب أيضاً.

إنّ كثيراً من الناس يعيشون في حالة من القلق الدائم على أُمور لم تحدث لهم، أو أنّها حدثت لهم ولكنّهم لا يملكون القدرة على تغييرها.

وهكذا فإنّهم يجعلون حاضرهم تحت رحمة الماضي، أو المستقبل. ممّا يؤدّي بهم إلى الشعور باليأس، والقلق والإحباط والضيق.

وأمثال هؤلاء (يؤجّلون) شعورهم بالبهجة والسعادة، ليوم لا يأتي. أو أنّهم (يبيعون) هذا الشعور بيوم مضى ولن تكرر.

إنّ الذين ينتظرون يوماً أفضل من يومهم لا يسمحون لعقولهم بأن تعمل بما يضمن لهم عمل (الأفضل) في المستقبل، بل أنّهم سوف يكرّرون نفس الأعمال التي تسلب منهم الشعور بالبهجة والسعادة في أي وقت.

فالذين لا يعيشون في حاضرهم، يكرّرون دائماً الوسائل التي تؤدّي بهم إلى الشعور بالإحباط..

يقول أحدهم: "في حين ننشغل بعمل خطط أخرى، فإنّ أطفالنا ينامون وأحباؤنا يبتعدون عنّا ويموتون، كما يسوء مظهر أجسمامنا وكذلك فإنّ أحلامنا تنسل من بين أصابعنا. باختصار، فإنّنا نضيِّع حياتنا".

إنّ العديدين يعيشون وكأنّ الحياة تجربة لما سيحدث في المستقبل، ولكن ليس هذا حالنا، في واقع الأمر، ليس هناك ما يضمن حياة أي منّا في الغد. إنّ الوقت الحاضر هو الوقت الوحيد الذي نملكه والوقت الوحيد الذي نسيطر عليه، فعندما نركِّز على الوقت الحاضر، فإنّنا نلقى بالخوف خارج عقولنا. فالخوف هو القلق بشأن الأحداث التي قد تقع في المستقبل كالقلق بشأن أن لا نملك قدراً كافيا من المال أو الخوف من أنّه سيقع أبناؤنا في مشكلة صعبة، أو أنّنا سوف نعجز ونموت أو ما إلى ذلك.

ولكي نقاوم الخوف، فإنّ أفضل ما يمكن عمله هو أن نتعلّم كيف نعيد تركيزنا على الوقت الحاضر.

يقول مارك توين:

"لقد مررت ببعض الأُمور الصعاب في حياتي، ولقد حدث بعضها بالفعل، أي أنّ كثيراً ممّا مررت به لم يحدث" كما أنّ كثيراً ممّا حدث لك بالفعل قد انتهى ولن يعود، وقلقك بشأنه لا معنى له.

إنّك لا تستطيع أن تحمل ثلاثة هموم متراكمة في وقت واحد: هم الماضي، وهم الحاضر، وهم المستقبل. فلابدّ أن تختار منها واحداً؛ فهل تختارهم الماضي الذي ذهب ولن يعود؟ أم هم المستقبل الذي لم يأتِ بعد؟ إذن لم يبقَ سوى هم الحاضر.

إنّ الماضي والمستقبل لا وجود لهما إلّا عندما تفكّر فيهما، فهما من دنيا الآراء والأفكار، وليسا من الواقع والأحداث، فلماذا نُجِهد أنفُسنا في صنع الحسرات على الماضي، أو على المستقبل؟!.

يقول أحد الكتّاب: "إذا أردت أن تعيش سعيداً فعش يومك".

ويقول الشاعر:

    ما مضى فات والمؤمل غيب******ولك الساعة التي أنت فيها

    أتعرف ماذا يعني أن تحمل هم الماضي والمستقبل؟.

إنّه يعني بدل أن تحمل هم الدقيقة التي أنت فيها، فإنّك تحمل هم ساعة كاملة، وبدل أن تحمل هم يومك الذي تعيشه، فإنّك تحمل هم الشهر الذي مضى، والسنة القادمة.

فإذا كنت الآن تشعر بألم في ضرسك، تعمم الألم وكأنّك بدأت تشعر به منذ شهر وسوف تبقى تشعر به بعد شهر.. ممّا يزيد على أملك الشعور بالتحسر، واليأس..

فلا تنبش في الماضي لتستخرج منه مشاكل قد انتهت، ولا تفترض لمستقبلك مشاكل، ربّما لا تأتي.

أمّا آلام الحاضر فبدل أن تتوقع استمرارها في المستقبل فتصاب باليأس من شفائها، افترض زوالها، لأنّ كلّ شيء إلى الزوال، ولربّما يأتيك المستقبل بالخلاص منها.

لقد قال أحد الحكماء: "منتهى السعادة: أن لا تأسف على ما مضى لأنّه ليس لك فيه حيلة".

وفي الحقيقة فإنّه ليس في مقدور أحد أن يعيد الماضي، أو يقولب المستقبل. فالحاضر هو وحده مُلكنا، وهو إذ كذلك فليس لمدّة طويلة، ومتى جاوزناه فلن يعود مُلكنا مرّة ثانية، فلماذا نهتم بيومنا بعد أ يصبح ماضياً، حيث لا حيلة لنافية، وندع الاهتمام به وهو حاضر نملك كلّ التصرف فيه؟.

ثانياً: أن ننظر إلى الجانب المشرق من الحوادث

يقول البعض: كيف تطالبنا بأن نعيش في الوقت الحاضر، بينما الوقت الحاضر قد يكون مثيراً لليأس والإحباط والقلق؟.

