• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

رحلة إلى عالم السعادة

د. سمير يونس

رحلة إلى عالم السعادة
يلوم كثير من الناس ظروفهم، ويحاكمونها على ما هم فيه، ويُرجعون إليها سبب إخفاقهم وفشلهم، والحق أنّ هؤلاء اليائسين المُحبَطين لا عزيمة لهم، ولا همّة لديهم، فالناجحون السعداء في هذه الدنيا، أناس لم يستسلموا للظروف، بل بحثوا عن الظروف التي تهيئهم للنجاح، فإذا لم يجدوها صنعوها، ثمّ شحذوا الهمم، واستجمعوا العزائم، واستعانوا بالله، وحققوا أهدافهم وطموحاتهم، فسعدوا وأسعدوا غيرهم. إنّ الإنسان بطبيعته يبحث دائماً عن سعادته، فهي غايته التي يسعى إليها مع كل حركة وسكنة، له في هذه الحياة، ومن الناس من يدرك الطريق فيقتفيها، ويسير فيها مهتدياً بمعالمها، حتى يصل إلى السعادة، برغم قلة ما يمتلكه، ومحدودية أمواله، وضعف جاهه وسلطانه.. ومنهم من يضل الطريق إلى السعادة، فيتخبط في شُعَب من التعاسة والشقاء، ولا يجد لسعادته طريقاً. الناس كلهم يعيشون الحياة، غير أن كل واحد منهم يعيش حياته بطريقته، ويتفاعل مع الحياة ويراها بشكل يختلف عما يعيش غيره، ومن يعيشون سعداء لم يَسعدوا لأنهم نالوا كل ما يريدون، بل لأنّهم تعاملوا مع كل ما فيها بحكمة وفنّ، فعرفوا كيف يتذوقون حلاوتها، وخرجوا من بوتقة ذواتهم إلى فضاء واسع رحب، ففكروا في الآخرين، وعملوا على إسعادهم، فذاقوا السعادة كما أذاقوها غيرهم. قد يَشْقى الإنسانُ في مكان عمله، وقد يلقى أذى من رفاقه في العمل، فيقابل الإساءة بالإحسان: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/ 34)، وحتى إن لم يِجْن ثمرة إحسانه عاجلاً، فحتماً سيجنيها آجلاً، وإن لم يحصل عليها في دنياه، فهي باقية له مُدَّخرة في أخراه. ويستطيع هذا الإنسان ذاته أن يهيئ لنفسه بيئات سعادة أخرى، فقد ينسى أو يتناسي شقاءه في العمل، ويَدْخل بيته مبتسماً، يأنس بأبيه أو أمه، أو يأنس بزوجته وأولاده، ويستطيع بذلك أن يصنع لنفسه بيئة سعيدة، ويعيش لحظات سعيدة، يُسعد فيها غيره، ويسعد بهم، ويأنس إليهم، إنّه بذلك يتجاوز الأنا والذات، ويفكر في: هي، وهو، وهم، وهنّ، ونحن... فهل تمرست أخي القارئ – على الاهتمام بالآخرين، وهل حاولت إدخال السرور عليهم، وإشاعة البهجة في أجوائهم، وبث السعادة في قلوبهم، فتنسى بذلك تعاستك، وترتقي فوق ذاتك، فتُسعد الآخرين ويسعدونك؟ إنها دعوة لنخرج من ظلمات الذات والأنا إلى نور العطاء، فتمام السعادة أن نرى الآخرين سعداء، فكل منا يمتلك الكثير الذي إن أعْطَى أسعد الآخرين، إنك تستطيع أن تُسعد الآخرين عندما تمنحهم حبك، ومرحك، وكلماتك الطيبة، والاستماع لهم ولمشكلاتهم، والإسهام في حلها، والمساعدة في تخفيف آلامهم، وتضميد جراحهم، ومشاركتهم أفراحهم، ومواساتهم عند أتراحهم وأحزانهم، ومشاركتهم أحلامهم وإن كانت صغيرة.. إنك قادر على ذلك إن صدقت نيتك، وحسن توجهك.   - من أسباب السعادة: 1- الإيمان والارتباط بالله عزّ وجلّ، وتوطيد العلاقة به سبحانه: فالسعادة الحقيقية في طاعة الله سبحانه وتعالى، واجتناب نواهيه، فالمؤمن يتلقى النعمة بالشكر، ويستقبل البلاء بالصبر، فهو سعيد في أموره كلها، "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له". 2- التحلي بالقيم الأساسية العليا: ومن أهم هذه القيم: الإخلاص، والصدق، والحب، والتسامح، والأمانة... إلخ. 3- الرضا والتسليم: إنّ عقيدة الرضا وتسليم الأمر لله تعالى إذا رسخت في النفس، واستقرت في الضمير صارت البلية عطية، والمحنة منحة، وكل المضار أوسمة وجوائز ونياشين، فكل ما أصاب الإنسان من مرض أو موت عزيز أو خسارة مالية، إذا قال في نفسه بقلب راضٍ، وحال تنطق بأنّ الله قدر وما شاء فعل، وقد رضيت وأسلمت أمري لربي حبيبي وخالقي الآخذ المعطي.. فإن مثل هذا الإنسان سيجد السعادة لا محالة. 4- السلام الداخلي والراحة النفسية: إنّ النفس الطيِّبة تنشد السلام مع ربها، ثمّ مع نفسها، ومع الآخرين، والمؤمن محب للناس، فيحبه الناس، فيسعد مع نفسه ومع غيره، ولا يعاني خوفاً ولا اضطراب نفسية. 5- الثقة والأمل: فمن يحسن الثقة بنفسه، ويوقن أنّه قادر على تحقيق السعادة وإحراز النجاح سوف يعمل من أجل هذه الثقة وهذا اليقين، فقل لنفسك دائماً: أنا واثق بنفسي وقدراتي على إحراز النجاح وتحقيق السعادة، وتجنب دائماً الكلمات المحبطة المدمرة، كأن تقول: أنا غير قادر على النجاح، أنا فاشل، أنا متشائم، أنا مكتئب، أنا ضعيف... احذر من نقد الذات بصورة تصل بك إلى اليأس، وبشكل تُهين فيه نفسك بنفسك، واحذر أن تتأثر برأي الآخرين المثبطين فيك، الذين لهم آراء سلبية في شخصيتك. 6- الإحسان إلى الغير سعادة: ففي إحسانك لغيرك انشراح لصدرك، لأنّك عندما تسدي المعروف إلى الناس وتحسن معاملتهم بإخلاص واحتساب، فإنّ الله عزّ وجلّ يهون عليك بما ترجوه من خير، وتنتظر من ثواب وأجر: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَات اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء/ 114). إنّ أوّل المستفيدين من إسعاد الناس هم المتفضلون بهذا الإسعاد، لأنّهم يجنون ثمرته عاجلاً في نفوسهم وأخلاقهم وضمائرهم، فيجدون الانشراح والانبساط والهدوء والسكينة، فإذا أصابك همّ أو غم فامنح غيرك معروفاً، وأسْد لهم جميلاً، تجد الفرج والراحة والسعادة، فالمعروف كرسمه، والجميل كاسمه، والخير مطعمه.. أعط محروماً، وانصر مظلوماً، وأنقذ مكروباً، وأطعم جائعاً، وعد مريضاً، وأغث منكوباً، تجد السعادة تغمرك.. إن فعل الخير كالمسك، ينفع حامله، وبائعه، ومشتريه، وفوائد الخير النفسية عقاقير مباركة تصرف في صيدلية المحسنين، يصرفونه دون مقابل، لأنّهم يرجون به إرضاء ربهم: (وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) (الليل/ 19-21). 