ألا نجد أحياناً أنّنا على موعد هام، فإذا بنا نتعطّل في زحمة المرور ممّا قد يخسرنا الموعد وما يترتب على ذلك؟.

أليس مثل هذا الحاضر هو بحدِّ ذاته مثيراً للقلق واليأس والتوتر؟.

وأقول: إنّ المطلوب هو أن نعيش في الحاضر، مع الإصرار على أن ننظر إلى الجوانب المشرقة منه.

فإذا توقفت في زحمة السير، فلماذا تفكّر بالموعد الذي سوف تخسره، ولا تفكّر في الفرصة المتاحة أمامك لكي تفكّر مثلاً أُمورك بعيداً عن الانشغال بالآخرين.

ولماذا لا تقول: "ولعلّ الذي أبطا عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأُمور".

إنّني أؤلف الكُتُب، وأحياناً يأتي أحد أولادي الصغار ويقطع عليَّ سلسلة تفكيري، ولكنّني بدل أن أنظر إلى هذه المقاطعة باعتبارها (مزاحمة) أنظر إليها باعتبارها (استراحة) إجبارية عن العمل الجاد، والانشغال ببراءة الطفولة لفترة قصيرة بين الأعمال.

إنّ كثيراً من الحوادث التي تثير ضيقنا هي حوادث جميلة في حدِّ ذاتها، ولكنّ نظرتنا إليها يجعلها في نظرنا وكأنّها قبيحة.

ثالثاً: أن تتدرّب على الصبر

إنّ الصبر حتماً من الصفات الاكتسابية، وليس من المواهب التي لا دخل لإرادتنا فيها.

فمَن يريد أن يصبر، فهو يستطيع أن يفعل ذلك، ومَن لا يرغب في أن يصبر يقول: أنا لا أستطيع.

إنّ الصبر من صفات القلب التي يمكن زيادتها بدرجة كبيرة عن طريق الممارسة والتدريب، المتعمد، وتتمثَّل إحدى الطُّرق التي اكتشف أنّها تزيد من صبري في أن أجعل لنفسي فترات تدريب فعلية، أي فترات من الوقت وضعتها في عقلي للتدريب على فن الصبر، فالحياة ذاتها عبارة عن مدرسة يعتمد منهجها على الصبر.

إنّك تستطيع أن تبدأ بقدر ضئيل من الوقت كخمس دقائق مثلا للتدريب على الصبر، وهذا يكفي لإعطائك القدرة على الصبر مع مرور الوقت. ولتبدأ بأن تقول لنفسك: "حسناً.. في الخمس دقائق القادمة لن أسمح لأي شيء كان أن يضايقني وسوف أكون صبوراً"، إنّ ما ستكتشفه سيكون مدهشاً فعلاً. فعزمك على أن تكون صبوراً، وبخاصّة لو كان ذلك لبرهة قصيرة، سوف يقوي من قدرتك على الصبر. إنّ الصبر هو إحدى تلك الصفات الفريدة التي تسبِّب للإنسان النجاح. وبمجرد أن تنجز نجاحاً صغيراً خمس دقائق من الصبر سوف تبدأ في رؤية أنّك بالفعل تمتلك القدرة على الصبر، حتى لو كان ذلك لفترات أطول من الزمن.

يقول أحد المؤلفين: عندي أطفال صغار وهذا يمنحني العديد من الفرص للتدريب على فن الصبر، على سبيل المثال عندما تمطرني ابنتاي بوابل من الأسئلة، في الوقت الذي أنا مشغول فيه بإجراء مكالمة هاتفية هامة، أقول لنفسي: هناك فرصة عظيمة لأكون صبوراً. وللنصف ساعة القادمة سوف أتحلى بالصبر قدر المستطاع!.

إنّ ما أخبركم به هنا ينجح بالفعل، ولقد أتت ثماره في عائلتي فعندما أحتفظ برباطة جأشي، ولا أسمح لنفسي بالشعور بالضيق أو الانزعاج، فإنّ باستطاعتي بهدوء ولكن بحزم، أن أوجه سلوك طفلتي بدرجة أكبر فاعلية ممّا لو كنت ثائراً. إنّ مجرد توجيه عقلي كي يصبر، يسمح لي بأن أبقى منتبهاً للحظة الحاضرة ممّا لو كنت متضايقاً. وأفكّر في كلّ الأوقات التي حدث ذلك فيها وأشعر بأنّني شهيد ذلك. علاوة على ذلك فغالباً ما يكون شعوري بالصبر مُسرياً إلى الآخرين فهو ينتقل إلى طفلتي اللتين تقرران من تلقاء نفسيهما بأنّه من الممتع إزعاج أبيهما.

إنّ الشعور بالصبر يعطينا الفرصة الجيِّدة للاحتفاظ برؤيتنا الصائبة للأُمور، ويمكننا أن نتذكر حتى في غمار موقف عضال، بأنّ التحدي الذي نواجهه في اللحظة الحاضرة ليس بمسألة (حياة أو موت) ولكن مجرد عقبة طفيفة علينا أن نتعامل معها ونتجاوزها، وبدون الصبر، فإنّ نفس هذا الموقف يمكن أن يتحول إلى حالة طوارئ تامة بما تحتوي عليه من ضيق، وإحباط، ومشاعر مجروحة، وضغط دم مرتفع. إنّ الأمر لا يستحق بالفعل كلّ ذلك.

فسواء كنت تحتاج إلى التعامل مع الأطفال، أو رئيسك في العمل، أو شخص صعب وكنت لا ترغب في القلق بشأن (صغائر الأُمور)، فإنّ زيادة قدرتك على الصبر تعدك بداية رائعة لذلك.►

ارسال التعليق

Top