7- طرد الفراغ بالعمل: كنت – وما زلت – أسائل نفسي: لماذا أرى الدعاة والعلماء أسعد الناس برغم ما يعانونه من الابتلاء والمشقة؟! وأجبت عن هذا السؤال بأن أخطر حالات يعيشها إنسان اليوم أن يجد نفسه شاغراً دون عمل، إنه حينئذ كسيارة تنحدر مسرعة بلا سائق، تجنح يميناً تارة، ويساراً تارة أخرى، إن صاحب الفراغ يعاني همّاً وغمّاً وتوتراً وفزعاً، فالراحة غفلة، والفراغ لصٌّ محترفٌ، والإنسان فريسة الفراغ والغفلة، فاشغل نفسك بالأعمال المثمرة، انشغل بتحصيل علم، أو بأمور الدعوة، أو بأي عمل من أعمال الخير تَسْعَد، وتُسْعد. 8- الاهتمام بالحاضر واستشراف المستقبل: بنفس مطمئنة واثقة بالله، تجنب الحزن والندم على الماضي والخوف من المستقبل، واحرص على ما ينفع، واستعن بالله، فمن هدي النبي (ص) في ذلك: "أحرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان". إنّ تذكرك لمآسي الماضي وآلامه، واستحضارك لجراحه وأحزانه، يشكل احتراقاً نفسياً لك، وقتلاً لحياتك الحاضرة... إن ملف الماضي المؤلم عند العقلاء يُطْوى ولا يُرْوى، ويغلقون عليه أبداً في عالم النسيان، لأنّه مضى وانتهى، والبكاء عليه لا يعيده، والكدر لا يصلحه، ولا الغم يصلحه، فلا تَعِشْ كابوس الماضي.. لا تَعُدْ إلى ظلمة الماضي، فهل يُعقَل أن تَرُدَّ الطفل إلى بطن أمه، وتعيد الشمس إلى مطلعها، والدمعة إلى عين الباكي؟! إنك بتركيزك على آلام الماضي تحرق نفسك بنيرانه، وتطرح نفسك على أعتاب مأساوية مخيفة، كما أنّ القراءة في سجلات الماضي ضياع للحاضر، وتمزيق للجهد، واضطراب للراهن، فلا طائل من تشريح جثة الماضي، فعقارب الساعة تسير إلى الأمام، ولا تعود أبداً للماضي، والريح تتجه إلى الأمام، والماء ينحدر إلى الأمام أيضاً، والقافلة تسير إلى الأمام، والمنتصرون يسيرون ويمضون إلى الأمام، ولا يولون الأعداء أدبارهم، وتلك سُنة النصر، فلماذا نخالف سنن الله في الحياة؟! لا أقصد بنسيان الماضي أن ينسى الإنسان أصله وتاريخه، ولا أقصد أبداً أن ينسى الإنسان ذنوبه فلا يستغفر ربه، ولا أقصد أن يتجنب الإنسان استفادته من ماضيه، وإنما أقصد السلوك السلبي لهؤلاء الذين اعتادوا أن يُنكدوا على أنفسهم، ويكدروا صفوها، فلا يذكرون نجاحاتهم، ويركزون أبصارهم وعقولهم وحواسهم ومشاعرهم على تجاربهم الفاشلة، لينتهوا إلى أن يقولوا لأنفسهم: لا فائدة فينا، ولا يمكن أبداً أن ننجح، فقد كتب علينا الفشل، وقُدِّر لنا أن نعيش تُعساء، وحيل بيننا وبين السعادة. 9- لا تنتظر شكراً من أحد: كثير من الأخيار يمتنع عن أعمال البر والخير، لأنّه لم يجد شكراً ممن أحسن إليهم، ولا أنكر أن كثيراً ممن نحسن إليهم لا يقدروننا، بل يقابلون الإحسان بإساءات، ويبرزون جحودهم للمعروف بدلاً من اعترافهم بالجميل وشكر أصحابه، وهذا صنيع عجيب ورد فعل مريب؟ ولكن ينبغي لصنّاع الخير أن يعلموا أنّ الله عزّ وجلّ خلق العباد ليعبدوه (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، ورزق الله الخلق ليذكروه ويشكروه، وبرغم أنّه خالقهم ورازقهم فقد أعرض كثير من الخلق عن عبادة الخالق الرزاق، وعبدوا غيره، ومع ذلك فهو يرزقهم، لأنّ طبيعة الجحود والنكران والجفاء وكفران النعم غالبة على النفوس، كما أنّ الحكم والعطاء والكرم من صفات الله تعالى. فإذا صنعت جميلاً بأحد الخلق، ووجدت منهم جحوداً ونكراناً لهذا الجميل.. فلا تُصْدَم بنسيانهم معروفك، وحرقهم لإحسانك، جحودهم لعطائك، فلَسْتَ بأعظمَ من الله، وليس عطاؤك لهم كعطاء الله للخلق.. حاشا لله، لا مقارنة أصلاً، بل تَوَقَّعْ ممن تصْنَع بهم معروفاً ألا يجحدوا المعروف فحسب، بل ربّما ناصبوك العداء، ورموك بقاذفات الحقد الدفين، واقرأ كتاب الحياة ومواقفها، فستجد ابناً ربّاه أبوه، وغذّاه، وكساه، وأطعمه، وسقاه، وأدَّبه ورعاه، وعلّمه وهذّبه، وسهر لينام، وجاع ليشبع، وتعب ليرتاح، فلما كبر وقوي ساعده عقّ أباه، وازدراه وآذاه، فاصنع الخير لوجه الله، حتى وإن وجدت نكراناً وجحوداً وكفراناً بالمعروف والإحسان، (فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (يوسف/ 69)، وليكن شعارك النابع من سويداء قلبك قول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) (الإنسان/ 9). 10- تفكر واشكر: إذا أحاط بك الهمُّ والغمُّ، أو حَلَّت بك مصيبة، أو إصابك ابتلاء، فإن من أعظم ما ينسيك الهمّ، ويزيح عنك الغمّ، ويصبِّرك على مصيبتك، أو ابتلائك، ويعيد إليك الانشراح والسعادة. أن تتذكّر نِعَم الله عليك، فإذا هي تغمرك من فوقك ومن تحت قدميك: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم/ 34)، صحة في بدن، أو أمناً في وطن، أو غذاء وكساء، وهواء وماء، لديك الدنيا وأنت لا تشعر، تملك الحياة وأنت لا تعلم، لديك عينان، ولسان وشفتان، ويدان ورجلان. ألا تشعر بنعمة الله وأنت تعتمد على ساقيك ولدى غيرك قد قطعت السوق والأقدام؟! ألا تنام ملء عينيك وغيرك لا ينام من شدة الألم، أو من ازدحام الهموم؟! ألا تحس بآلاء الرحمن عليك وأنت تأكل وتشرب وغيرك لا يستطيع لفاقته أو مرضه؟! ألا تشعر بفضل الله عليك وأنت تسمع وغيرك مصاب بالصمم؟! ألا تشعر بنعمة الله عليك وأنت ترى وتبصر وغيرك مكفوف أعمى؟! ألا تشعر بنعمة العقل عندما ترى مجنوناً ذهب عقله وأنت حاضر العقل؟! ألا تشعر بفضل الله وإنعامه عليك بالبيت والأهل والعمل والولد والأقارب والأصدقاء وغيرك قد حُرِمَ هذا كله.

أليس ذلك كله يجعلك سعيداً مهما أصابك من عناء وكدر؟!! إذن.. هيا بنا نتفكّر ونعمل، ونشكر لنسعد.

*أستاذ المناهج وأساليب التربية الإسلامية المساعد

ارسال التعليق

Top